وائل توفيق:
يواجه الكاتب إبراهيم عيسى انتقادات لاذعة، كلما تحدّث وأينما كتب أو أطلّ، سواء عبر الصحافة التي استغنى عنها مؤخراً، أو عبر برامجه المتلفزة أو تلك التي يقدمها عبر الراديو.
ومؤخراً اشتدت هذه الانتقادات وكثرت بسبب فيلمه الأخير "صاحب المقام" الذي عُرض على منصة "شاهد" الرقمية، وحقق نحو ثلاثين مليون مشاهدة.
ورغم أن الجدل الدائر منذ أول لحظة لنشر الفيلم على "شاهد" لم ينتهِ، بل تعلو نغمته، لكنه كان هادئاً للغاية، ويرتدي جلبابه. وما إنْ دخلنا مكتبته أدار أسطوانة الغراموفون ليخرج صوت أم كلثوم ويخيّم على أرجاء المكان، وبدأ حديثه، يحلل ويفكك كل الانتقادات التي يقرأها هنا وهناك، ويؤكد أنه لم يُفاجأ ولو بكلمة واحدة.
بإيماءات وحركات تشبه حرات الدكتور "يحيى" والشيخ "حاتم" في أفلامه، راح إبراهيم عيسى يحكي عن شغفه بالسينما وتجاربه السينمائية وإحباطاته وصداقاته بالأجيال السينمائية المتعددة، وعن شعوره بالغبن من النقاد الذي يتجاهلون إنتاجه الفني المتنوع ما بين الرواية والسيناريو والقصة، وعن مشروعاته السينمائية القادمة.
وهنا نص الحوار معه:
ذكريات الطفولة، مشاهدة الأفلام في سينما النصر بالمنوفية، وكتابتك لاسمك على أفيشات الأفلام، وتقليدك للفنانين... حدّثنا عن تلك المرحلة، وأخبرنا كيف شكلت شغفك بالسينما؟ وما هي الأفلام التي لا تنساها؟
من المفارقات التي أحكيها لأصدقائي ولنفسي دوماً أن سينما "النصر" في مركز "قويسنا" في محافظة المنوفية أغلقت وقت كان آخر أفلامها المعروضة "أبداً لن أعود" (1975)، من إخراج وتأليف حسن رمزي، وبطولة الفنانين رشدي أباظة ونادية لطفي وعماد حمدي، وظل الأفيش على أطلال السينما لثلاث أو أربع سنوات إلى أن هدمت، وشُيّدت بدلاً منها عمارات، وكأن الفيلم عنواناً لنهايتها.
أحب أن أشير إلى فترة السبعينيات التي شهدت تحولات عنيفة في المجتمع المصري، ولم يكن لديّ وعي سياسي بها، فقد كنت طفلاً، لكن ما أعيه من تلك الفترة أن المحافظات الأقرب إلى مدينتي "قويسنا"، أي القاهرة وبنها وطنطا، كانت متخمة بدور العرض، مما سهل عليّ فرصة السفر إليها. أما الآن، فمحافظات الدلتا فيها خمس قاعات عرض فقط، وهذا جنون، فكيف يمكن لتعداد يتخطى الـ11 مليون نسمة التردد على هذا العدد الضئيل من دور العرض؟
أعترف بأن طفولتي كانت سعيدة للغاية، فكان لدينا سينما "النصر" الصيفي بـ"قويسنا"، وفي بنها أربعة أو خمسة دور عرض، وفي طنطا عشرة سينمات أو أقل قليلاً، وكنا نتردد على هذه السينمات في جميع المناسبات، الأعياد والإجازات الأسبوعية. وأتذكر أنني شاهدت أفلام، "رصاصة لا تزال في جيبي" (1974)، في سينما "الحرية" في مدينة بنها، وفيلم "المشبوه" (1981) شاهدته في أيام العيد في سينما مدينة طنطا مع أصدقائي، في فترة دراستي في المرحلة الإعدادية.
وكانت سينما "النصر" تقدّم ثلاثة عروض سينمائية في برنامج واحد. أضف إلى ذلك، وقت زيارتي لعمتي في محافظة الإسكندرية في فترة الصيف، كنت أتردد على قاعات السينما في محطة "الرمل"، مثل سينما الريو، أمير، ريالتو، فريال، ستراند. فالسينما بالنسبة إليّ في فترة الطفولة كانت طقساً اجتماعياً.
أتذكر أننا أول أسرة أدخلت جهاز التلفزيون إلى منزلها، فأنا من مواليد عام 1965، والدي تزوّج من والدتي عام 1960، وقضيا فترة تعيننهما في محافظة المنيا لمدة عامين، وفور عودتنا إلى المنوفية اشترى جهاز التلفزيون، وهو ما جمع كل جيراننا في منزلنا، ليشاهدوا المسسلات الشهيرة وقتها، ومنها، الساقية، الرحيل، هارب من الأيام. كان هذا المشهد مشهد طفولتي. كنت وقت نزول المجموعة التي تقارب الثلاثين فرداً من بيتنا أسرع إلى البلكونة لأشاهد منظر خروجهم من باب العمارة، وكان هذا مشهداً سينمائياً رائعاً بالنسبة إلي.
