محمد المحمود:
يُمْكن توصيف جماهير الشرق أوسطيين ـ في علاقتهم بالحداثة ـ بأنهم "يتغيّرون ولا يتغيّرون!"، أو هم يريدون أن يتغيّروا، ولكنهم ثابتون متمسكون بوعي آبائهم الأقدمين. نعم، لديهم ضِيْق بواقعهم، بل وحَنَقٍ عليه في كثير من الأحيان، ولكن وعيهم بهذا الواقع المغضوب عليه قاصر، وهو أشد قصورا في الوعي بشروط تغيير هذا الواقع. وما أدركوه ـ بعد لأيٍ ـ من شروط هذا التغيير، يعجزون عن تحقيقها، يعجزون عن التقدم فيها ولو مجرد خطوة واحدة إلى الأمام.
يتغيّر الإنسان الشرق أوسطي/ العربي ظاهرا، يحاول التوفّر على أحدث التقنيات، بل وأحدث المعارف والعلوم، بينما هو ـ في وعيه الكلي/ الجمعي ـ مُتَبَرمِج بِقِيم ومَفاهيم ومُسْتَقِرَّات العقل التراثي. وكدليل على هذا الوعي المستقر الثابت الجامد على مُخَلفات القرون الوسطي، تجد أن مظاهر الحياة ـ في نمطها الاستهلاكي والتقني الخالص ـ تغيّرت كثيرا في الشرق الأوسط خلال القرن العشرين وإلى بداية هذا القرن، بينما تجد الوعي الكلي/ التشكّل الثقافي الأعمق؛ لا يزال كما هو عليه منذ بدايات القرن العشرين.
لماذا لم يتقدم الوعي ـ ولو بضع خطوات ـ إلى الأمام، أي بضع خطوات تستطيع نقل واقع هذه المجتمعات من حال إلى حال في سياقِ مُتغيِّر نوعي؟ لماذا فشلت ـ بحكم/ بدلائل مخرجاتها ـ كُلُّ وسائل التعليم والتثقيف والإعلام في التأثير على نظام الوعي العام الذي يتشكّل من خلاله الواقع ؟ لماذا يبدو أن كثيرا من مجتمعات الشرق الأقصى بدأت تتحلّل ـ نِسْبيا ـ من عُقَدها التاريخية/ من عُقَد تُرَاثَاتِها المتخمة بمُعَوِّقات التقدم، بينما بقيت مجتمعات الشرق الأوسط أسيرة وعيها القديم/ تراثها القديم؟
الإجابة على هذه التساؤلات مُعَقَّدة ومُرَكَّبة، ومتعددة الأبعاد، ولكنها ـ بالاختصار والتعميم ـ تتمحور حول جَبْهَتين: جبهة الهجوم الحداثي المتتابع؛ بفعل إرادة التغيير عند طلائع التنوير؛ وبفعل مسارات العولمة والانفتاح الإعلامي/ التواصلي. وجبهة الدفاع التراثي، أي دفاع التراث عن نفسه ضد محاولات تهميشه وإخراجه من معادلة تشكيل الواقع.
الجبهة الأولى، أو طرف المشكلة المنوط به زمام المبادرة، لم يكن بالمستوى المطلوب. كانت البدايات ضئيلة وخجولة ومتعثرة. وحتى عندما تكاثفت، بقيت ـ في معظمها ـ تفتقد الشجاعة اللازمة لمواجهة الذات. والأنكى أنها كثيرا ما انشغلت عن مهمتها الأساسية المتمثلة بنقد الذات؛ لتهاجم الآخر دفاعا عن الذات. لهذا، ظهر "التقدميون" الذين تحدثوا بلسان العروبة وكأنهم لا يختلفون كثيرا عن "التراثيين/ الإسلامويين" في تبجيل التاريخ الذاتي، وفي صناعة الأوهام القومية، وفي هجاء الغرب وحضارة الغرب، الذي هو ـ في مؤداه النهائي ـ هجاء للروح التقدمية، وتبخيس لها، واستحضار ـ غير واع ـ لنقائضها الجاهزة من تراث الأنا.
الجبهة الثانية هي جبهة: دفاع التراث عن نفسه، أي فاعلية التراث في محاولته تثبيت نفسه في الواقع. فالانتكاسات السلفية على كل خطوط التغيير التقدمي رافقت مسيرة التحضّر الشرق أوسطي، والعربي منه على وجه الخصوص، وكانت انتكاسات عاتية في كثير من الأحيان.
