حسن منيمنة:
الرواية الذاتية الراسخة في الثقافة الأميركية تتباهى بالدور الإنقاذي للولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية، إذ انتشلت أوروبا من براثن نظام عنصري، وأعادت النصاب، في شطرها الغربي على الأقل، للحرية والمساواة وغيرها من القيم العالمية التي قامت عليها الولايات المتحدة ابتداءً.
المفارقة طبعا أن العديد من الجنود الأميركيين، من أصول أفريقية، والذين جاؤوا يومئذ لوضع هذه المبادئ موضع التنفيذ، كانوا أنفسهم يعانون من حرمانهم منها في بلادهم. يقاتلون في وحدات عسكرية تقتصر عليهم، ويغيّبون عن الرتب العليا في جيشهم، ثم يعودون إلى ديارهم ليتحملوا قساوة فصل عرقي يخصّهم دوما بما هو أدنى.
حتى نوافير المياه العامة والمراحيض، بعضها لهم، وهي المهملة المتواضعة المتسخة، وبعضها لمواطنيهم من "البيض"، وهي التي تلقى عناية السلطات المحلية. وكذلك النقل العام. اجلس أيها الأسود في الخلف، ودعّ المقاعد الأمامية لـ "البيض".
لم تقترب الولايات المتحدة من غسل عار الإساءات هذه إلا قبل زهاء نصف قرن، وإلا بشقّ الأنفس، بفعل انتفاضة أخلاقية قادها الأفارقة الأميركيون أنفسهم، بعد قرن كامل من النضال جعل الارتقاء التوجه الأهون للمجتمع الأميركي. إما روزا باركس ومارتن لوثر كينغ، والإقرار الطوعي بالحق المطموس، أو مالكولم أكس والفهود السود، وثمن قسري محتمل.
مرحلة الاسترقاق، بما صاحبها من مظالم وأهوال متراكمة، بدءا من الاختطاف من البلدات الأفريقية، مرورا بالعبور القاتل عبر المحيط، حيث الحشر والأوبئة والموت ورمي الجثث في البحار، ثم سوق النخاسة، على ما فيها من الإهانة والفحص والضرب والتعذيب، فحال الاستعباد في الحقول، مع ساعات العمل المنهك المتواصل والتي لا تنتهي وضرب السياط والعقاب الصارم لأقل اعتراض، والحرمان من حق الزواج والأبوة والأمومة بالاستيلاء على النساء، للاغتصاب، والأطفال، للبيع والتصريف، مرحلة الاسترقاق هذه، بعد مرور الأجيال، لم تعد في الذاكرة الحية المباشرة للأفارقة الأميركيين اليوم ولا لغيرهم، على أن تفاصيلها محفورة في وعيهم الجماعي هم، فيما هي تفصيل غابر وحسب في تاريخ مجيد بالنسبة لغيرهم.
الأميركيون لا يتلقون تاريخهم بحس موحّد، ولا يتفقون على قراءة مشتركة لأهم فصوله ورموزه.
رائع هو علم بيتسي روس، من زمن الاستقلال، في العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر. كان علم الولايات قد تدرج من الراية الحمراء التي يرصّع ربعها الأعلى العلم البريطاني، بصلبانه التي تشهد على الحق الإلهي بالملكية، زمن السلطان البريطاني، إلى الاستعاضة عن المساحة الحمراء بثلاثة عشر شريطا للتأكيد على خصوصية الولايات وحريتها إذ تحقق الاستقلال. ثم كان استبدال العلم البريطاني بدائرة من ثلاثة عشر نجما. هي الحرية الصريحة. السلطة علينا نحن، مصدرها نحن. علم يجسّد الثورة الأميركية، الرغبة بالاستقلال، وقيم الأنوار.
لا، لا حرية هنا. لسان حال الأفارقة الأميركين، بزمنها ضمنا واليوم صراحة. هو علم الاستعباد، علم الذل، علم امتهان الكرامة.
المساءلة لا تقتصر على الانفصاليين وعلمهم في الجنوب، هؤلاء الذين ساءهم أن يسعى الشمال، بعد أن سارع بتصريف مخزونه من الرق والعبيد، إلى التدخل بشؤونهم الداخلية وصولا إلى المطالبة بإلغاء الاسترقاق، بعد منتصف القرن التاسع عشر.
والمطالبة لا تتوقف عند الرغبة بإزالة نصب تخليد ذكرى من دافع عن "حرية" الولايات بالتصرف بعبيدها. المساءلة لا بد أن تشمل الآباء المؤسسين، بمن فيهم جورج واشنطن وتوماس جفرسون، رغم ما يحيط بهم من هالات التعظيم والتقديس، إذ استعبدوا واغتصبوا (بملك اليمين طبعا).
لمَ التعكير على الرواية الوطنية، وما جدوى نكئ هذه الجراح؟ لأنها ليست رواية وطنية، بل سردية فئوية تتجاهل جراح لم تندمل إلا من منظور من لم تصبه أساسا.
التجريح، المادي والمعنوي، بأفارقة الأميركية لم يتلاشَ بعد الإعتاق الذي حققته الحرب الأهلية قبل أكثر من قرن ونصف.
