محمد المحمود:
تزخر بلاد العرب من الخليج شرقا إلى المحيط غربا بأديان ومذاهب وطوائف وإثنيات متعددة، راسخة الجذور في التاريخ. وسواء وافقتَ على مقولاتها أم لم تُوافق، أعجبتك طرائقها في الحياة أم لم تعجبك، رأيتها ذات عائد إيجابي على المجموع الكلي لدوائر انتمائك أم كانت في نظرك ـ وبأي معيار ـ سلبية أو حتى كارثية، ففي النهاية لا بد أن تجد صيغة سلمية ما؛ للتعايش معها؛ من حيث هي قدر الجغرافيا والتاريخ. ولن يكون خيار الإقصاء، فضلا عن خيار الإلغاء؛ إلا خيارا إرهابيا بكل المعاني المتضمّنة في كلمة: إرهاب.
إذن، التعايش هو الخيار الوحيد، الخيار الممكن والقانوني والأخلاقي. ولكن التعايش مع كل هذا التنوع لن يكون محض مصادفة ثقافية/ عقائدية، أي لن تُفْرزه العقيدة السائدة والثقافة المهيمنة على نحو تلقائي. لا بد للتعايش من تأسيس ثقافي/ ديني، يبحث في ذاته على ضوء خطاب الاستنارة الأوروبي. وبدون هذا التأسيس يستحيل التعايش أصلا؛ فكيف إذا كان التأسيس على الضد منه، أي كيف يكون الحال إذا كان التأسيس دعوة صريحة للقتل والاستئصال؟!.
نعم، الفكر التيموي الذي يُحاول بعضهم الدفاع عنه اليوم يحمل في طياته دعوات صريحة للاستئصال. الأمثلة كثيرة، ولكن سأكتفي هنا بمقطع من فتوى "شيخ إسلام السلفيين"، أقصد: الفتوى الشهيرة في طائفة الدروز، هذه الطائفة الموجودة الآن في أكثر من بلد عربي، وخاصة في سوريا ولبنان. فالفتوى، كما الطائفة الدرزية موضوع الفتوى، كلاهما ليس من التاريخ (ردا على من يقول: لا تنبشوا التاريخ!)، بل من الراهن، ومن راهن الرهن أيضا.
ما التصرف الديني الشرعي الذي يجب على المسلم القيام به إزاء هذه الطائفة راسخة الجذور لأكثر من ألف عام؟ هذا سؤال برسم الإفتاء، وابن تيمية يقول مجيبا/ مُفتيا: "هم أعظم كفرا من الغالية، يقولون بقدم العالم وإنكار واجبات الإسلام ومحرماته... وكفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون، بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم، لا هم بمنزلة أهل الكتاب ولا المشركين، بل هم الكفرة الضالون، فلا يباح أكل طعامهم، وتُسْبى نساؤهم، وتؤخذ أموالهم، فإنهم زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم، بل يُقتلون أينما ثقفوا، ويُلْعنون كما وصفوا، ولا يجوز استخدامهم للحراسة وللبوابة والحفاظ، ويُقْتل علماؤهم وصلحاؤهم لئلا يُضِّلوا غيرهم، ويحرم النوم معهم في بيوتهم ورفقتهم والمشي معهم وتشييع جنائزهم..." إلخ هذا البيان الإقصائي.
وهذا ما جعل جورج طرابيشي يقول ـ بحق ـ قبل سرده لهذه الفتوى وأمثالها مما هو في سياقها: "فلابن تيمية فتاوى مرعبة ـ وهذا أقل ما يمكن أن توصف به ـ ضد الفرق الشيعية الأخرى، ولا سيما النصيرية والدرزية" (هرطقات، ج2 ص41/42).
يمكن أن تلاحظ النفس الإرهابي في هذا النص التيموي المختصر، لا في التكفير فحسب ـ فهذا أمره هيّن هنا ـ وإنما في طريقة التعامل مع طائفة كاملة، فحتى "التوبة" لا تُقبل منهم، بل يجب أن يكون القتل هو مصيرهم، ولا خيار آخر أمامهم، ونساؤهم تسبى، وأموالهم تنهب، بل يرى أن يُقتل الصالحون والعلماء منهم على الأخص؛ لأنهم يمثلون ـ بعلمهم وصلاحهم ـ إغراء للأتباع.