ولا أنسى أن أشير إلى أن عمتي الثانية كانت تعيش في مدينة المحلة، حيث السينمات العديدة، أمثال سينما الحرية، المرافق، المحلة، وكنت أتردد على هذه الدور وقت قضائي للإجازات هناك، كما أنني كنت لا أفوت فرصة زيارة ابن عمتي لنا لأساله عن الأفلام التي تعرض هناك.
ووصل شغفي بالسينما في طفولتي وصباي إلى أنني كنت أكتب أسمي على أفيشات السينما، وكنّا ننظم مسابقات بين أفراد عائلتي عن أفضل فيلم، أفضل ممثل. وقتها كانت السينما المصرية تنتج أكثر من ستين فيلماً في العام. كما انضممت إلى فرقة التمثيل المسرحي في مدرسة "أحمد عرابي" الابتدائية، وحصلت على جائزة أفضل ممثل في محافظة المنوفية.
في كتابك "على مشارف الخمسين"، ألمحت إلى قدرة والدتك وخالتك الفائقة على الحكي القصصي، هل كانت هذه الحكايات ملهمة لك في ما بعد في خطواتك تجاه الكتابة للسينما؟ أي هل أعدت حكي الحكي الذي سمعته منهما؟
لك أن تعلم أن والدتي كانت حكّاءة عظيمة، وكتبت القصة والرواية نتيجة لجيناتها وبراعتها في الحكي من ناحية التقمص والأداء الصوتي والتطور الدرامي، بالإضافة إلى أن خالتي كانت مسؤولة حكايات ما قبل النوم بالنسبة لي، لكنني عندما أتأمل حكاياتها الآن أجدها في منتهى العنف. منها مثلاً، أتذكر حدودتة "أنا العصفور الأخضر الأخضر، أمشي على الحيطان وأتمخطر، مرات أبويا دبحتني، وأبويا كل مني". كيف يمكن أن تحكى هذه الحكايات للأطفال؟
ذكرت في حواراتك الصحافية أنك كنت تشاهد الفيلم الواحد لأكثر من مرة في اليوم الواحد، أي كنت تدخل قاعة السينما وتخرج للراحة والصلاة في المسجد المجاور لقاعة السينما، ثم تعود إلى القاعة مرة أخرى في موعد الفيلم. فهل يمكن أن نرى في المجتمع المصري الحالي، في ظل انتشار التشدد والتطرف، السينما والمسجد في آن واحد في قلب الشباب؟
كانت هذه الفترة مرتبطة عندي بزيارتي لمحافظة الإسكندرية، ووقت دراستي في محافظة القاهرة في كلية الإعلام في جامعة القاهرة. ففي مدينة "قويسنا" كانت توقيتات عروض السينما الصيفية ليلاً، لذا فهي بعيدة عن مواعيد الصلاة، وفي الإسكندرية كانت المواعيد في السادسة، والتاسعة مساءً، لذا تتعارض مع موعد آذان المغرب، فكنت أخرج للصلاة في مسجد في "النبي دانيال" في محطة الرمل، ثم أعود لمشاهدة الأفلام. أما في القاهرة، فكانت السينما بالنسبة لي شرياناً حقيقياً، وأذكر أنني في المرحلة الثانية من دراستي في كلية الإعلام، سألَت الدكتورة جيهان رشدي، عميدة كلية الإعلام سابقاً، زملائي عني، فردوا: "إبراهيم في سينما كريم" (ويضحك).
تقريباً كنت أقيم في هذه الفترة (صيف 1985 إلى فترة عام 2001) في "وسط البلد" في القاهرة، في سينما "كريم" و"كايرو"، أدخل عرض الثالثة مساءً، وأعود للصلاة، ثم للسينما مرة أخرى لمشاهدة عرض السادسة مساًء، وكان بداخلي في هذه الفترة سلام داخلي ما بين التدين والسينما، وكان هذا حال مصر كلها وقتها، والشباب أيضاً، وأعتقد أنهم هكذا الآن، رغم الأزمات الفكرية التي نعاني منها.
وفي رأيي أن السينما جامع والجامع صلاة ورحمة وحب وتواصل مع الله، وهذه كلها قيم من المفترض أن تؤسسها وتنميها وتعظمها السينما، فالجامع تقام فيه خمس صلوات لله، لكن العلاقة بالله ممتدة من ما قبل الشعيرة وتبقى بعدها، فإذا كان الجامع فيه صلاة لله، فللسينما والفن صلة بالله أيضاً، لا تناقض بينهما، وكل مَن يريد نشر هذا التناقض لا بد أن يعيد النظر في التيار الأسود الإرهابي الوهابي بكل عنفه وغبائه وسوداويته.
وأؤكد أن في مصر هذه الأزمة مفككة ومحلولة منذ وقت الفنانين أصحاب العمائم، الشيخ سيد درويش والشيخ أبو العلا محمد، عدا حفلات وحلقات الغناء الصوفي والتعبد بالصلاة، ومنذ فترة تحويل المشايخ قراءة القرآن الكريم إلى تلاوات تعتمد على المقامات الموسيقية.
ورغم أننا عانينا من الأفكار الوهابية إلا أن السعودية الآن تتنصل من كل هذه الأفكار، بدليل أن منصة "شاهد" هي التي تعرض فيلميّ "صاحب المقام"، و"الضيف"، وهما ضد كل المنظومة الوهابية وثوابتها، بالإضافة إلى تحوّل السعودية أيضاً تجاه الفن، بينما المجتمع المصري ما زال يتمسك بكل هذه الأفكار بسبب التيار السلفي. لكني أؤمن بأن مصر ستنتصر وتخرج من هذا المأزق التاريخي الهائل.
