أبو بكر زمال:
أفتى في كل شيء، خاض في كل أمر وقال ما يعجب وما يلبي وما يغضب وما يضحك أيضاً، حرم مأكولات: الزلابية والكاشير و"الطمينة" وحــظــرها على الجزائريين الذين تعودوا عليها في الأعياد والمناسبات والأفراح، ولم ينتبهوا لما قاله الشيخ فركوس عنها: "بعض الحلوى كالزلابية أو العصيدة أو نحوها من الحلويات التي تخصص للمولود يوم سابعه، من بدع (العقيقة)، وعمل الحلوى يحتاج إلى دليل شرعي، لأن (الطمينة) في الغالب عند تقديمها يوضع في وسطها علامة صليب من مادة القرفة".. وأكل هذه المادة حرام يقصد (الكاشير)، بسبب أنها تحتوي على: "ملوِّن غذائيُّ أحمر مستخرَج من خنافس، يُرمز إليه ﺑ: (E 120) لا يجوز استخدامه كأحد المركَّبات الصناعية الغذائية، ولا يجوز استهلاكه، وخاصّة مع طغيان لونه، لأنَّ هذه الخنافس معدودة من الحشرات المستخبثة طبعاً عند جمهور أهل العلم".
وقدم فتوى أجاز فيها للملتحي الذي يريد إصدار جواز سفره بلحية تقديم رشوة إذا رفضت الإدارة استخراج هذه الوثيقة، وأفتى بجواز نزع اللحية من الصورة بواسطة جهاز سكانر، تجنباً للوقوع في المحظور.
الشيخ فركوس في مقامه
إنه الشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس، القبائلي الأصل والمنشأ، والذي يكتب باللغة العربية فقط ويلقي بها دروسه ومواعظه، قطب التيار السلفي العلمي وعالمه الجليل كما يلوح لذلك مقربيه ومريديه الأوفياء، صاحب ملة من بين ملل عدة تضم المسلمين في الجزائر.
كثر أتباعه، لكن تكاد لا تعثر على صورهم، كحال الشيخ فركوس الذي لا تعرف له صور، إلا ما التقطته بعض الكاميرات التي صورته في غفلة عن أعين رجاله، فالصور محرّمة في فتاويه المستمدة من نصوص الحديث والسنة، لذا فصوره من النوادر والاستثناءات كما هي حال صور الجنرال توفيق، ليخلق من نفسه أسطورة مرعبة وهالة مخيفة وليجنب نفسه الإثم والخطايا.
خلق جدلاً واسعاً سنة 2018 عندما ألهمته قراءته وتعمقه في الدين فتوى كفر إثرها كل من خالفه، سنة، متصوفة، شيعة، إخوان، كفرة، مسلمون بالفطرة واللسان والقلب والعادات.
انبرى للرد عليه إخوانه في العقيدة والصفاء والمحبة والمختلفين عنه وحتى المتحولين، أصابتهم الدهشة والمفاجأة والحيرة: فكيف للشيخ الجليل أن يتقول على الأمة الإسلامية من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها؟ كيف له أن يقارع ويحاجج من هم أعلى منه فقهاً وعلماً وديناً وتقوى حتى؟ وأخرج البعض من أمهات الكتب ما بينوا فيه بهتانه وتعصبه للــ"مدخلية"، بل هناك من وصفه بالمتعامي عما تفعله تيارات أخرى مقربة من السلطة، وكان من أبرز هؤلاء جمعية العلماء المسلمين، حيث وصفه رئيسها الدكتور عبد الزراق قسوم، بأنه: "خطر على الأمن الوطني".
دم فركوس يتفرق بين جماعة الإثني عشر
وللشيخ فركوس قصة طريفة مع "المدخلية" وهي الجهة التي كانت تؤطر جماعة 12، وهم كما يقولون من خيرة علماء السلفية التي ينتمي إليها ومجمع الفضيلة، الجهة المساندة مادياً لمكتبته التي أغلقتها السلطات، مبررة الفعل بأنه مناف لطبيعة نشاط المكتبة، حيث كان فركوس يلقى دروساً خاصة فيها، وهو ما أثار الشكوك والخوف من أن تتحول المكتبة إلى مصدر للتعصب والتطرف.
