عمران سلمان:
كالمعتاد فجّر الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، مجموعة أخرى من القضايا التي تطفو على السطح في مثل هذه الحالات، بينها أن المسلمين لا يعادون اليهود وإنما يعادون الصهيونية. وهذا حديث لا أتصور أنه صحيح أو دقيق، رغم أن الكثيرين يرددونه من دون كلل أو ملل.
الحقيقة التي يعرفها جميع المسلمين هي أن القرآن والأحاديث ذمت اليهود وشبهتهم بأوصاف مختلفة، ولا يزال المسلمون حتى اليوم يتبنون هذه الصفات والأفكار ويستشهدون بها.
وهذا لا علاقة له بإسرائيل وما فعلته، ولكن له علاقة بالتعامل مع الآخر، غير المسلم. وقد حاول البعض أن يعيد تفسير الآيات والأحاديث بهدف التخفيف من وطأتها، لكن لم يحالفه الحظ، لأنها واضحة وصريحة وهي قطعية الدلالة والثبوت، كما يقال. طبعا لا يوجد أيضا ما ينفي أن اليهود أنفسهم ربما ينظرون إلى المسلمين بنفس الطريقة وربما أسوء.
تمييز متجذر
لكن هذا ليس هو موضوع مقال اليوم وإنما التمييز وعلاقته بالدين. التمييز بين البشر هو صفة ملازمة لجميع الأديان. والاختلاف يكمن فقط في كيفية تطبيق هذا الدين أو ذاك لهذا التمييز وتبعاته (أي الاختلاف في البشر أنفسهم).
والمسألة التي ينطلق منها كل دين ابتداء هي التمييز بين من يؤمنون به ومن لا يؤمنون. وهذه بديهية. فالأولون لهم حقوق ومعاملة خاصة تختلف عن الآخرين. طبعا لو كانت الأديان مجرد أفكار هامشية موجودة لدى بعض البشر، في أجزاء بعيدة من الأرض، ربما لما احتاج منا الأمر أن نكتب هذا المقال.
ولكن الأديان سيطرت عبر التاريخ على رقاع جغرافية كبيرة وعلى أعداد هائلة من السكان ولا تزال حتى اليوم تهيمن على مثل ذلك، لهذا فالسؤال هو: كيف يمكن لأي شعب أو مواطنين أن يحلموا بالتأسيس لفكرة الدولة المدنية القائمة على المساواة والحقوق وحكم القانون، وفي الوقت نفسه يصرون على أن دين الدولة مثلا هو الإسلام؟
معاناة غير المسلمين
هذا ليس مجرد تناقض ثانوي، هذا تناقض رئيسي. فما دام أنك تحدد أن للدولة دين فأنت تقرر منذ البداية فكرة التمييز بين من ينتمون إلى هذا الدين ومن لا ينتمون إليه. لأن الدين نفسه يفرض ويدعو لمثل هذا التمييز. ولا يمكن للمشرّع إلا أن يأخذ ذلك في عين الاعتبار ويصيغ القوانين على هذا الأساس.
وكل الدول التي تجعل الدين مصدرا رئيسيا أو أحد مصادر التشريع هي دول تنتهك بالضرورة مبادئ حقوق الإنسان وتخالف الشرائع الدولية، حتى وإن اعتقدت خلاف ذلك. وهذا يمكن أن نجده في القوانين والتشريعات المختلفة في العديد من الدول العربية والإسلامية. حيث إن المواطنين من غير المسلمين يعانون أشد المعاناة عندما يتعلق الأمر بتعريف وضعهم القانوني في إطار الدولة التي ينص قانونها الأساسي على أن الدين هو مصدر التشريع.
لكن الأمر يتعدى المسائل القانونية إلى مجال أكبر وهو الوظيفة العامة في الدولة. فهذه الوظيفة لا يمكن أن تسند لغير المسلم بصورة قطعية. والاستثناءات القليلة التي حدثت عبر الأزمنة المختلفة، كانت إما بسبب الحاجة الملحة وانتفاء البديل أو نتيجة تجاهل الحاكم لتلك النصوص والأحاديث.
الدولة المنشودة
والسؤال الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا هو: ما هو نوع الدولة التي نريد أن نبنيها أو نعيش فيها؟ هل هي دولة لجميع مواطنيها، أم هي لجزء منهم، وإن كانوا يشكلون الأغلبية؟
واحدة من أعظم المشاكل التي تواجه العرب والمسلمين، هي تعريف الدولة التي ينشدونها. يخيل للإنسان أحيانا بأن المشكلة محصورة فقط في النظام السياسي أو نوعية الحكومات الموجودة في هذه الدول، ولكن التمعن يفضي بنا إلى الاستنتاج أن المشكلة هي أعمق من ذلك بكثير. فحتى الدول التي تتسامح مثلا مع الأقليات الدينية أو غير الدينية أو ربما تمنحهم حقوقا معتبرة، لا تنطلق في ذلك من قوانينها، وإنما من براغماتية سياسية، وربما من قناعة شخصية لدى القائمين بالأمر. لكن ذلك يجعل هذه المعاملة أيضا مؤقتة وليس لها قوة قانونية أكيدة.
بالطبع هناك من قد يعترض بالقول إن الحديث يدور عن دول غالبية السكان فيها من المسلمين، فلماذا الاعتراض على أن يكون دين الدولة هو الإسلام؟
وهذا الاعتراض الذي قد يبدوا منطقيا لأول وهله، يكشف في حد ذاته عن خلل كبير، وبالتأكيد عن ضيق أفق أكبر.
حكمة المؤسسين
عندما وضع المؤسسون الأوائل في الولايات المتحدة الدستور الأميركي والقوانين المنظمة للحريات، كان يمكن أن يثار السؤال نفسه، وهو أن غالبية المجتمع الأميركي وقتها هم من المسيحيين، فلماذا ينبغي الأخذ بعين الاعتبار أتباع الأديان الأخرى أو من لا دين لهم؟
لكن حكمة وبعد نظر المؤسسين الأوائل كانت أكبر، وتم تجاوز هذا النوع من الاعتراضات الضارة، قصيرة النظر. واليوم بفضل ذلك يتمتع الأميركيون من مختلف الأديان والقوميات والانتماءات والخلفيات الثقافية والسياسية بالمساواة في إطار الدستور والقوانين الأميركية. ولنا أن نتخيل لو أن الحجة التي يطرحها بعض المسلمين اليوم، قد انتصرت على يد المسيحيين قبل قرنين، ماذا سيكون عليه وضع أميركا الحالي.
والحال أن المطلوب منا اليوم هو ليس أن نقلد ما قام به المؤسسون الأميركيون (مع أن ذلك سوف يكون عظيما في حد ذاته)، وإنما أن نطوّر مفاهيم أعمق للمساواة وللإنسان وللحياة البشرية، لا أن نرتد إلى القرون الغابرة.