إذن، خلال مسيرة التقدم/ التحضر؛ كان "التراث القروسطي" ينتقم لنفسه في كل حين، مدعوما بجماهير أمية/ شبه أمية، تمنحه طاقة الفعل على أوسع نطاق. وكان من نتائج هذا الانتقام الذي شَاغَب مسار الوعي التقدمي أن انتشرت الانقلابات العسكرية الحمقى التي تستبطن استخفافا/ استهانة/ اسْتِتْفَاها للنظام التشاركي/ الديمقراطي الغربي، ثم انتشرت الجماعات الأصولية حتى تسيّدت المشهدَ الاجتماعي في الشرق الأوسط كله، وبلغت أوجها حينما وصلت الأصولية الإيرانية التراثية/ القروسطية إلى الحكم في بلد كان من أكثر بلدان الشرق الأوسط حداثة (حداثة نسبية بطبيعة الحال)؛ لتعيد صياغة الوعي من جديد على أسس تراثية تعود بالمجتمع الإيراني إلى المربع الأول، أي إلى ما قبل "ثورة المشروطية" بداية القرن العشرين.
هكذا بقي التراث حاكما لنظام الوعي؛ من حيث هو يُهَيمن ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ على وعي الأغلبية الساحقة من الجماهير الشرق أوسطية. لا يجوز أن نَغْتَرَّ بظواهر الأشياء، ففي الظاهر، يتعلم هؤلاء، يتخصصون في تخصصات علمية دقيقة، يتخرجون في أرقى جامعات الغرب، يشتغلون في مِهَن راقية ومؤثرة، يتواصلون مع العالم، بينما هم ـ في الباطن ـ يَسْتَدْمِجون كل هذا "المكتسب الحداثي" في نسق وعيهم التراثي العميق؛ ليعيدوه ـ بكل آلياته ومفرداته الحداثية/ شبه حداثية ـ مُنَشِّطا للأنساق الكُليّة في التراث.
المتخلفون، أو المدافعون عن تراثهم بمنطق تخلّفهم، يستخدمون كل ما تطاله أيديهم وأدمغتهم الآلية لتدعيم موقف التراث بإزاء الحداثة، وبالتالي، للحفاظ على التراث بصورة مُتخلّفة، أي بصورة تعتقد أن الدفاع عن التراث يكون بتجميل التراث ولو بالخداع، ما يعني تحويل التراث إلى مصدر إلهام بكل سلبياته؛ على اعتبار أنه ـ وبادعاء أجوف ـ أفضل تراث، بل وعلى اعتبار أنه الملاذ الوحيد للأنا في عالم معادٍ للأنا، على اعتبار أنه محور الخلاص!
من هنا نفهم لماذا بقي العقل الجمعي عقلا تراثيا بامتياز، ولماذا هو يزداد تراثية كل يوم؛ على عكس ما يتوهم كثيرون. وسائل الإعلام الشعبوية، ثم وسائل التواصل التي جمهرت عملية التأثير؛ فلم تعد النخبة التي اشتغلت على وعيها سنين طويلة هي مركز التأثير، كل هذه عمّمت ورسّخت التصورات التراثية، وجعلت الوعي الجمعي على صفيح أصولي/ عروبي ساخن، ينتظر الفرصة أو الشرارة الأولى للانفجار.
كل هذا لا ينفي أن وسائل الإعلام بانفتاحها المتعذّر على الرقابة، وأن وسائل التواصل بفتحها كل أبواب النقد على مصراعيها، لم تُمَثّل تحديّاً للوعي التراثي. بل العكس هو الصحيح، فقد شكلت تحديا كبيرا، ولكن "تكتيكات العقل التراثي" تستطيع المراوغة بالرهان على كون الغالبية الساحقة من الجماهير المتأثرة بكل هذه الوسائل لا تقرأ/ لا تبحث/ لا تستوثق، بل تحاول التقاط "المعلومة العابرة المُشَوّهة" من على رصيف الوعظ الأصولي، أو من بين ثنايا "فكاهات التراثيين" التي يطرحونها كنوادر وكطرائف من القصص التراثي.
لقد شملت "تكتيكات العقل التراثي" في الدفاع عن التراث أساليب متنوعة، مُتَمَرْحلة وِفْق تطور تقنيات الإعلام ووسائل التواصل. في البداية كان الإنكار التام، والزعم بأن "ناقد التراث" كاذب فيما ينقله عن الأسلاف. مثلا، تُذكّرهم بأن فلانا (مثلا، عالم مبجل تراثيا) يُكْثر من التكفير، وتؤكد لهم أنه من دعاة قتل المخالفين. هنا، ينبري لك المدافعون، ويزعمون أنك كاذب؛ مع أنهم يعرفون أن ما تقوله حقيقة. إنهم ينكرون ما هو مسطور في كتب شيخهم بكل صلافة، ولكنهم يُراهنون على جهل الجماهير؛ لأن هذه الجماهير التي يتكئ العقل التراثي على نفوذها الاجتماعي، لن تذهب إلى المكتبات لتبحث عن أيهما أصدق: ناقد التراث أم المدافع عن التراث؟ سيكتفي المتابعون بتصديق ما يقوله الواعظ أو الشيخ التراثي، نزولا على طبيعة العلاقة الوجدانية التي تمنح الواعظ نقطة امتياز؛ بقدر ما تمنح النظرة التقليدية التبجيلية للتراث نقطة امتياز أيضا.