هذا ما يخص الفتوى الشهيرة بحق طائفة أتباعها اليوم بمئات الألوف. أما ما يخص ثيمة: "يُسْتتاب فإن تاب وإلا قتل" التي اشتهر بها، والتي ذكرنا في مقال سابق أنها تكررت 428 مرة في فتاويه، فقد وردت في مسائل فرعية، وطبعا؛ في بعض ما يعده هو أصلا. فمثلا ـ والأمثلة كثيرة جدا ـ: "من قال بخلق القرآن يُسْتتاب فإن تاب وإلا قتل"، و "أكل الحيات والعقارب حرام بإجماع المسلمين، فمن أكلها مستحلا لذلك فإنه يُسْتتاب فإن تاب وإلا قتل"، و "الرجل البالغ إذا امتنع من صلاة واحدة من الصلوات الخمس أو ترك بعض فرائضها المتفق عليها فإنه يُسْتتاب فإن تاب وإلا قتل"...إلخ الفتاوى المشهورة التي تختم بهذه الثيمة اللازمة التي تكشف عن مُتَصوّر عُنْفي إقصائي عام، يتجاوز هذه الجزئيات/ الفتاوى، إلى ما يخص الموقف الكلي من الحياة والأحياء.
وعلى أي حال، فإن السؤال المهم الآن، السؤال/ موضوع المقال الذي نحن بصدده بعد هذه الفتاوى الصريحة في الإقصاء والإلغاء والقتل، بل والإرهاب (التي قال بعضهم في تبريرها: اعذروه فيها، فقد صدرت عنه ومزاجه ليس في أحسن أحواله!)، وغيرها كثير؛ مما هو في سياقها، سؤالنا/ تساؤلنا: ما الذي يدفع كثيرين للدفاع عن ابن تيمية في هذا الوقت، وهو على مثل هذه الحال من التشريع الصريح للإرهاب؟
لا ريب أن الدوافع كثيرة، وهي قد تتعدد بتعدد الدافعين، وقد يجتمع أكثر من دافع في مدافع، ولكن، أهمها ـ في تقديري ـ ما يلي:
1 ـ الوقوع في أسر البدايات/ النشأة. وكما قال الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكّنا
فكثير من الدافعين، بل أغلبيتهم الساحقة، نشأوا في محاضن سلفية تقليدية تُقدّس ابن تيمية، وتطلق عليها بكرم مجاني لقب: "شيخ الإسلام"، وتتعاطى مع أقواله لا كنصوص ثانوية اجتهادية شارحة للنصوص المقدسة، وإنما كنصوص أولى مطابقة للنصوص المقدسة. وهذه البيئة/ المحاضن تقول ذلك ضمنا؛ إن لم تقله صراحة. لهذا، فمن نشأ في مثل هذه المحاض سنوات متطاولة، تصبح علاقته بابن تيمية علاقة وجدانية صِرْفة؛ مهما حاول أن يمنحها بُعدا معرفيا موضوعيا.
لهذا يجد التيموي المُعْرِق في التيموية (الذي رضع التيموية مع حليب أمه) نفسه أمام كل صور العطب/ التشوّه/ الرداءة في الخطاب التيموي مستفزّا ليبرر ويعتذر عن الرمزي الديني الأبوي. فإذا سمع نقدا أو قدحا في ابن تيمية فكأنما هو يسمع حديثا يقدح في أبيه حقيقة، وكما هو طبيعي أن يجد نفسه مدافعا ـ بمُحَفِّز عاطفي؛ لا أكثر ـ عن أبيه البيولوجي مهما كان مذنبا؛ فأنت تجده مدافعا عن أبيه الرمزي؛ مهما كان مذنبا أيضا.
ولا ينطبق هذا فقط على التيمويين الذي استمرّوا أبناء بررة للخطاب التيموي، يخدمونه ليلا ونهارا، سرا وجهرا، وإنما ينطبق أيضا على "النيو ـ تيمويين" الذي يُوهمون أنفسهم، أو هم يحاولون إيهام الآخرين، أنهم غير منخرطين في إقامة علاقة تصنيمية مع ابن تيمية، بل علاقتهم لا تتعدى مجرد إعجاب معتدل/ غير تقديسي برجل دين صادق، أو بمفكر موسوعي، أو بمناضل شجاع!
