منير درويش:
تقول لنا المرويات، أنه في عام (575م- 49 ق.هـ)، وبينما كان النبي طفلاً يلعبُ مع الغلمان جوار منزل مُرضعته حليمة السعدية، فوجئ بالملاك جبريل يحطُّ عليهم ويقتنصه من بينهم ويلقيه على الأرض، وأمام أعين الطفل المذهولة، شقَّ مبعوث السماء صدره وأخرج من قلبه "عَلَقة"، لوّح بها أمامه قائلاً: هذا حظُّ الشيطان منك.
احتفظ بها الملاك الذي نهض من فوقه النبي تاركاً في صدره عاصفة من التساؤلات بلا إجابة، ولولا أثر المخيط الذي بقي في صدره لظنّ أنه يحلم، وفيما بعد علم الرسول أن هذا كان لقاؤه الأول بجبريل في مراحل تأهيله الأولى للنبوة. ربما كانت هذه المرة الأولى التي يسمع فيها الصبي المكّي محمد عن الشيطان، وأن له حظّاً في نفسه سيجعل الطرفان يتبادلان العداء يوماً ما، حين يشبّ الصبي ويحمل دعوة الإسلام لأهله وجيرانه. كانت هذه الحادثة سبباً في إعادة المرضعة حليمة للرسول مرة أخرى، إلى أمه آمنة وجده عبد المطلب، خوفاً من أن يحدث له مكروه وهو في كنفها.
في كتابه "السيرة النبوية الصحيحة" يعتبر أكرم العمري أن الوظيفة الأساسية لحادثة "شق الصدر" هو تطهير القلب و"إعداد للعصمة من الشر وعبادة غير الله، فلا يحل في قلبه شيء إلا التوحيد". ويؤكد العمري، أن هذه الحادثة كانت وراء "النقاء" الذي شهدته طفولة النبي وصباه، فـ"لم يرتكب إثماً ولم يسجد لصنم، رغم شيوع ذلك في قومه".
لكن لا يمكننا اعتبار هذا التفسير كافياً لإقناع أي متابع جيد لهذه القصة، فلقد فتح مصطلح "حظ الشيطان" الذي انتزعه جبريل من قلب النبي، باباً من الجدل بين الفقهاء والمفسرين حول المقصود بهذه العبارة، وتأثير هذه الخطوة على حياة النبي: هل ستضمن تحييد الشيطان عن شخص الرسول وألا يتعرّض له وهو يدعو للإسلام؟ أم أن العكس هو المقصود، وأن المعني بهذه الخطوة هو الشيطان لا العكس، فعبر انتزاع هذه العلقة لم يعد له في قلب النبي رحمة تدفع الرسول للتشفع له يوماً؟
تؤكد لنا أحداث السيرة النبوية أن إجابة السؤال الأول هي "لا"، فوفقاً للمرويات، لم يأمن النبي من الشيطان في أعوام دعوته، بعدما وقف إبليس بالمرصاد للدعوة الإسلامية منذ لحظاتها الأولى، بل وتخلّى في بعض الأحيان عن موقعه اللامرئي وتجسّد في بعض المواقف ساعياً لوأْد الرسالة المحمدية في بدايتها، فكيف يستقيم ذلك مع أن النبي تخلّص مُبكراً من "حظ الشيطان"؟
كما أن تكرار هذا "حادث شق الصدر" أكثر من مرة ينفي أن يكون الهدف منه هو انتزاع الرحمة من قلب الرسول تجاه الشيطان، فمرة واحدة كفاية للتحقق من هذا الإجراء، فلماذا حدثت 3 مرات على أقل التقديرات؟
في مساعي فهمهم لإجابة هذا السؤال على نحو صحيح، اعتقد بعض الفقهاء أن هناك أهدافاً متنوعة وراء هذا الإجراء وليس غرضاً واحداً، مثلما يحكي محمد الإتيوبي في كتابه "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى"، أن حادثة الشق الأولى أنشأت النبي "على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان"، وعندما تكرّر الأمر لحظة تكليف النبي بالرسالة في غار حراء "زيادة في إكرامه ليتلقَّى ما يُوحَى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير"، وبعدها كانت الثالثة ليلة الإسراء، حتى يكون الرسول متأهباً لهذه الرحلة العجائبية.
ما هو الشيطان؟
وبالرغم من حوادث الشق الثلاثة، نال الشيطان حظّاً كبيراً من أحاديث الرسول، واستأثر بكمّ كبير من النصائح التي زوَّد بها النبي أصحابه عن كيفية تجنّبه، وهنا فإننا لا نتوقّف على حَرْفية أن يكون المقصود بكلمة الشيطان هو إبليس وأتباعه، وإنما تتسع دائرة المعنى لتشمل الجن والعفريت والقرين وغيرها، ما يجعلها مرادفاً لأي قوة غير مرئية تدفع الإنسان لارتكاب الشرِّ والوقوع في الخطأ.