لكن، بعد الانفتاح الفضائي، بدأ فضح ما هو مدون في بطون الكتب، وجرى "نشر الغسيل التراثي" علانية، بعد أن بدأ الناقد يُحيل إلى عناوين الكتب وصفحاتها موثقة بالأرقام. وهنا، ـ بتكتيك آخر ـ يردُّ المُدافع عن التراث بأن هذا "قطع للكلام من سياقه"، نعم هو موجود، ولكنه مبتور من سياقه، وبالتالي، هو تدليس. وكما في الحالة الأولى، لن تذهب الأغلبية الساحقة من المشاهدين للمكتبات العامة، وتتأكد: هل الكلام مقطوع من سياقه أم لا. حتى لو ذهب بضعة أفراد، فلن يؤثروا، إذ الرهان على جهل وكسل ملايين المشاهدين.
بعد الانفتاح التواصلي (خاصة، فيسبوك وتويتر)، استطاع ناقد التراث أن يضع "كوارث التراث" أمام كل متابع. وكالعادة، سينكر سدنة التراث، وسينكر الجهال الذين لم يتصوروا أن تراثهم يتضمن كل هذه البشاعات، ولكن عند أول "إنكار" من سدنة التراث، يضع ناقد التراث ما نقده "مصورا من أوثق الكتب". وحتى لا يستهدفه الاتهام السابق بالاجتزاء والبتر، يضع بضع صفحات قبل، وبضع صفحات بعد. وإذا كان هذا مجرد توثيق آلي، فإن المهم فيه/ الجديد فيه، هو إمكانية تعميم التوثيق. فبحركة يد خاطفة، يستطيع القارئ أن يرى الصفحات بأكملها، بدون أدنى جهد، فيشاهد التهمة بكل حيثياتها موجودة على شاشة هاتفه أو حاسوبه، يقرأها ويرسلها للأصدقاء، ويعممها على متابعيه في أقل من لحظة عين، وبجهد يكاد يكون معدوما.
هنا، وبعد أن أصبح التأكد/ التوثيق في متناول يد كل فرد من الجماهير (التأكد ـ بلا جهد يذكر ـ من "كوارث التراث")، لجأ "التراثيون" / "سدنة العقل الماضوي" إلى تكتيك دفاعي آخر، يَتمثّل في تشتيت الانتباه، أو صرف الانتباه باستحضار وقائع أو أقوال من تاريخ/ تراث الآخرين. فمثلا، تذكر لهم جرائمَ السابقين التي يتسامح معها التراث، ويتسامح معها سدنة التراث المعاصرون أكثر؛ كما في "دير الجماجم"(جرائم حرب لـ الحجاج وعبدالملك بن مروان)، فيذكرون لك ـ مُدافِعين مُنَافِحين ـ ما فعله هولاكو أو الاستعمار الفرنسي في الجزائر، تذكر لهم من التراث الحديث جرائم صدام حسين وحافظ الأسد...إلخ، فيذكرون لك جرائم هتلر وستالين. هكذا تجد التراثي يدافع ـ بلا عقل وبلا ضمير ـ عن كل ما له علاقة بـ(الأنـا/ النحن) وكأنَّ الجريمة تُبَرِّر الجريمة أو تخفف من وقعها في صناعة وعي إجرامي. ولا شك أن مبعث هذا العقل التراثي الطفولي أنه يتوهم أن كل نقد للذات، أو لما له علاقة بالذات، هو عدوان على الذات.
هكذا يبدو "نضال العقل التراثي" لتثبيت نفسه في الواقع. إنه يدافع عن كل سلبية في تراثه/ في أناه؛ بوصفها "موضوع هِجاء الآخرين له". ناقد التراث في تصور التراثي التقليدي ليس أكثر من عدو مهاجم يتلمس الثغرات، وعلينا ـ كما يقول التراثيون التقليديون ـ أن نسد عليه كل منفذ/ أن نجمّل كل قبيح/ أن نبرّر كل جريمة؛ لتكون المثالب مناقب. وبمنطقهم: كي نُثْب صدقنا في الدفاع عن تراثنا، علينا أن نعتمد المقولة الحربية: "الهجوم خير وسيلة للدفاع"، فنُسمي مدارسنا وشوارعنا ومطاراتنا مياديننا العامة المنتشرة في عالمنا العربي الواسع باسم الحجاج وصدّام ومعاوية ويزيد وهشام والمنصور والمتوكل؛ حتى يتمثّلها الوعي الجمعي كنماذج عليا يعيد إنتاجها ـ في وقائعه العينية ـ كل حين.