تحدثت عن فيلميْ "حمام الملاطيلي" و"عودة الابن الضال" كفيلمين من بين الأفلام التي تأثرت بها وشكلت وعيك في فترة الشباب، أو كما أسميتها "الصعلكة". عدّد لنا الأفلام الأخرى التي أثرت فيك في تلك المرحلة؟ ولماذا؟ وكيف تأثر بها المجتمع المصري وقتها؟
بلا شك، السينما المصرية دائماً تؤثر في وجدان الشعب المصري. في فترة شبابي، في السبعينيات والثمانينات، كانت أفلام يوسف شاهين أمثال "العصفور" و"الاختيار" و"عودة الابن الضال" مؤثرة في الوسط النخبوي، وأثّرت بي كشاب يتطلع إلى الثقافة، بجانب أفلام المخرج صلاح أبو سيف. وكان هناك كمّ كبير من الدعم لسينما شاهين من قبل النقاد كسامي السلاموني، كمال رمزي، ورؤوف توفيق، ولكنني الآن أجد أن عطاءات كمال الشيخ، حسن الإمام، صلاح أبو سيف، لا تقل عن سينما يوسف شاهين، هذا إنْ لم تزد.
وفي فترة الثمانينات، ظهر ما سُمّي بأفلام الـ"الموجة الجديدة"، وكانت شيئاً ساحراً ومؤثراً للغاية. مخرجو هذه الموجة هم عاطف الطيب، خيري بشارة، داود عبد السيد، محمد خان. جمعت أفلامهم بين الحالة السينمائية المختلفة والمتغايرة والمتجاوزة للتقليدية وبين المضمون المصري، حتى أن مجموعة أفلام "خان" ومنها "خرج ولم يعد"، "سوبر ماركت"، و"أحلام هند وكاميليا"، والتي تبدو للبعض أشبه بالسينما الغربية، كلها مصرية صميمة.
ولا أنسى أنني في هذه الفترة جمعتني صداقة قوية بكل هؤلاء، فحضرت غسل ودفن المخرج عاطف الطيب، وعشت في منزل خيري بشارة في منطقة "شبرا" أياماً وليالي، وكانت لي مشاريع سينمائية مع "خان" منها فيلم "السادات".هذا الجيل يُعَدّ الأقرب والأحب لي، وانتمي له. ورغم أنني نشأت وسط هذا الجيل، إلا أنني انقطعت عن الكتابة في السينما، وبعد 25 عاماً تقريباً، عدت مرة أخرى مع جيل آخر مختلف تماماً، ويخيّل إليّ أنني أقدم من أي كاتب سيناريو موجود الآن في مصر.
نمشي قليلاً، لنتحدث عن إرهاصات المرحلة الأولى في اتجاهك للكتابة للسينما.. مَن الذي أخذ بيدك إلى هذا الاتجاه؟ ما هي الحكاية؟
طوال الوقت كنت أبحث عن الكتابة للسينما، كأديب وكاتب. كان أول علاقتي مع الكتابة للسينما عن طريق الفنان أحمد زكي في مشروع فيلم "الليل وآخره". وقتها كتبت مقالاً نقدياً في الصفحة الأخيرة من مجلة "الكواكب" المصرية عن فيلم "آخر شتا"، وهو مشروع تخرج في معهد السينما لطالبة تُدعى ساندرا نشأت، وفور عودتها من سفر التقينا، واكتشفت أنها أعظم مما كتبت عنها، وأقنعتها بأن تترك العمل كمساعدة مخرج وتعمل كمخرجة مباشرة لبراعتها وقدراتها، في الوقت الذي نصحها أيضاً المخرج سمير سيف نفس نصيحتي، واتفقنا على مشروع وكان "الليل وآخره" 1994 وهو مستوحى من حكاية عمها.
تجربة فيلم "الليل وآخره" تعطلت. ما حكاية هذه التجربة؟
بعدما اتفقت مع ساندرا نشأت على فيلم "الليل وآخره" عرضناه على الفنان أحمد زكي، وأجّله لوقت بعيد خوفاً من تجسيده لشخصية "الأب" البطل في الفيلم، فعرضناه على الفنان محمود عبد العزيز ووافق على بطولته، وبعد فترة فوجئنا برفضه. ما حدث أن منتج الفيلم الفنان الراحل سامي العدل أرسل نسخة قديمة من السيناريو لمحمود عبد العزيز مكتوباً في مقدمتها "إلى العزيز الفنان أحمد زكي هذا فيلمك"، فغضب عبد العزيز.
لم نيأس، عرضناه مرة أخرى على الفنان يحيى الفخراني، لكننا لم نجد منتجاً متحمساً له، لأن الفخراني كان منشغلاً بالعمل للدراما، بالإضافة إلى بعض الاعتراضات منه على بعض التفاصيل التي تخص السيناريو والشخصيات، وانتهى المشروع للأبد، ومن ناحيتي، اعترضت وقلت "أنا مش كاتب".
