محمد المحمود:
كيف يفهم "الأزهر" التجديد في الفكر الإسلامي؛ من خلال أبرز ما طرحه في المؤتمر العالمي الذي عقده في 27 ـ 28 يناير 2020؟ السؤال هنا مشروع؛ لأن المؤتمر انعقد بِرَسْم التجديد تحديدا. موقف الأزهر ـ وهو الراعي الرسمي لهذا المؤتمر ـ مُهِمٌّ جِدا، إذ هو، أي الأزهر، الذي يُحدّد كثيرا من السياقات في الخطاب الديني الإسلامي بشكل مباشر أو غير مباشر.
الأزهر ـ وكما قلت في المقال السابق ـ هو المؤسسة الدينية السنية الأشهر والأعرق في العالم الإسلامي، كما هو ـ أيضا ـ الأكثر حظوظا في حيازته صفة: "الاعتدال"؛ مقارنة ببقية المؤسسات الدينية الرسمية المشابهة له، هذه المؤسسات التي تتنافس ـ أو تتعاضد في سياق تنافسي ـ على تقرير ما هو "الإسلام الصحيح" من جهة، وكيف يُمكن تفعيل هذا "الإسلام الصحيح" في الواقع؛ من جهة أخرى.
في المقال السابق أخذت في مقاربة عابرة للكلمة الارتجالية التي رَدّ بها الإمام الأكبر/ شيخ الأزهر على رئيس جامعة الأزهر، منافحا عن التراث وعن الثوابت...إلخ. وقد اخترت أن تكون تلك الكلمة الارتجالية نقطة ارتكاز حديثي؛ لأن "الاعترافات اللاّواعية" كثيرا ما تتساقط من خلال من ثقوب عثرات الارتجال.
لكن، إذا كان كثيرون لا يأخذون مثل هذه الكلمات الارتجالية ـ بحَرْفِيّتها ـ على محمل الجد، أو لا يأخذونها كتعبير مسؤول عن رأي الأزهر كمؤسسة دينية، فإن الكلمة الختامية/ البيان الختامي للمؤتمر الذي ألقاه شيخ الأزهر بقراءته لنص مكتوب ـ مدروس ومراجع سلفا ـ هو الذي يَعدّه الجميع مرجعَ الرؤية "الأزهرية" للتجديد (بل المرجع الإسلامي العالمي من خلال رؤية أزهرية)؛ لأن البيان صدر بوصفه نتيجة مداولات ونقاشات واتفاق صريح أو ضمني من عموم المجتمعين الذي دعاهم الأزهر لهذا المؤتمر بوصفهم أشهر/ أبرز/ أهمّ علماء الإسلام، أو مُمَثلي علماء الإسلام.
إذن، البيان الختامي يتحدث بلسان الأزهر، ومن ورائه عموم الإسلام السني الرسمي وشبه الرسمي. وحيث إن المؤتمر لم ينعقد إلا بصفة "التجديد"، وفي سياق تاريخي يستدعي هذا التجديد كـ"حالة طوارئ دينية"؛ تُبرّر هذا الاجتماع، فمن حق المراقبين أن يتساءلوا عن التجديد الذي خرج به هذا المؤتمر لحل أزمة الخطاب الإسلامي من جهة، ولحل أزمة المجتمع الإسلامي، والمجتمع العالمي، مع هذا الخطاب من جهة أخرى؟
يتضح من خلال هذا البيان الختامي أن "العقل التراثي" هو ـ وحده ـ المنوط به مهمة التجديد المنتظر. وكما هو الحال في تلك الكلمة المرتجلة التي أكد فيها شيخ الأزهر على أن "التجديد مقولة تراثية"، تأتي الكلمة المكتوبة التي يُفْترض فيها أنها صادرة عن "إجماع" أو "شبه إجماع"؛ لتؤكد حقيقة الدوران في الحلقة المفرغة للتراث: تجديد التراث بالتراث على يد التراثيين!.
يؤكد شيخ الأزهر على المقولة السلفية التي تقول كل شيء؛ ولا تقول شيئا في الوقت نفسه، أقصد قوله: "النصوص القطعية في ثبوتها ودلالتها لا تجديد فيها بحال من الأحوال". هذه المقولة ذاتها تحتاج إلى فحص/ تفكيك، ومن ثم تجديد. فما هو معيار الثبوت القطعي هنا؟ القرآن محل اتفاق، ولكن لم ـ ولن ـ يقصد البيانُ القرآنَ فقط، وإلا لأصبح الأزهرُ قرآنيا، بينما هو يُضَلّل القرآنيين (الذين يتخذون القرآن مصدرا وحيدا).