وفي هذا السياق حرص النبي مراراً وتكراراً على دعوة أصحابه إلى أن يكونوا على النقيض تماماً منه، وألا يكونوا "عوناً للشيطان على إخوتهم"، وطالبهم بالتعوذ منه في الصلاة وعند إغلاق الأبواب وعند تغطية الآنية وعند التثاؤب وعند دخول المنزل والخروج منه وعند تناول أي طعام أو شراب.
بل وربما امتدَّ هذا الحرص على التناقض، إلى الاهتمام بالجانب المظهري لمجتمع المؤمنين، فالشيطان أسود، يتمثّل في حيوانات سوداء كالكلب والقط، أما الملائكة فهي طيبة خيّرة بيضاء الشكل، وهو اللون نفسه الذي دعا الرسول أصحابه للإكثار من ارتدائه باعتباره "خير الثياب".
شياطين الأنبياء
يمنحنا القرآن قاعدة عامة بأنه ما من نبي أفلت من تأثير الشيطان عليه، فوفقاً للآية 52 من سورة الحج: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته"، وقوله في سورة الأنعام: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ".
وهكذا يبدو أن الوسوسة التي اقتلعت آدم من الجنة لم ترحم أحداً، حتى إبراهيم أبا الأنبياء الذي تجلّى له الشيطان، وحاول أن يصدّه عن ذبح ابنه إسماعيل، فقذفه بسبع حصوات، كانت نواة طقس "رمي الجمرات" الذي يحرص عليه المسلمون حتى اليوم.
وبالرغم من صيغة العموم التي تحدَّثت بها الآيتان، إلا أن حديثاً في البخاري يمنح عيسى بن مريم استثناءً خاصّاً، بعدما أكَّد النبي أن عيسى هو المولود الوحيد الذي نجا من "مسّ الشيطان". لم يستثنِ الرسول نفسه لأنه خاض نزالات متتالية معه، أقرّها القرآن حين أمر الله نبيه باللجوء للاستعاذة من "نزغ الشيطان" وهمزاته، وهي النصيحة التي طبّقها الرسول وطالب صحابته بتطبيقها أيضاً بقوله لهم: "إنه (يقصد الشيطان) ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة".
أدوار "شيطان النبي"
تكشف لنا كتب التاريخ أن "شيطان النبي" لم يكتفِ بدوره في الوسوسة ونفْث السواد في صدره وتعطيله عن أداء الصلوات، مثلما فعل خلال عودة النبي من تبوك، حينما أطال عليه النوم حتى استيقظ متأخراً بعدما ضاعت منه صلاة الصبح، لكن النبي صمّم على تعويض ما فاته قائلاً: "لنغيظن الشيطان كما غاظنا"، فيأمر أصحابه بالوضوء والصلاة، وهو ما فعله الشيطان من قبل مع النبي موسى حينما أنساه الحوت خلال رحلته مع فتاه يوشع بن نون (سورة الكهف)، ومع النبي يوسف الذي اعتبر أنه السبب في إثارة الحسد بينه وبين إخوته ومحاولتهم قتله.
وإنما تمادَى فيما هو أكثر، وحاول أن يؤذي الرسول بشكل مباشر، ساعياً لمنحه "مسّ العذاب" الذي عكّر به صفو حياة النبي أيوب وأصابه بـ"نصب وعذاب"، حتى اشتكى إلى الله وناداه بالرحمة والعفو (سورة ص).
وهنا فإننا سنتجاوز عمّا رُوي بحقِّ إبليس زعيم الشياطين، بشكل مادي ومباشر، وما قيل بشأن تجسّده في أعمال قتالية أو تحريض عدائي تجاه المسلمين والرسول شخصيّاً، وسنضيق دائرة الحديث على المعنى المجازي للكلمة، لتعبِّر عن القوى الشريرة المبهمة التي حاولت التعرض للنبي، وجرى بينها وبينه صراع مباشر.
فخلال أحد الأيام، كان النبي يقرأ في مكة سورة النجم قال: "أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، ألكم الذكر وله الأنثى"، بدلاً من أن يكمل تسلسل الآيات بقوله "تلك إذا قسمة ضیزىٰ"، ألقى الشيطان على لسانه بكلماتٍ أخرى هي: "وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى"، ثم سجد.
سمع الكفار كلمات مادحة بحقِّ أصنامهم فاستحسنوها، وقالوا: "ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر"، وسجدوا خلفه جميعاً بمن فيهم كبار مكة، كالوليد بن المغيرة وسعيد بن العاص، وربما كانت هذه هي المرة الوحيدة التي يجتمع فيها المؤمنون والمشركون في ركعة واحدة، ولم يدرك النبي فداحة ما حدث إلا "عندما أمسى" وأتاه جبريل مُعاتباً: "يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل"، فحزن النبي حزناً شديداً وخاف من عقاب الله له، وهو ما لم يحدث.
نزل جبريل مجدداً بالوحي تهويناً على النبي، فيقول القاضي بن عياض عند حديثه عن هذه الواقعة في كتابه "الشفاء"، إن آية سورة الحج نزلت تسلية للرسول، بدعوى أن ما حدث تعرّض له مرسلون وأنبياء قبل النبي.