أما بخصوص اسم مسلسل "الليل وآخره" الذي جسد بطولته الفنان يحيى الفخراني في ما بعد، فقد استأذن ساندرا نشأت في الاستعانة باسم فيلمنا، كما أنها تعاونت معه في ما بعد في فيلم "مبروك وبلبل" كمخرجة عام 1998، وهذه تجارب البدايات.
شاركت في ما بعد في كتابة سيناريو أولي لفيلم "السادات"، بطولة الفنان أحمد زكي، لكنك لاحقاً خرجت غاضباً ورفضت كتابة اسمك على أفيش الفيلم. لماذا رفضت، رغم أنك ندمت في ما بعد كما ذكرت؟
في مشروع فيلم "السادات" مع الفنان أحمد زكي، كان المخرج محمد خان مبهوراً بالسيناريو الذي كتبته، لكن نظراً لخلافات بين خان وزكي، وخلافي أيضاً مع المخرج علي بدرخان الذي كان سيتولى إخراج الفيلم قبل خان، تركت الفيلم. وبعد فترة طلب مني الفنان أحمد زكي كتابة اسمي على السيناريو الخاص بي، لكنني رفضت، لكبرياء وغباء فترة الشباب، وظهر أول فيلم دون أن يُكتب عليه اسمي، وندمت في ما بعد فقد حقق الفيلم نجاحاً كبيراً، وكنت أولى به.
دائماً ما تحكي عن عشقك لتجربة الشاعر صلاح جاهين، كونه كان رساماً للكاريكاتير وممثلاً وشاعراً غنائياً وصحافياً ونجح في كل ذلك. ويبدو أنك تسير على نفس النهج، فقد شاركت عام 2003، وعام 2006 في فيلمي "ما يطلبه المستعمون"، "خيانة مشروعة" كممثل. هل تريد السير على خطوات صلاح جاهين؟
للأسف، توفي صلاح جاهين قبل أن ألتقيه. وقت وفاته كنت لا أزال في المرحلة الثانوية. ما يغريني في شخصيته هو موسوعيته. كان رساماً، شاعراً، صحافياً، ممثلاً، سيناريست، منتجاً سينمائياً، ويمكن أن نقول مطرباً، فهو من أعظم عباقرة العطاء الفني والإبداعي في مصر والوطن العربي عموماً، رغم ما قيل عن أغانيه التي كتبها في فترة الستينيات والنكسة عام 1967 من أنها موالية للنظام الناصري.
ساهم جاهين في بناء أوهام وحالة تعظيم وعبادة للفرد، لعبد الناصر، لكنه أحبط ودخل في نوبة اكتئاب شديد بسبب ذلك، وهو ما يثبت أنه كان فناناً عظيماً ونقياً، لأنه اكتأب عندما اكتشف هولها، وشعر بالذنب وعبء وثقل ما أقدم عليه، بكل صدق لا نفاقاً، حسب وجهة نظري.
لكن بخصوص طموحي في تكرار تجربته، أرى أنه لا يوجد نسخ مكررة في التاريخ، فصلاح جاهين بالنسبة لي منهج حياة، وفي جيلي لا يوجد شخص بهذه الموسوعية غيري، وهذا لا يعيب البقية.
وأجزم أن هذه الموسوعية تساعدني كثيراً، فمثلاً عندما أقع تحت وطأة الظروف والضغوط السياسية وغيرها، أستطيع أن أعمل في مجالات متنوعة ومختلفة، كالكتابة للسينما، أو تقديم البرامج الفنية، وكتابة الروايات. هذه الحالة التعددية "جاهينية" للغاية، وأنا انتمي لهذه المدرسة.
لكن في رأيي، هذه الحالة الموسوعية تحدث إشكالية كبيرة للغاية في مجتمعنا، فهناك أشخاص يستكثرون عليّ هذا التميز في أكثر من مجال. يقولون "هو هياخد كل حاجة؟". وشكل هذا إشكالية بالنسبة لي كروائي منذ عشر سنوات وأنا أشعر بغبن من النقاد والحالة النقدية في مصر، ورغم أنني كنت لمدة ثلاثين عاماً رئيساً لصحف كتبت فيها كل الأقلام العظيمة والمتألقة، لم يكتب عني حرف واحد فيها. نجاحي كرئيس تحرير وصحافي وناشط في المجال السياسي العام طغى على نجاحي كروائي ونُسى "إبراهيم" السيناريست.
وبالمناسبة أذكر أن الفنانة نيللي، وقت تقديمي لبرنامج "فرجة" على قناة "أوربيت"، وبرنامج "الله أعلم" على شاشة قناة "دريم" في نفس التوقيت، سألتني في دهشة: "هو أنت اللي بتقدم برنامج فرجة في أوربيت، ولا واحد تاني؟"، فرددت: "لا، ده أخويا التوأم"، لأنني أشفقت عليها من أن ترى شخصاً واحداً يتحدث عن عبد الله بن عباس، وصلاح ذو الفقار في وقت واحد.
واعترف لك بأنني أعتبر نفسي "كاتباً" لكل الأشكال الأدبية، وطوال الوقت أقول إنني لست مذيعاً تلفزيونياً، بل محاضراً تلفزيونياً، أو صحافياً تلفزيونياً، وأذكر في عام 2001 أنني كنت أوّل مَن قدم المقدمة الصحافية الطويلة في التلفزيون ووصلت من عشر دقائق في البداية إلى ستين دقيقة كاملة، ومن ثم أصبحت ظاهرة في ما بعد. وما يجعلني أشعر بالغبن أنه لا يوجد شخص يتتبع هذه النجاحات، بل أرى حقداً عليها، وانزعاجاً من نجاحي المتعدد والمستمر.
