بابكر فيصل:
تعتبر الآية الخامسة من سورة التوبة من أكثر الآيات إشكالية في فهم فلسفة الجهاد من منظور الشرع الإسلامي، وهي كذلك تعد الآية المؤسسة لمقولات العنف التي يتبناها ما بات يعرف بالتيار السلفي الجهادي الذي يقود حربا ضارية ضد النظم الحاكمة في العالمين العربي والإسلامي وكذلك ضد العالم الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية.
سأستعرض في هذا المقال ثلاث قراءات إسلامية لهذه الآية وللسياقات التاريخية التي وردت فيها. الآية المعنية والمعروفة بالسم "آية السيف" تقول: "فإذا انسلخ الشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخّلوا سبيلهم أن الله غفور رحيم".
القراءة الأولى هي القراءة التي يتبناها التيار السلفي الجهادي، وهي القراءة التي تستند إلى الفهم والتفسير الذي يقول إن عدم الإيمان بالله والإسلام له يعتبر بحد ذاته مبررا لإباحة قتل الإنسان حتى إذا لم يكن هذا الإنسان عدوا محاربا.
وتنبني هذه الرؤية على مقولات جل علماء الفقه والتفسير الذين يعتبرون أن آية السيف قد نسخت كل آية مخالفة، والنسخ هنا يعني أن تلك الآيات المخالفة قد "سقط حكمها وبقي رسمها" ولا ينبني عليها أي أثر تشريعي.
قد وردت هذه الآية في فصل منفرد من فصول أحد أخطر الوثائق المؤسسة لفكر التيار الجهادي في النصف الثاني من القرن الفائت، وهي وثيقة " الفريضة الغائبة" التي كتبها المهندس محمد عبد السلام فرج أمير جماعة الجهاد الإسلامي التي اغتالت الرئيس المصري الراحل أنور السادات.
يقول فرج في وثيقته "ولقد تكلم أغلب المفسرين في آية من آيات القرآن وسموها آية السيف، وهي قول الله سبحانه وتعالى: التوبة الآية 5: ’فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد‘، قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية: ’قال الضحاك بن مزاحم: إنها نسخت كل عهد بين النبي وبين أحد من المشركين وكل عقد وكل مدة وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت براءة‘. ويقول الحافظ محمد بن أحمد بن جزي الكلبي صاحب تفسير التسهيل لعلوم التنزيل: ونجد هنا ما جاء من نسخ مسألة الكفار والعفو عنهم والإعراض والصبر على أذاهم بالأمر بقتالهم ليغني ذلك عن تكراره في مواضعه فإنه وقع منه في القرآن مئة وأربع عشرة آية من أربع وخمسين سورة نسخ ذلك كله بقوله ’فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‘ و ’كتب عليكم القتال‘، وقال الحسين بن فضل فيها: آية السيف هذه نسخت كل آية في القرآن فيها ذكر للأعراض والصبر على آذى الأعداء، فالعجب ممن يستدل بالآيات المنسوخة على ترك القتال والجهاد".
على الرغم من اتفاق العديد من الفقهاء على قاعدة النسخ إلا أن هناك من خالفها مثل الفقيه ابن الجوزي الذي أنكر هذا النسخ في فهم آية السيف وقال ـ في كتابه نواسخ القرآن ـ عن الذين يقولون بالنسخ إنهم "من لا فهم لهم من ناقلي التفسير".
القراءة الثانية لآية السيف هي التي يقول بها الأستاذ المرحوم محمود محمد طه مؤسس الفكر الجمهوري في السودان، حيث قام بطرح ما يعرف بآيات الأصول وآيات الفروع. وهي قراءة متضمنة لشكل من أشكال النسخ الذي يختلف عن القراءة الأولي.
حيث يشير إلى أن الآيات المكية هي الأصل في القرآن وهي الآيات التي تدعو لحرية الاعتقاد والمساواة وعدم تخيير الناس بين الإسلام أو القتال، ومن أمثلة هذه الآيات قوله تعالى "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" و"فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر" و"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء".
بحسب هذه القراءة فإنه قد تواتر نزول الآيات المكية خلال ثلاث عشرة سنة وعندما رفضها أهل مكة ولم يستجيبوا للدعوة بالحسنى جاءت هجرة الرسول للمدينة حيث نزلت آيات الفروع وهي الآيات المدنية لتنسخ آيات الأصول وتحدث ثورة عنيفة استوجبت أعمال السيف والقتال، وكانت آية السيف من ضمن الآيات الفرعية التي جبَّت آيات الحرية والمساواة والاختيار.
يقول أصحاب هذه القراءة أن الزمن قد تغير تغيرا كبيرا مما توجب معه أن يحدث نسخا جديدا تعود بموجبه آيات الأصول (الآيات المكية) بوصفها قمة الدين لأنها تقوم على تقرير كرامة الإنسان، إلى الواجهة ويتم نسخ آيات الفروع (الآيات المدنية) لأنها آيات تنزلت في ظروف استثنائية لتتماشى مع مستوى الناس في ذلك الزمان، وفي هذا السياق يسقط التعامل بأحكام آية السيف.
على الرغم من محاولة هذه القراءة إضفاء البعد التاريخي في قراءة النصوص الدينية إلا أنها تعاني من خلل أساسي يتمثل في الانتقائية التي تمارسها في قراءة النص، فليست كل الآيات المدنية (آيات الفروع) تنادي بالعنف والقتال، والعكس كذلك صحيح مع الآيات المكية (آيات الاصول) التي لا تنادي كلها بحرية العقيدة والعفو والاختيار. ومن أمثلة الآيات المدنية التي تنادي بحرية الاختيار الآية 256 من سورة البقرة حيث يقول تعالى "لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي".
أما القراءة الثالثة فهي القراءة التي ترفض مبدأ النسخ، وتدعو إلى قراءة آية السيف في سياقها القرآني ضمن الآيات التي وردت قبلها وتلك التي جاءت بعدها. ومن أنصار هذه القراءة الباحث المصري الدكتور نهرو طنطاوى الذي يستنكر تسمية آية السيف بهذا الاسم ويعتبره من اختراع الفقهاء والمفسرين.
تدعو هذه القراءة إلى عدم اقتطاع هذه الآية من سياقها الذي وردت فيه فهي قد وردت في سياق من الآيات في أول سورة التوبة مكون من 15 آية، فقبلها أربع آيات وبعدها عشر آيات. ويخلص أصحاب هذه القراءة إلى أن فهم آية السيف في سياقها الداخلي لا يؤدى إلى النتيجة التي توصل اليها الفقهاء والمفسرين من أصحاب القراءة الأولى وهي أنها نزلت لقتال أهل الأرض جميعا كي يعتنقوا الإسلام.
فالآيات الخمسة عشر مليئة بالاستثناءات لبعض المشركين، وهي استثناءات وردت في الآيات الواردة قبل آية السيف والآيات الواردة بعدها ومنها قوله تعالى "إلا الذين عاهدتهم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم" وقوله "وإن أحدا من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه" وقوله "إلا الذين عاهدتهم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إنّ الله يحب المتقين".
القراءة الأخيرة تبدو أكثر تماسكا من القراءتين السابقتين إلا أنه يؤخذ عليها عدم الإشارة بوضوح إلى السياق التاريخي (بمعني القراءة التاريخية) وتركيزها علي السياق الداخلي للنص وهو الأمر الذي قد يدخل أصحاب هذه القراءة في العديد من المآزق في تفسير آيات أخرى من القرآن.