حدثت هذه الواقعة بالرغم من وجود قوة ملائكية كلّفها الله بالعمل على حماية النبي من أي أذى، ووأْد أي مساعي إيذاء خوارقية له وهي في مهدها، ففي تفسير الضحاك لآية "فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً" من سورة الجن، أن المقصود بكلمة "رصداً" في هذه الآية، هو مجموعة من الملائكة الذين يُحيطون بالنبي، يحفظونه من الشياطين ويعصمونها من وساوسهم ويعينونه على حفظ الوحي. حدّد لنا عددهم سعيد بن المسيب، عالم الحديث الشهير والمُلقّب بـ"سيد التابعين"، مؤكداً أنهم 4 "ملائكة حفظة" يحيطون بالرسول.
من الغريب أن تُقرُّ سورة النجم "واقعة الغرانيق"، وهي تحتلُّ المركز الأربعين في ترتيب نزول السور المكية من القرآن، بينما سبقتها سورة الجن إلى النزول (في المركز الـ23)، وبرغم ذلك لا يظهر هنا دور لـ"الرصد" في حماية النبي والوحي، وهو الدور الذي انقطعت هذه القوة عن القيام به تماماً حتى وفاة الرسول.
وهكذا انحصر الكلام عن هؤلاء "الرصد" في كتب المفسرين، لكن لا نلمس لهم آثاراً في كتب التاريخ، فكثرت المواقف التي تعامل فيها النبي مع شيطانه، بل وحاول هذا الشيطان النيل منه بشكل مباشر دون أن تتدخل هذه القوة الملائكية المجهولة. فالروايات تؤكّد لنا أن النبي تُرك وحيداً في مواجهات "شياطينه"، ولم يكن يتدخل أحد لإنقاذه منها إلا جبريل، وفي هذه المواقف تتباين ردود فعل الرسول وتصل إلى حدِّ التناقض أحياناً.
ففي إحدى المرّات أتى عليه الشيطان وبيده شعلة يريد إيذاءه خلال الصلاة، فاكتفى الرسول بالاعتماد على قراءة القرآن للنجاة منه، ولمّا لم ينصرف نزل عليه الملاك جبريل وعلّمه ذِكراً خاصاً يقيه شر الشيطان هو: "قل أعوذ بكلمَاتِ الله التامَاتِ التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما يلج في الأرض، وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها".
وهو الموقف الذي تكرّر بعدها بشكل جماعي، فيُروى أن الشياطين ذات يوم، باغتت الجميع وتحدَّرت من كافة الشعاب نحو منزل النبي، وفي يد واحدٍ منهم شُعلة نار يُريد أن يحرق بها وجهه، ولم يكن ليمنعهم مانع لولا تدخل جبريل في اللحظات الأخيرة، حيث أعاد على النبي تكرار نفس الدعاء تقريباً باختلاف طفيف في الكلمات. كما يروي الحسن البصري، أن جبريل وفد على الرسول في أحد الأيام، وأنبأه بأن "عفريتاً" يكيد له، ودعاه لقراءة آية الكرسي كلما أوَى لفراشه.
لكن في موقف إيذاء رابع، كان تصرف النبي مختلفاً تماماً، فعندما تعرّض له شيطانه بالإيذاء مجدداً لم يعتمد الرسول على ما علّمه له جبريل من أذكار وآيات ولا على قوة "الرصد" الحارسة له، وإنما استخدم قوته الشخصية، فأخذ بحلق الشيطان، وهمَّ بأن يربطه في سارية المسجد حتى يستيقظ الصحابة ويرونه بأنفسهم، إلا أنه تذكّر دعوة النبي سليمان لربه بأنه يهب له ملكاً "لا ينبغي لأحدٍ من بعده"، فأطلق سراحه.
تنهي الكتب هذا الصراع بلمسة درامية
بعد ذلك تنهي الكتب هذا الصراع بلمسة درامية، حينما أعلن الرسول لصحابه أن الله "أعانه على شيطانه، فأسلم".
وهو ما يشرحه ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية": شيطان الرسول هو جني، لكن الله عز وجل أعان نبيه عليه فوعظه ونصحه كما فعل مع كفار قريش، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، وهو جزء من واجب النبي الدعوي الذي يشمل الجن إضافةً للإنس.
وهو ما اعتبره محمد الكتاني في تفسيره للقرآن، أن إسلام شيطان النبي مكرمة زائد له عن باقي الأنبياء الذين لم يُؤمن من شياطينهم واحد إلا شيطان النبي، كما أن دخول هذا الشيطان تحديداً في الإسلام، يعني انتفاء كافة وساوسه عن نفس الرسول فتعود إلى نقائها الأول.
ويقودنا هذا الفعل إلى وضع النبي في زاوية تجعله أول بشري يخرج من دائرة الصراع بين الإنسان والشيطان على خلافة الله في الأرض، بعدما تحرّرت نفسه الهمزات والوساوس ما يجعلها أشبه بحادثة شق صدر جديدة.