حُوّلت روايتك "مولانا" إلى فيلم سينمائي بنفس الاسم. وقبل أن ندخل في مناقشة الفيلم، شهدت بداية العمل عليه، معركة حول كتابة السيناريو، واتهم المخرج أحمد علي بالسطو على السيناريو الذي كتبه محمد صلاح راجح الذي ندد بذلك، وقيل إنك رفضت ما كتبه "صلاح"... فما هي الحقيقة من بين هذه الروايات المتناثرة في مواقع الأخبار وصفحات التواصل الاجتماعي؟
الحكاية هي أن الشاب محمد صلاح راجح كان من المهتمين برواياتي وأعمالي، وطلب مني تحويل رواية "مولانا" إلى سيناريو للمشاركة به في مسابقة جائزة ساويرس الثقافية فقط، وأرسل لي نسخة من السيناريو أعتقد أنها كانت لطيفة، لكنها ليست احترافية، وانتهى الموضوع. وبعد فترة اشترى حقوق ملكيتها الفكرية المخرج عمرو عرفة وطلب مني تحويلها إلى عمل درامي يكتب السيناريو الخاص به الكُتّاب محمد البزاوي وحازم الحديدي، على أن أن يكون من بطولة الفنان أحمد عز، وصدرت أفيشات العمل بالفعل، كما رشحت لهم باحثاً للعمل معهم لضبط الآيات القرآنية والأحاديث، لكن تعطل المشروع لأسباب منها عدم تحمس أحمد عز للحلقات المكتوبة، وانشغاله بأعمال فنية أخرى، بالإضافة إلى سيطرة الإخوان وقتها على المشهد السياسي، وتم التراجع عن المشروع، ثم طلب مني المخرج حسني صالح تحويلها إلى عمل درامي أيضاً فاسترددتها من عرفة بعدما استرد قيمة العقد، لكن المشروع أيضاً لم يكتمل.
وبعدها طلب مني المخرج مجدي أحمد علي شراء حقوق الملكية الفكرية للرواية، وكان متحمساً لها من البداية، وتواصل مع رجل الأعمال نجيب ساويرس لإنتاج الفيلم، ووافق بالفعل، وتكفلت بالإنتاج إحدى شركاته، "آي برودكشن"، برئاسة أمجد موسى صبري، ووقعت العقد على وجودي ككاتب للحوار في الفيلم.
وأؤكد أن بين كل هذه الحلقات لم يكن الكاتب الشاب محمد صلاح راجح موجوداً بالمرة، فكاتب السيناريو هو المخرج مجدي أحمد علي، ورسمياً وفنياً انتهى الأمر بحكم القضاء، بأن الفيلم من كتابة وإخراج مجدي أحمد علي.
جسد الفنان عمرو سعد في فيلم "مولانا" شخصية "الشيخ حاتم الشناوي" الذي يجيد المواءمات بين الدولة وأجهزة الإعلام. برأيك هل للدولة دور فاعل في تحريك وتصدير "الدعاة الجدد" والسيطرة عليهم ليكونوا في خدمتها؟
أحب أن أوضح أن العمود الفقري لشخصية "حاتم الشناوي" هو أن هناك أشياء كثيرة يريد أن يقولها ولا يستطيع قولها، لكنه لا يمكن أن يقول ما لا يريد أن يقوله، وأعتقد أن مَن يصل إلى هذه الصيغة في مصر يكون قد بلغ المجد، فأعظم ما يمكن أن نصل إليه في بلدنا أن نستطيع ألا نقول ما لا نريد أن نقوله.
شخصياً، أرى أن كل تصرفات "حاتم" في "مولانا" وتنازلاته ومواءماته إيجابية، عكس ما يراه البعض بمثالية على أنه شيئ مشين، فالقدرة على أن نمشي بين الألغام دون أن ينفجر لغم في وجهنا قدرة هائلة.
وعن دور الدولة في تحريك وتصدير الدعاة، يؤسفني أن أقول إنها هي التي تحرك كل شيء، الدعاة الجدد، والقدامى، ودعاة المستقبل أيضاً، فالدولة المصرية منذ عام 1952 دولة مهيمنة، لا يقف في وجهها أحد، فهي لاعبة عرائس، ورجل الدين بالنسبة لها أكثر أهمية من رجل البوليس.
وأحب أن أوضح أن الدين في مصر ثلاثة أنواع: أولاً، الدين الرسمي، ثم الدين المسلح المعارض، وثالثاً الدين الشعبي الذي يعبّر عنه فيلم "صاحب المقام". وفيلم "مولانا" قدّم الصراع بين الدين الرسمي الذي تتبناه المؤسسات الرسمية للدولة، والذي له محرمات وضوابط لا علاقة لها إلا بحفظ النظام العام والسلطة، والدين المسلح، وكان الشيخ "حاتم" ما بين هذين الدينين، واستطاع أن يدير المعركة بينهما، دون أن يقدّم أحكاماً شرعية للناس تجعلهم متطرفين. لكنه كان الخاسر الوحيد في النهاية.