يقولون دخل المدخلية ثم خرج، دخلها لما كانت الأمور موصى بها من طرف المخابرات الأمريكية ومن ثم كل مخابرات العالم، بما فيها الجزائر، خاصة في ذروة الحرب العالمية ضد الإرهاب، وكان من بين أهم قواعدها ضرورة التقيد بما يمليه الحكام وولاة الأمر، حتى ولو كان مخالفاً للمبادئ والأعراف والدين، والدعوة لهم في السراء والضراء، وخرج منها لما انتبه وهو في يؤدي فريضة الحج لغلوّ المدخلية وتطرفها في تكفير المخالفين، وإصدارها فتاوى أقل ما يقال عنها إنها قسمت ظهر الأمة المنقسمة أصلاً.
وقد وجهت للشيخ فركوس نيران صديقة من ملة "المدخلية"، وعددوا أخطاءه وزلاته وسقطاته، ونصحوه بالتوبة والعودة إلى الرشد بدل النفير وشق عصا الطاعة عنهم، وهو ما قابله الشيخ بصدر رحب وتعلل بقلة الصحة وضعف الجهد وتعاظم المهمات، وهي أمور لم يعد الشيخ يقدر عليها، ولكن وقع الاستقالة أو الانسحاب برره البعض بالضغط الذي مورس على الشيخ من جهات عليا في الدولة، وهي بالأخص جهات أمنية رأت في نفوذ التيار "المدخلي" خطراً يتهدد البلاد، مع انطلاق ما يعرف بالربيع العربي، وهو ما يتعارض بالأساس مع رؤية الشيخ فركوس وفتاويه التي حرم في بعضها التظاهرات والاعتصامات وكل ما يرمز للثورة والتمرد والعصيان، ويتذكر الكثيرون الدور الذي قام به الشيخ، برفقة بعض علماء الجزائر، في مساعدة الدولة لحقن دماء الجزائريين ونزول المسلحين من الجبال أثناء سنوات الدم والإرهاب.
ما قام به الشيخ فركوس من بطولات خارقة آنذاك وطواعيته للحاكم والسلطة، نسفه فيما بعد، خاصة في سنوات حكم الرئيس بوتفليقة، من خلال رسائل وآراء نشرها موقعه الذي يتابعه الملايين من كافة أنحاء العالم، حيث نأى بنفسه عن كل وسم يتعلق بالحاكم، طاعة وإصغاء، وقال في فتوى عنوانها "تبيين الحقائق للسالك لِتَوقِّي طُرُق الغواية وأسبابِ المهالك": "أمَّا دعوَى جمعِ شَمْلِ الجزائريِّين، وتوحيدِ صَفِّهم، وإصلاحِ ما فَسَد مِنْ شئونِ دِينِهم ودُنْيَاهم، فلا يمكن أَنْ يتحقَّق على يدِ جماعةٍ أو فِرقةٍ أو أَنظِمةٍ أو دعوةٍ يُوالون عليها ويُعادون؛ ولا تقومُ إلَّا على العقيدة الإسلاميَّة الصَّحيحة.. إذ لا تقوم وحدةُ المسلمين وصفوفِهم تحت شعاراتٍ غيرِ شرعيَّةٍ أو جوفاءَ، أو دَعَواتٍ مُخالِفةٍ للتَّوحيد مُناهِضةٍ للسُّنَّة، أو مُسايِرةٍ لأدران الوثنيَّة والبِدَع والخرافات، أو قائمةٍ على أوضار الجهل وسنن الجاهليَّة".
