عريب الرنتاوي:
أن تنطلق الدعوات علنا ومن قلب إسطنبول، وعبر منابر شبه رسمية، للاحتشاد لاستعادة الخلافة العثمانية في تركيا، فهذه نقطة تحول استراتيجية في مسارات تجربة "العدالة والتنمية" الممتدة منذ ما يقرب من عقدين من الزمان، حتى وإن شكك البعض في جدية هذه الدعوات وإمكانية انتقالها إلى حيّز التنفيذ...
تركيا تتغير، بل وتتغير بسرعة فائقة، إذ قبل عقدين وسنوات قليلة فقد رئيس بلدية إسطنبول حريته، لمجرد تلفظه بقصيدة جعلت من قباب المساجد "تروسا" ومن مآذنها رماحا... اليوم، تبدو الجمهورية برمتها، مرشحة للاحتفال بآخر مئوية لها، بعد ثلاثة أعوام، كما يأمل "أنصار الخلافة".
ضجّ الرأي العام التركي، ومن حوله الرأي العام في دول المنطقة وعواصمها، بصدور عدد خاص من مجلة "الحياة الحقيقية" التي تصدر عن مجموعة "البيرق" المقربة من الحزب الحاكم، ويرأس إدارتها مصطفى البيرق المدير التنفيذي لصحيفة "يني شفق" المؤيدة بحماسة للرئيس التركي رجب طيب إردوغان... غلاف العدد حمل شعار الخلافة: "لا إله إلا الله محمداً رسول الله"، مذيلا بعبارة: "إن لم يكن الآن، فمتى؟... وإن لم تكن أنت فمن؟... احتشدوا للخلافة".
جاء ذلك في لحظة فارقة في تاريخ تركيا الحديث، عندما قرر إردوغان تحويل كنيسة آيا صوفيا البيزنطية، إلى مسجد من جديد، بعد سبعة عقود من تحويل الأثر التاريخي إلى متحف مفتوح للعامة، وما رافق المناسبة من احتشاد جماهيري ومسيرات راجلة، تذكّر بمواسم الحجيج إلى العتبات المقدسة في العراق، وسط مشاعر قومية ـ دينية فوّارة، تُردد صدى مثل هذه الدعوات، بل وتحمل لواءها.
والحقيقة أن هذه الدعوات والتحولات، تستكمل مشوارا طويلا، من التحولات العميقة والنوعية في السياستين الداخلية والخارجية في تركيا، وهي التحولات التي تسارعت مع بدء ثورات الربيع العربي، وانبلاج فرصة امتطاء أنقرة للمد الإسلامي الذي رافق هذه الثورات وتصدرها، وبالأخص بعد محاولة الانقلاب العسكرية الفاشلة في العام 2016، والتي ستتحول إلى مناسبة للإطاحة المنهجية المنظمة، بكافة قلاع العلمانية في البلاد، وإطلاق العنان لتيار "العثمنة"، ليقرر التوجهات والسياسات في الداخل والخارج.
في الداخل، وبعد أن ودّعت تركيا رهانها على الالتحاق بعضوية النادي الأوروبي، أخذت تسير بلا حذر، على طريق الانتكاس عن المسار الديمقراطي في البلاد، السجون تعج بساكنيها، وتركيا باتت أكبر سجن للصحفيين، بعد بسط السيطرة الحكومية والعائلية على وسائل الإعلام... أما الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، مطلق الصلاحيات، فقد كان محطة فارقة في مسار التراجع والانتكاس هذا.
لكن الجديد الذي طرأ مؤخرا، هو أن "الجمهورية" بذاتها، باتت موضع تشكيك، ولتصبح في قلب دائرة الاستهداف، تزامنا مع الدعوات الصريحة للاحتشاد من أجل استعادة الخلافة... أما انتقاد مؤسس تركيا ورمزها، مصطفى كمال أتاتورك، فلم يعد أمرا محظورا، يدور في الصدور وخلف الأبواب المغلقة، فهذا أرفع مسؤول للشؤون الدينية، علي أرباش، يلعن أتاتورك من على منبر آيا صوفيا، وفي أول صلاة جمعة، وبحضور الرئيس التركي، الذي كان قبلها بقليل قد زار ضريح الزعيم المؤسس ووضع أكاليل من الورد عليه، في تعبير فاضح عن "التقية" و"الازدواج" و"النفاق".