جسد الفنان أحمد مجدي في "مولانا" شخصية "حسن"، أحد أبناء الطبقة الحاكمة في الدولة، وكان أفراد العائلة يشبِهون في ملامحهم وهيئتهم أبناء حسني مبارك، حتى أن الفنانين في الفيلم أدّوا نفس إيماءات أبناء مبارك، جمال وعلاء... وأراد "حسن" اعتناق الديانة المسيحية وترك الإسلام، لكن العائلة الحاكمة وقفت في وجهه، لأن الأمر سيؤثر عليها بلا شك. برأيك، هل هذه الطبقات يمكن أن تفرز شخصية مثل "حسن"، ملحدة، ثم إرهابية؟ وهل ترى أن الشباب في عمر "حسن" يتعرضون لنفس الأزمة التي تعرّض لها حالياً؟ وهل السينما قادرة على طرح هذه الموضوعات في ما بعد بشكل أوضح؟
بلا جدال، نوعية الشخصية التي جسدها الفنان أحمد مجدي في "مولانا"، أو "حسن" في الفيلم، هي نتاج النظام السياسي الذي لا نعرف إيديولوجيته، سواء إذا كان علمانياً أم دينياً، بالإضافة إلى وجود حالة اضطراب ديني وسياسي واجتماعي وتشوش وتشوه، تنتج المفردات والمكونات والاضطراب الذي عبّر عنه مجدي في الفيلم.
وأؤكد أنني عايشت هذه الشخصيات في حياتي، في تحولاتها من التدين إلى التطرف إلى الإلحاد، وكل هذه التحولات والقفزات فيها إعلان شديد عن اضطراب نفسي.
كما أزعم، أنه إذا أُجريت دراسات نفسية على شخصية المتطرف أو المتزمت أو الإرهابي من الممكن أن نعالج ظاهرة التدين المكفر والمتطرف والعدواني والعدائي، وشخصية المتدين المليئة بالتناقضات الذي تستحل الآخر وتسبه بأقذع الألفاظ. والسينما والفن قادران على مواجهة هذه الظاهرة بكل تأكيد.
ضمن القضايا التي تعرّض لها "مولانا" إلقاء الجهات الأمنية القبض على بعض الشباب بتهمة تدشين حملات التنصير، وكان من بين هؤلاء الشباب آخرون لا علاقة لهم بالأمر، وحاول الشيخ "حاتم" التوسط لإطلاق سراح هؤلاء الشباب، فالأمر يدفعهم للتطرف. هل ترى أن الدولة لها دور في موجة التطرف الديني من خلال هذه الحملات القمعية؟ وكيف يمكن أن تتعامل بشكل أمثل مع التيارات التي تطرأ على المجتمع المصري أحياناً؟
رغم أنني لا أحب تحليل الفن الذي أقدمه وأترك مساحة التفسير والتأويل للجمهور، سواء كان رواية أو فيلماً سينمائياً، لكن في هذا المشهد تحديداً، يشرح الضابط للشيخ "حاتم" خوفه من "العيال" كما قال في الفيلم، ما يعني أن الدولة متحسبة لهذا الجيل وتمرداته وتصرفاته، وظهر هذا في الفيلم بشكل واضح.
ومن ناحية الدولة المصرية، فهي التي صنعت التطرف في فترة السبعينيات، وأقول بوضوح شديد، أحاسب عليه، أن الرئيس محمد أنور السادات هو المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين، لأن هذه الجماعة كانت قد مزقت وفتتت، لكن هو مَن أعادها مرة أخرى نتيجة صراعه مع تيار اليسار المصري، لتلدغنا كالثعبان جميعاً، والدولة المصرية شاركت أيضاً، مع السعودية وأمريكا، في صناعة الجهاد الأفغاني، من خلال التمويل وتنظيم السفر إلى أفغانستان.
وأحب أن أوضح أن الدولة المصرية تحارب التنظيمات الإرهابية، ولا تحارب الإرهاب أو أفكاره ورسالته ورؤاه وفتاويه ومنهجه الذي يعرض في برامج التلفزيون والمساجد، بل يُعرض تحت رعايتها وحمايتها. ومَن يسقطون من شهداء الجيش والشرطة لا يواجهون سوى التنظيمات الإرهابية، فالدولة المصرية لم تقترب من محاربة الإرهاب شبراً واحداً.
ظهر انحيازك في "مولانا" للمتصوفة، من خلال شخصية الشيخ "مختار"، أحد رجال الطريقة الصوفية، وكان مقموعاً ومهزوماً طوال أحداث الفيلم، يُمنع من السفر، ثم يحرق منزله متطرفون. فسّر لنا هذا التعاطف، رغم اتهام هذه الجماعة بالدروشة والهرطقة؟ وكيف تجد في "المتصوفة" في مصر طريقاً ليكونوا قوة موازية للجماعات السلفية؟
ليتنا نكن متصوفة، جميعاً. ما فعلته في فيلم "صاحب المقام" هو دعوة إلى المحبة والرحمة والتسامح، وإلى التوقف عن إطلاق الأحكام على الآخرين، وإلى تأسيس حياتنا على أن الله يسمع الجميع، مهما كانت ديانة الفرد، أو كما يُقال "ربك رب قلوب"، فهذه العبارات نتيجة لتراكم ثقافات من آلاف السنين.