2 ـ الانتماء الأيديولوجي إلى ما له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالخطاب التيموي، من مؤسسات دعوية أو تعليمية، أو انتماء لتيار تنظيمي أو شبه تنظيمي، أو حتى تيار ديني احتشادي عام. ففي كل هذه الانتماءات، وفي كل الأحوال، ثمة خسائر ومكاسب، مطامع ومطامح، وقنوات استنفاع مادي ومعنوي، تُغري بالدفاع الذي يمنح المدافع "حسنة سيرة وسلوك" في أقلّ الأحوال، وبهذا تحميه من النبذ والتهميش داخل المؤسسة أو داخل التيار، أو ترفعه فوق منافسيه درجات (فضلا عن...!)، وهذا في أحسن الأحوال.
3 ـ الطابع السجالي والوجداني العنيف للخطاب التيموي. فهذا النوع من الخطاب يأخذ بألباب الشعبوية الدينية المعاصرة، خاصة بعد أن وفّرت وسائل الإعلام والتواصل الحديثة فرصة أكبر لـظاهرة "صراع الديكة" على مستوى الاحتراب والمذهبي والطائفي، بل وعلى مستوى الخلافات البينية داخل الدائرة السلفية ذاتها. فالتعاطي مع رموز الفكر في هذه العقلية الشعبوية يكون على طريقة الالتفاف حول ـ والاحتماء بـ... ـ فارس القبيلة الذي يُغِير على خصومها ويعود بأسلاب الأعداء، أو على الأقل، شاعر القبيلة المهذار الذي يتكفّل بأعدائها وشاتميها؛ حتى يلجمهم بلجام الصمت الذي هو المقابل للجام الموت عند فارسها المغوار.
هكذا تنتشي الجماهير بمشاهدة حلبة الصراع التي تصنع لها رموزها، الذين ستُدَثِّرُهم بعواطفها في حالتي: الانتصار أو الانكسار. أما العلمية الموضوعية فلا تجذب إلا القليل الواعي. ولعل الحراك الفكري التواصلي في وسائل التواصل الشعبية كالفيسبوك وتوتير يعكس هذه الحالة، حيث المهرج والبهلواني تتابعه الملايين، بينما كبار رجال العلم والفكر والأدب لا يتابعهم إلا القليل، ربما بضعة آلاف على الأكثر. وهذا ما حدا بكثيرين إلى التنازل على العلمية/ الموضوعية، والانجرار وراء إغراء مسايرة الغوغائية في اهتماماتها التافهة، والضرب على أوتار عواطفها الجامحة؛ فكانت النتيجة أن أصبحوا جماهيريين، تتابعهم الملايين.
من هنا، نجد أن هذه السجالية الطاغية على الخطاب التيموي (الذي يجد مُسْتَهْلِكه النموذجي في ذلك المتدين التقليدي الأثري الساذج)، تقود إلى تجمهر حول رمز تبالغ في ترميزه حتى تتوهمه فارسَ أو شاعرَ قبيلتها المذهبية أو قبيلتها الفكرية. وطبعا، والحال كذلك، لن تسمح بأي نقد يعضّ من لسان الشاعر أو يفتّ في عضد الفارس. أي لن تسمح القبيلة الحنبلية والعشيرة السلفية بأي نقد يضع فارسها/ شاعرها في أدنى مراتب الفرسان أو أدنى طبقات الشعراء؛ لأن هذا يعني أنها هي ستكون في أدنى مراتب العشائر وأدنى طبقات القبائل.
4 ـ من أشهر وأوضح دوافع الدفاع عن ابن تيمية استحضاره كنموذج نضالي. وهذا الدافع تصاعد تأثيره بعد شيوع النضال الأيديولوجي في القرن العشرين/ عصر الأيديولوجيات الكبرى. فحتى عند غير المتدينين، فضلا عن المتدينين، تجد ابن تيمية رمز المعارضة، رمز الصمود، حتى إنك كثيرا ما تسمع المُغْرمين به من النضاليين يُرَدِّدون بمناسبة وبدون مناسبة أنه سُجِن سبع أو ثماني مرّات، وأنه مات في المعتقل، وأنه أسهم نظريا وعمليا في صدّ الغزاة، وأنه تجرأ على معارضة السلاطين، وقال ما يعتقده حقا، وتحمّل مسؤولية أفكاره...إلخ ما يُردّدونه من حق وباطل في هذا المجال.