ما يبقى في الذاكرة للمتقدمين في السن منهم هو مرحلة "جيم كرو"، أي الفصل العرقي، وما تخللها من مهرجانات صيد للسود، إذ تلاحق الحشود شابا من شبابهم، لحجة واهية ما أو دون حجة لا فرق، وتقبض عليه وتشنقه بعد الضرب المبرح، قبل أن يلتقط المشاهدون صورا للجمع مع طريدتهم القتيلة المعلّقة على الشجرة. "أشجار الجنوب تثمر ثمارا غريبة"، على ما يقوله الشعر وتغنيه الأغنية الأفريقية الأميركية.
ثم يأتي التغيير، في ستينيات القرن الماضي، بعد طول نضال. ليجد الأحرار، أحفاد من لم ينل الاسترقاق من قامتهم الشاهقة، أنفسهم أسرى واقع جديد من التبعية لنظام تصحيح يراد به الخير، إنما يأتي ليعالج العوارض لا الأسباب، فيزيد الأحوال سوءا في أكثر من موضع.
"العمل الإيجابي"، أي السعي إلى إتاحة الفرص أمام الفئات العرقية التي حرمت منها في المراحل الماضية، وتحديدا الأفارقة الأميركيين، قد ساهم دون شك بفتح أبواب النجاح أمام طبقة وسطى أفريقية أميركية تمكنت من أن تزدهر وأن تنجز وأن تتقدم. على أن ذلك تزامن، بل حتما ترابط، مع إمعان في التبعية لدى أوساط أقل حظا، أمست أكثر حاجة للدعم والرعاية، وأقل قدرة على التدرج باتجاه الاستقلالية.
موضوعيا، يمكن ملاحقة مواطن الخلل الحاصل في أوساط أفريقية أميركية واسعة إلى مخلفات المراحل الماضية، وإلى استتباب نظم مجحفة، كما الإفراط في معاقبة الجنح التي يرتكبها الشباب الأسود، مقابل دقة اعتبار ومراعاة لما يفوق هذه الجنح أضعافا بالخطورة حين يظهر لدى أوساط أخرى. على أن الأسهل، حتى مع استتباب سردية المساواة علنيا، هو الميل ضمنا إلى اعتبار أن العلة في الطبع والطبيعة.
النظرة الاستعلائية إزاء المواطن الأسود في الولايات المتحدة لا تزال رائجة في أوساط عدّة، ومنها يأتي الاستهتار بحياته، حين يقتل جراء رسوخ أساليب تعامل قاسية لدى الشرطة، وحين يعترض، وحين يشتكي. بل المطلوب منه، على ما يراه العديدون، أن يكون ممتنا لأنه في الولايات المتحدة، وليس في إحدى دول "القذارة" التي جاء منها أجداده، كما وصفها أحدهم. لا حاجة هنا إلى تفنيد هذا السقوط.
رغم هفوات الرئيس دونالد ترامب، وكلامه الذي يكشف، على أقل تقدير، عن عدم مراعاة للحساسية في المسائل العرقية، فإن المشكلة سابقة له وتتجاوز إطار المناكفات والنعوت التي يمعن بها. على أن شعاره الانتخابي، "لنجعل أميركا عظيمة مجددا" يستدعي وإن من حيث لا يدري الامتعاض في الأوساط الأفريقية الأميركية، لما يغيب عنه من حساسية الإقرار بما كان عليه الماضي من قصور وتقصير.
من حق الرئيس دونالد ترامب أن يفاخر بأن البطالة لدى الأفارقة الأميركيين هي اليوم عند أدنى مستوياتها التاريخية، وإن كان الرسم البياني لتدرجها يكشف بوضوح بأن انخفاضها المتواصل هو ثمرة تطورات سابقة لولايته. ومن حق الرئيس ترامب أن يعتز، عن جدارة، بأنه قد دفع باتجاه إصلاح النظام القضائي لتبديد قدر من التمييز الذي كان قد أضرّ بالجتمع الأفريقي الأميركي. ومن شأن ترامب كذلك أن يسعى في المرحلة المقبلة إلى استعراض انفتاحه على شخصيات ووجوه عامة من الأفارقة الأميركيين، ولا سيما من الرياضيين ونجوم الفن، وذلك في إطار سعيه التأكيد على أن القاسم المشترك الذي يعنيه هو الانتماء الأميركي.
على أن هذه الإنجازات والخطوات، على أهميتها، لا تقترب من التفاعل المطلوب على مستوى المجتمع الأميركي بكافة أطيافه، من أجل استيعاب خطورة التجربة الأفريقية الأميركية ماضيا وحاضرا والسعي إلى التعامل البناء معها. بل إن التوجهات المضادة لهذا التفاعل تستفيد من أجواء الشحن والطعن، والتي يثيرها الرئيس، للجم أي تقدم إيجابي.
الأحوال المادية للأفارقة الأميركيين، فيما يتعدى الإنجازات التي يروّج لها، أولوية دون شك. على أنها أولوية لا بد أن تأتي مصاحبة بمساءلة ذاتية معنوية أخلاقية تاريخية. ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.