أما عن تأثير الجماعات الصوفية، ففي مصر 12 مليون صوفي رسمي أعضاء في الجماعات الصوفية، لكن ليس لهم تأثير، لأنهم زاهدون في الدنيا، وليسوا مشغولين بالعمل السياسي، لذا تحب الدولة هذه الجماعات الصوفية لأنها مجموعات مسالمة، فيبدو للجميع أنها تابعة للدولة، بالإضافة إلى أن هناك مجموعة من المتصوفة المنتفعين من علاقتهم بالدولة. أما من ناحية مواجهتهم للجماعة السلفية، فالتيار السياسي دائماً ما يستخدم حجة "المتصوفة بتوع الدولة"، وهذا يفسد عليهم مواجهة السلفية، فمن الصعب أن يكونوا قوة موازية بكل تأكيد.
شاركت في كتابة حوار فيلم "مولانا"، ودائًما ما تركز في حديثك وحوارتك الإعلامية على أهمية الحوار في الفيلم. لماذا هذا الانحياز إلى الحوار على حساب بقية العناصر الجمالية الأخرى؟ وهل تتدخل في اختيار الممثلين لأفلامك؟
في عقيدتي أؤمن أن المخرج هو ملك العمل، مايسترو العمل، ويفتقد العمل قيمته دون سيطرته، والسيناريو هو العمود الفقري للعمل، وأؤكد أنني شاركت في اختيار أبطال أفلامي الثلاثة، لأن مخرجيهم كانوا بمثابة أصدقائي، وكان لدينا هم واحد، بالإضافة إلى أن الأفلام مختلفة عن السائد، فلا بد من اختيار ممثلين يحبون هذه النوعية. أنا مَن تواصلت مع أبطال أعمالي الثلاثة، "مولانا" بطولة عمرو سعيد، "الضيف" بطولة خالد الصاوي، و"صاحب المقام" بطولة آسر ياسين. وبكل تأكيد يُؤخذ رأيي في اختيار الممثلين، لكني لست صاحب الرأي الأول أو الأخير.
في فيلميك "الضيف" و"صاحب المقام"، اسم البطل "يحيى"، وحكيت أن لك ابناً توفاه الله كان اسمه يحيى، وأسميت ابنك أطال الله عمره "يحيى" أيضاً. فما حكاية هذا الاسم بالنسبة لك؟ ما دلالته؟
أحب أن أقول إن "يحيى" بطل رئيسي في أفلام يوسف شاهين الذاتية، إحياءً لاسم شقيقه يحيى الذي توفاه الله، وغالبية بطلات أفلام المخرج حسن الإمام اسمهن "نعمة" تيمناً باسم زوجته، وأنا أحب اسم "يحيى" جداً، فهو اسم له دلالة في الأديان الثلاثة، وأشعر بروحانيته، فهو الابن الذي وُلد بعد أن ظن زكريا أنه لن ينجب، كما أنه اسم مصري جداً كما قيل في المثل المصري "يموت ويحيا في حب يحيى".
"الدولة المصرية تحارب التنظيمات الإرهابية، ولا تحارب الإرهاب أو أفكاره ورسالته ورؤاه وفتاويه ومنهجه الذي يعرض في برامج التلفزيون والمساجد، بل يُعرض تحت رعايتها وحمايتها"
لكن في فيلمي القادم، لن يكون اسمه "يحيى"، وقد أصر أن اسميه بهذا الاسم. ربما أستطيع.
في "الضيف"، جسّد الفنان خالد الصاوي شخصية الدكتور التنويري "يحيى التيجاني"، وأثارت الشخصية جدلاً كونك أقحمت شخصيتك من خلال شخصية الدكتور "يحيى" فهو شبهك تماماً. كيف تعلّق على هذه الإشكالية؟
أحب أن أسأل هنا: "ما الضرر عندما أقحم شخصيتي في أفلامي؟"، فالعديد من الفنانين وضعوا شخصياتهم في أعمالهم الفنية، أمثال يوسف شاهين، إسماعيل ياسين. هل الإنزعاج من كوني مؤلف وضع شخصيته في الفيلم؟ لا أجد أية إشكالية في الموضوع تماماً.
أكدت على شغفك بتيمة الأفلام التي تتخذ مكاناً واحداً لتصوير أحداث الفيلم، وبعدد ممثلين محدود، وتكثيف الحوار السينمائي، واستشهدت بفيلم "12 رجلاً غاضباً" وغيره. هل حاولت استنساخ تيمة هذه الأفلام في "الضيف"؟
أؤكد لك حبي لهذه النوعية من الأفلام السينمائية، وشاهدت العديد من الأفلام التي صورت في غرفة وصالة، أو أسانسير، فهذه نوعية وتيمة سينمائية لم أستنسخها، فهي متاحة للجميع.
جسد الفنان أحمد مالك شخصية الدكتور "أسامة"، التكفيري، الوسيم، المهندم. ترى هل هذا شكل الإرهابي الحديث؟ أم سنشهد مع التطور التكنولوجي الذي يشهده العالم أشكالاً أخرى، بثياب أخرى، يظهر من خلالها الإرهابي؟
طبعاً، بكل تأكيد، عبّر أحمد مالك في "الضيف" عن الإرهاب الجديد الذي تفشى في مصر، وهو يختلف كلية عن إرهابي "عادل إمام" في فيلم "الإرهابي"، بجلبابه ولحيته الكثيفة، فهذا النوع من الإرهاب لم يصنعه الفقر كما روج قديماً، بل صنعته الحداثة، وسيتغير شكل الإرهابي بتطور الزمن.