ولا يخفى أن المُتَديّن التقليدي يقول هذا بقناعة؛ تحشيدا لجماهير المتدينين التقليديين؛ لتوظيف ذلك الحشد في المشروع الأيديولوجي. إلا أن غير المتدين أصبح يقول به، لا عن قناعة، وإنما استدرارا لعواطف الجماهير العربية التي أصبحت الغالبية منها تتماهى مع الخطاب التقوي البسيط الساذج؛ بغية استثمار قوتها الجمعية في مشاريع النضال.
إن الفكر العربي يخوض اليوم معركة نضال أيديولوجي، لا معركة نضال فكري، فالساحة كما يراها المفكر العربي المؤدلج ـ فضلا عن السلفيات والأصوليات ـ هي ساحة نضال، ومن حيث هي كذلك، فهي بحاجة إلى مناضلين لا إلى مفكرين متأملين. لن يستطيع أبو حامد الغزالي ولا الجويني ولا الشاطبي ولا بان عبد البر...إلخ أن يُلبّوا التثوير النضالي، شخصياتهم ليست نضالية صِدامية، بل علمية، عكس ابن تيمية الذي يُوَفّر هذا النموذج لمن لا يريدون علما، لمن لا يريدون حقائق، وإنما فقط يريدون حشدا، يريدون نضالا.
5 ـ الطائفية في زمن طائفي. فغالبية الفاعلين اليوم في مجال الفكر والإعلام العربي، فضلا عن الخطاب الديني التقليدي، هم طائفيون على نحو علني صريح مُتَبجّح، أو على نحو خفي مستتر. وقد ظهرت حالات ارتداد عن التسامح والخطاب المدني إلى محاضن الطائفية بعد أن تمفصلت كثير من الأحداث الراهنة على مفاصل طائفية، كما يلح على ذلك قادة الصراع في هذه الأحداث، خاصة بين أكبر طائفتين إسلاميتين: الشيعة والسنة. وابن تيمية كما هو معروف مُتَّهم بالنَّصْب، وعداؤه للشيعة عداء أسطوري. ولهذا، من الطبيعي في سياق هذه التجاذبات الطائفية أن تستعيد التقليدية السنية الخطاب التيموي، وأن تزيدها الظرفية الصراعية احتماء به، وتأكيدا لصحة مقولاته في أعدائها التاريخيين!
6 ـ العروبة. ومعروف عن ابن تيمية تعصّبه العنصري للعرب، حتى قال: "الذي عليه أهل السنة والجماعة: اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم" (اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، ص374/375)، وغيره من أقواله. وهذا ـ مضافا إليها ناصبيته التي تتعالق مع عروبته ـ تجعل المتعصبين العروبويين يدافعون عنه رغم نفورهم من تشدده الديني من حيث المضامين، لا من حيث البنية الذهنية الانغلاقية التي يتماهون فيها مع ابن تيمية في مستويات العقل اللاواعي.
7 ـ استجابة للتشدد العقدي والفقهي. فخطابه الإقصائي المتشدّد يُلَبِّي هذه الحاجة عند المتشددين، الذين كانوا سيكونون متشددين بدونه، ولكنهم وجدوا عنده ـ من حيث هو رمز أثري/ تقليدي كبير ـ ضالتهم. تَمثّلوه، وبعد ذلك أصبحت العلاقة بينهم وبين تراثه جدلية/ تفاعلية، فبقدر ما يستنبتون شتلاتهم في حقول خطابه المتشدد، تجد أن خطابه المتشدد يكون أكثر تشددا على أيديهم. وهكذا، تتصاعد العملية الجدلية نحو آفاق أكثر انغلاقا، وستستمر في ذلك؛ ما لم نبطل أهم عناصر الحلقة التفاعلية/ ابن تيمية؛ لتعود الخطابات المتشددة المتشرعنة به ولا جذور لها، لتصبح بلا شرعية، وبهذا ستبدو وكأنها بدعة، يحكم عليها السلفي ـ قبل غيره ـ بالضلال.
هذه هي أهم دوافع المدافعين، وغيرها كثير (كالإمساك بالغرائبي عند غير المتدينين، وكفقدان الحس الإنساني الذي تغدو معه فتاوى الإرهاب والقتل أمرا هيّنا، أو هي الإغراء الخفي...إلخ)؛ مما لا يتسع له المجال/ المقال.