ربما كان لهذه الفتوى المثيرة أسبابها ومسبباتها، فالشيخ كما أسفلنا عالم بشهادة الموالين له ومن حقه أن يعطي الرأي والمشورة والنصح من خلال اتكائه على مصادر الأسلاف من العلماء التقاة الورعين، لذا جاءت في وقت كثر فيه اللغط والفساد والغلبة والتسلط الذي مارسته بطانة السوء، وهو لم يعد بمقدوره التفرج وكل الأمة في ضلال الكفر والنشاز، فأفتى حسب علمه وفهمه وكفّر ما عداه من فرق وملل ونحل وأهواء ومن والاهم من العلمانيين والديمقراطيين، وأضاف إلى هذا الكشكول زمرة الإعلاميين والمثقفين وغيرهم من السدنة والحراس، واستعمل في ذلك لغة فقهية كالتي يعرف بها ابن تيمية، استخرجها ولم يضف إليها شيئاً سوى اللعب حولها ومعها.. لغة مدرسية وفقهية وسلفية قديمة.. فالشيخ فركوس محافظ وتقليدي وممتثل للسلف، بشكل يوحي أنه لم يخرج أبداً من عرين القدامى، في عصر يستعمل فيه بنفسه الإنترنت ووسائط حديثة، ولكنه يغلفها بقماش سميك مسبوك، ويكفي نظرة خاطفة على موقعه لندرك مدى ولائه المطلق للماضي السحيق البعيد في أغوار الزمن والتاريخ.
رجال ضد فركوس
مثلما للشيخ فركوس رجال يدافعون عنه في أفق التيار السلفي له خصوم يتتبعون هفواته، طبعاً هم من تيارات إسلامية أخرى إخوانية معتدلة صوفية، ومن جمعية العلماء المسلمين خاصة، ولعل أبرزهم المستشار الإعلامي السابق بوزارة الشؤون الدينية، عدة فلاحي، الذي وصف فركوس بأنه من أتباع السلفية الوهابية، وأنه صاحب نظرة أحادية للأمة الإسلامية، وقال إن الشيخ فركوس: "سلطة فوق السلطة ولا يجوز التعليق أو التعقيب على كلامه الذي يريد أن يضعه مريدوه في مرتبة المقدس!؟".
ومن بين الذين لم يستحبوا مواقف فركوس وفتاويه رئيس المجلس الإسلامي الأعلى أبو عبد الله غلام الله، الذي اتهم الشيخ فركوس، بـإحداث أزمة فقهية في الجزائر، وأن "الأئمة الناشطين عبر القنوات وبعض تبع الفركوسيين سيطروا بالقوة واحتلوا أمكنة وسط أهل العلم والمعرفة، لكن ما لا يعلمه هؤلاء أنهم أساؤوا بهذه البدع وليس الفتاوى إلى بلدهم وثقافتهم".
غلق المساجد مناورة الشيخ فركوس
من فتوى إلى أخرى يبقى الشيخ فركوس يثير السؤال والخصوم، فقد جاءت فتواه الأخيرة التي بموجبها قال بوجوب إقامة صلاة الجمعة: "عند المالكيَّة يُستحَبُّ استئذانُ الحاكم، فإِنْ مَنَع وأُمِنَتِ المفسدةُ لم يُلتفَتْ إلى منعِه، وأُقِيمَتِ الجمعةُ وجوباً؛ تقديماً لأوامر الشرع على كلام الحاكم"، وهو ما فسرها الكثيرين بمناورة الشيخ فركوس والتفافاته الغامضة، ودعوته إلى التمرد على القرار بما يعني الصدام بين الدولة وعموم الجموع الغفيرة التي تؤدي صلاة الجمعة.
وقال آخرون إنه لم يراع خطورة وباء كورونا الذي يضرب البلاد وتفشيه في العالم بأسره، وأن هناك حدوداً بين الفقه والعلم ولا يجب الخلط بينهما حفاظاً على الأرواح والممتلكات، ونبه آخر إلى أن الشيخ يعاني من عزلة وانحسار وتيبس في الفكر، وهو لا يخالط العلماء ولا يحضر مجالسهم، ما سبب له نكوصاً في متابعة المستجدات التي تحدث حوله.
مرتبة مقدسة
ككل الشيوخ، يتمتع فركوس بكاريزما مذهلة وخرافية وسط أتباعه، وبحسب إحدى الصحف الجزائرية، فقد أورد موقعه في ركن "التعريف بالشيخ": "لا شرف فوق شرف وارث مرتبة النبوة، نسأل الله تعالى أن يكون شيخنا أبو عبد المعز ممن نال تلك المرتبة"، وقد تم تنبيه القائمين على الموقع للخطأ في المبالغة، وهو ما تم تداركه لاحقاً وحذفت العبارة كاملة، لينزل فركوس ويصطف في طابور طويل من علماء وشيوخ وفقهاء أثاروا الخلاف بقدر ما أثاروا الوفاق.