وكعادة الحركات والأحزاب الإسلامية، أو ذات المرجعية الإسلامية، فإن نظرية "التمكين" تقتضي التسلل إلى كافة مفاصل الدولة والمجتمع، وفق منهج شمولي، لا يترك شيئا للصدف... البرلمان ذو الغالبية من الحزب الحاكم، يقر تشريعا بتسليح وزيادة عديد "حراس المدن"، لتكون أقرب للمليشيا الموازية للحزب الحاكم، أو "حشدا شعبيا سنيا"، تحسبا لأي طارئ، والبرلمان ذاته، يقر قوانين لبسط السيطرة وتشديد القيود على وسائط التواصل الاجتماعي، وعمّا قريب، سيعاود العمل بعقوبة الإعدام، والانسحاب من عدد من الاتفاقات الدولية، ذات الصلة بحقوق النساء وحرياتهن.
أما على الصعيد الخارجي، فإن "اتفاقية لوزان 1923"، التي رسّمت حدود تركيا الحديثة، باتت في قلب دائرة الاستهداف المنهجي والمنظم... ومن يتابع تصريحات المسؤولين الأتراك، وبالأخص الرئيس، يستشف حنينا للعودة إلى العهد العثماني، والتمدد التركي في المنطقة، يسير وفقا لخرائط الحقبة العثمانية، من شمالي سوريا والعراق، مرورا بالصراع الجزر اليونانية في بحر إيجة ومنطقتي باب المندب (الصومال) والخليج، وحتى ترسيم الحدود البحرية الذي يكاد يجعل من شرق المتوسط "بحيرة تركية"، فيستحيل "القوس العثماني" بذلك، إلى "دائرة مغلقة".
وليس مستبعدا والحالة كهذه، أن تتوالى "المفاجآت" التركية في الداخل والخارج، الواحدة تلو الأخرى... ثمة عمليات طمس للإرث الكمالي في البلاد، مصحوبة بأوسع عمليات "الأسلمة" للدولة والمجتمع، وثمة دعوات لإعادة الاعتبار لإسطنبول كعاصمة للخلافة بدل أنقرة، ذات "الهوية العلمانية الكمالية"...
وفي الخارج، لا يبدو أن ثمة حدودا لأحلام "السلطان" وحروبه، ولعل إعلان التدخل في النزاع الأذري ـ الأرميني، وإرسال أسلحة وخبراء و"مرتزقة سوريين" للقتال إلى جانب حكومة أذربيجان في مواجهة أرمينيا، هو أحدث هذه المفاجآت، بيد أنه لن يكون آخرها.
مثل هذه التحولات والانقلابات في المشهد التركي، من الطبيعي أن تثير قلق أوساط تركية وإقليمية ودولية واسعة، وأن تزيد في عزلة أنقرة على الساحة الدولية، وأن تعمّق الانقسامات "الهوياتية" داخل البلاد كذلك... الأجندة التي يحملها الرئيس وحزبه الحاكم، قد تصبح حملا على الدولة والحزب سواء بسواء، وقد تفضي إلى سقوط الحزب في الداخل، وتهميش تركيا في الخارج، إن ظلت الشهية التوسعية الإمبراطورية للقيادة التركية على نهمها للسلطة والتفرد في الداخل، والتوسع والهيمنة في الخارج.
مثل هذه المخاوف، لا تراود معارضي الرئيس من الأتراك من الأحزاب العلمانية أو حتى المنشقين عن حزبه الحاكم، بل وتمتد إلى أوساط داخل الحزب، التي لا تكف عن بعث رسائل الطمأنينة لكل الخصوم والمجادلين، وإذا كان بعض هذه الرسائل صادق في مراميه ومقاصده، فإن بعضها الآخر، يندرج في إطار "لعبة تقاسم الأدوار" لا أكثر، وإلا كيف يمكن تفسير التصريحات المنسوبة لأحد أكثر أتباع إردوغان ولاء، الوزير عمر تشيليك، التي جدد فيها احترام مبادئ الجمهورية الديمقراطية العلمانية، بعد كل هذا الضجيج الذي سبق ورافق وأعقب "غزوة آيا صوفيا".
والحقيقة أن شعار "الاحتشاد للخلافة"، وإن كان المقصود به، "عثمنة" السياستين الداخلية والخارجية للبلاد، وتصفية ذيول وخرائط اتفاقية لوزان، إلا إنه من حيث لا يدري أصحابه والقائلين به، قد ينتهي إلى نتائج عكسية للغاية، نصف الشعب التركي أو أزيد قليلا لا يريدها، ودول المنطقة وجوار تركيا، تقاومها بشدة، والعالم بعد قرن من سقوط الخلافة، ليس بوارد إعادة استقبالها من جديد، ويكفي القول، إن جماعة الإخوان المسلمين، هي وحدها من يستجيب لدعوات الاحتشاد للخلافة، حتى يتضح عمق المأزق الذي تسير نحوه أنقرة، وبوتائر متسارعة.