وهنا تأتي معضلة السنة/ الأحاديث النبوية، فما هو القطعي ثبوتا، هل ما صححه الأوائل ثابت قطعا؟، ثم تصحيح مَن يُعتمد هنا؟، ثم كيف يكون قطعيا تصحيح الأوائل (على افتراض اتفاقهم، وهو ما لم يحدث قطعا) وقد دخل عليه خلاف الأواخر، وأصبحت السنة محل جدل/ خلاف طويل؟.
هذا في مسألة قطعية الثبوت. أما مسألة قطعية الدلالة، فمن هو الذي يحكم بقطعيتها، من هو الحَكَم في نهاية الأمر؟، إذا كان المقصود بِضعة أحكام/ فرائض/ محرمات قليلة جدا لم تكن محل خلاف تأويلي في السياق العام، فلا أظن الأزهر، ولا المجتمعين في رحابه، يحصرون ثبوت الدلالة فيها، بل هم يقصدون كثيرا من المسائل التي قطع بها التراث، أي يقصدون ما توافر علماءُ "أهل السنة المشهورين" على قطع الدلالة فيها. وهنا، يقطع الأزهر ومشايعوه بدلالة أمر/ حُكم ليس قطعي الدلالة بالإطلاق؛ نظرا لاجتهاد عموم المسلمين، واختلاف مدارس المجتهدين.
وحينما يُحَدِّد البيان الأزهري أن محل "الاجتهاد التجديدي" هو ـ فقط ـ في النصوص الظنيّة، فإنه يُحاصِر هذا الفضاء المتبقي للاجتهادِ باشتراطٍ عام لا يُمكن ضبطه على سبيل القطع، وهو قوله ـ بعد تحديد الاجتهاد بالنصوص الظنية ـ: "شريطة أن يجيء التجديد فيها على ضوء مقاصد الشريعة، وقواعدها العامة، ومصالح العباد".
وهنا نتساءل: مَن الذي يضبط مقاصد الشريعة وهي محل نظر عقلي واسع؟، ومَن الذي يضع القواعد العامة، أو أية قواعد ـ من أية مدرسة/ أي منهج ـ التي يجب أن يُؤخذ بها؟، ومَن هو الذي يحدد مصالح العباد (وليس هنا مناقشة مصطلح "العباد" مقابل مصطلح "المواطنين")؛ وفي تحديدها تحار أعرق البرلمانات وأكثرها انضباطا واتساقا؟.
بل ويزيد البيان في محاصرة دائرة الاجتهاد التجديدي؛ عندما ينص على أن "التجديد صناعة دقيقة لا يحسنها إلا الراسخون في العلم، وعلى غير المؤهلين تجنب الخوض في هذا الموضوع حتى لا يتحول التجديد إلى تبديد". فمن هم "الراسخون في العلم"؟، هل هم "الأزهريون"، أم هم الذين يُزَكِّيهم الأزهريون؟، هل هم حملة الشهادات الشرعية، أم هم العاكفون على دراسة العلوم الشرعية باجتهاد غير مؤسسي/ باجتهاد مشيخي؟، ثم ما هو حد الدراسة/ البحث الذي يصل به "الشيخ" ليكون من "الراسخين في العلم" الذين يجوز لهم ـ وفق هذا الشرط الأزهري ـ خوض غمار التجديد؟.
ومع كامل الاحترام والتقدير لشيخ الأزهر، يحق لنا أن نطرح هذا التساؤل عليه: هناك باحثون/ دارسون قرأوا في العلم الشرعي ولوازمه أضعافَ ما قرأه شيخ الأزهر ذاته، وكتبوا من البحوث والدراسات أضعاف ما ألّفه، ولكنهم لا ينتمون لأية مؤسسة دينية رسمية، فما موقع هؤلاء من شرط "الرسوخ في العلم"؟. مَنْ يُزَكّي مَن؟.
وطبعا، لا يغيب عن علم شيخ الأزهر أن بعض هؤلاء الباحثين الذين قرأوا وألّفوا ودرّسوا أضعافَ ما قرأ وألّف ودرّس، لا يعترفون بالأزهر ولا بشيوخه أصلا، بل يرونه الأزهر مؤسسة رسمية لا تملك ـ بذاتها ـ حرية الاجتهاد أصلا. وعلى هذا، هل يُرْخِي المسلم مَسامِعه للباحثين المستقلين أم يتبع المؤسسات الرسمية التي تأخذ ـ بالضرورة ـ شروط حضورها وفاعليتها كمؤسسة اجتماعية لها مصالحها، فضلا عن شروط تفاعلاتها الداخلية/ البَيْنِيّة في السياق الفكري الخالص (على اعتبار إمكان التجرد هنا)؟.
وفي أفضل حالات البيان تجاوزا، نجد أنه يقول ـ بلسان الأزهر ـ شيئا، بينما التراث الذي يمتاح منه الأزهر (التراث الذي يسكت عنه الآن؛ في سياق تقديسه من جهة، وتجريم منتقديه من جهة أخرى) يقول شيئا آخر لا يجرؤ الأزهر عل البوح به.
فعندما يُدِين الأزهر التيارات المتطرفة وجماعات العنف الإرهابية، يذكر أنهم يقولون بـ"مبدأ الحاكمية" في سياق فهم خاطئ. البيان يذكر أن الإرهابيين يقولون بأن الحكم لله وحده، وأن لا حكم للبشر. وهذا تدليس ظاهر، فالإرهابيون الذين يستندون في التكفير على مبدأ الحاكمية لا يقولون بهذا، بل يقولون: إن البشر لا يحكمون فيما فيه حكم شرعي ثابت. والدليل على ذلك أنهم يحكمون بأنفسهم في مناطق نفوذهم، ويصدرون الأوامر المدنية ـ فيما ليس فيه حكم شرعي ـ بصفتهم الدينية التي تضفي المشروعية الدينية على الأداء المدني.
واضح أن ثمة ما يحاول البيان الالتفاف عليه، أو تجاهله بالسكوت عليه، فمثلا، إشكالية التكفير ـ المرتبطة عضويا بالإرهاب ـ طُرِحت في كلام عمومي غائم غامض. يقول البيان: "والتكفير حكم على الضمائر، يختص به الله وحده دون غيره". عبارة جميلة، ولكن، هل هذا رأي جديد للأزهر يتجاوز به التراث الذي تتأسس مشروعيته عليه، أم هو ـ فيما يزعم ـ رأي التراث؟.
التراث ـ عكس ما يقوله البيان ـ لا يقول بأن التكفير حكم لله وحده، وبالتالي، لا يعلمه غير الله. التراث الذي يقدسه الأزهر، كتب شيوخ الإسلام الذين يحترمهم الأزهر ويرجع إلى مقولاتهم، آراء الأسلاف المقدسة، كل هذا زاخر بالتكفير الصريح والتضليل والتفسيق، بل وبإقرار حكم "قتل المرتد" على من صدر بحقه التكفير. وكما هي المراوغة هنا في "مسألة التكفير"، فكذلك ظهرت المراوغة في "مسألة الجهاد"، حيث يقرر البيان أن الجهاد يأتي بمعاني كثيرة، وأن "القتال" معنى من معانيه، ولكن القتال ـ كما يقول البيان الأزهري صراحة ـ لا يكون إلا دفاعا ضد العدوان.
هكذا يقول المؤتمر الأزهري، بينما التراث المعتمد على امتداد التاريخ يقول عكس ذلك، إذ هو/ التراث يشَرِّع "جهاد الطلب" ـ أي الهجوم ـ ابتداء، فما هو موقف الأزهر من هذا التراث المتراكم في تقرير/ تأكيد هذا "الجهاد الهجومي"، هل يكفي مجرد السكوت والتجاهل؟.
البيان الأزهري يقول عكس ما يقول به التراث، والبيان نفسه لم يحدد لنا الموقف اللازم اتباعه من هذا التراث؟، هل يُصدِّق/ يتبع الشبابُ المسلم بيانا أزهريا مُؤطّرا رسميا، أم يتبع التراث الضخم الممتد لأكثر من ثلاثة عشر قرنا، أيهما الأجدر بالثقة الدينية (بالنسبة لشاب مسلم يبحث عن الخلاص باتباع ما يتصوّره حقا)، أربع أو خمس صفحات من بيان أزهري عابر متناقض، أم مئات المجلدات من الأقوال المتعاضدة التي تقول بعكس ما يقوله البيان؟.
إن هذه الأسئلة التي أطرحها على بعض فقرات البيان تفضح حيرة البيان واضطرابه، وبالتالي، حيرة الأزهر ورجاله إزاء التجديد، والهروب من معالجة المشاكل من أصولها (رُهَاب نقد التراث)؛ ليكون التجديد هنا التفافا على التجديد، أو مراوغة للهروب من استحقاقات التجديد. وأنا متأكد أنه فيما لو تَبرّع الأزهر بالإجابة على هكذا تساؤلات، فلن تكون "الإجابات الدينية الدبلوماسية" إلا مقولات مراوغة تزيد من حجم الحيرة والاضطراب.
على أي حال، هذا بعض تعليق أو شيء من مُسَاءلة عابرة لبعض ما في البيان، حيث يتضح من خلالها العجز الأزهري عن النهوض بمهمة التجديد الحقيقي؛ بعجزه الواضح جدا عن الشروع بنقد الذات/ نقد تراث الذات. أما مناقشة البيان بكل ما جاء فيه، فتلك مهمة تضيق عنها مساحة هذا المقال.