ظهر الفنان محمد ممدوح بصفته أحد أفراد أجهزة الأمن، حارساً لحياة وسلامة الدكتور "يحيى"، لكن في الحوار الذي جمعه به، لم يبدُ متعاطفاً معه للنهاية، بل بدرت منه عبارات توحي باتفاقه مع بعض الأفكار المتطرفة التي يعتنقها ويروجها "أسامة". هل ذلك إشارة إلى نجاح الجماعات المتطرفة في اختراق أجهزة مهمة في الدولة؟
أعترف لك أن هذا المشهد اعتبره من أهم مشاهد أعمالي الثلاثة، ويكاد يكون هذا المشهد بالضبط ما قيل لي وقت فرض الدولة الحراسة عليّ لوجود اسمي على قوائم الاغتيال. جاءني ضابط برتبة لواء، رئيس إدارة الحراسات، وقال لي ما قاله الضابط في "الضيف"، وهذا هو المنطق الكارثي الذي يؤكد على أن الدولة تحارب التنظيمات الإرهابية، ولم تقترب أبداً من محاربة الإرهاب.
وهذا بالضبط يؤكد على اتفاق العقلية واختراقها، فإذا كان الضابط قد دخل إلى غرفة الدكتور "يحيى" كان من الممكن أن يتفق مع "أسامة" الإرهابي على قتله، لأن أفكارهما واحدة.
قلت في حوار لك إن صناع السينما المصرية الحاليين يساعدون على تدميرها. وفي فيلمك "الضيف"، كان الحل على لسان الفنان ماجد الكدواني الذي جسد شخصية أحد أقارب الدكتور "يحيى". ففي حواره مع "أسامة" الأرهابي، أشار إلى أن المطرب الشعبي محمد طه غنّى "كل مَن له نبي يصلي عليه". هل ترى أن الفن المصري الحالي، الغناء والسينما، إلخ، قادر على مواجهة الإرهاب، رغم نقدك لصناع السينما؟
طبعاً، تستطيع السينما المصرية أن تؤثر، فالغضب والهجمات التي تطال أفلامي، كل هذا تعبير عن أهمية الفيلم وتأثيره، وفزع شديد من تأثير الفيلم، وهذا نجاح مباشر لتأثير الفيلم، فلو لدينا تيار سينمائي يشبه أفلامي، "الضيف" و"مولانا" و"صاحب المقام"، نستطيع بكل تأكيد مواجهة الإرهاب.
والجدل الذي دار حول هذه الأفلام هو اعتراف مباشر أو غير مباشر بنجاح هذه الأفلام في التأثير والتصدي للأفكار الإرهابية.
كان الطرف الأضعف في أحداث فيلم "الضيف" كل من "ميمي" التي جسدت شخصيتها الفنانة شيرين رضا، و"فريدة" التي جسدت شخصيتها الفنانة جميلة عوض. هل تعتبر أن المرأة هي الطرف الأضعف فعلاً في مواجهة الإرهاب؟ وهل يمكن أن تلجأ الجماعات الإرهابية إلى استخدام تكنيك "الإرهابي الرومانسي" للوصول إلى ضحاياها من خلال العلاقات العاطفية مع بناتهم وقربياتهم؟
بلا شك، المرأة شيء مؤرق بالنسبة إلى الإرهابي والسلفي عموماً، وفي ما يخص أعمالي، المرأة حاضرة بقوة، فمثلاً شخصية "روح" كان وجودها مؤثراً وأساسياً في "صاحب المقام" وهي التي تدفع "يحيى" لاستعادة زوجته من الغيبوبة، والابنة "فريدة" في فيلم "الضيف" هي ثمرة الكاتب الدكتور "يحيى"، ويحاول الإرهابي "أسامة" أن يستغلها. المرأة بالنسبة لي شخصية مهمة.
لكن لدينا أزمة كبيرة في السينما المصرية في الوقت الحالي، وهي عدم وجود المرأة كبطلة في الأعمال الفنية، وأتساءل الآن: من تشبه البطلات نادية لطفي، أو نبيلة عبيد؟
قبل أيام، عُرض فيلم "صاحب المقام" على منصة "شاهد" الرقمية، وأثار جدلاً ونسب مشاهدت مرتفعة. في البداية كيف تقيّم فكرة اللجوء إلى هذه المنصات الرقمية لتخطي أزمة السينما الحالية، بخصوص الإنتاج والتكلفة، وغياب الجمهور بسبب فيروس كورونا المستجد؟
أعتقد أن المنصات الرقمية ستساعد جداً في تحسين حالة السينما المصرية، وأرجو أن ننتبه إلى أن هذه المنصات تساعد على شيئين: أولاً، على إنتاج عدد كبير من الأفلام السينمائية؛ وثانياً، تمنح القدرة على إنتاج نوعية أفلام متعددة ومختلفة، لأنه مهما كانت قدرتك على صناعة السينما، وفي ظل وجود دور العرض الحالية يبقى الأمر محدوداً، ففي مصر ننتج 30 فيلماً وهذا وضع بائس وخائب ومهين، فتركيا عام 2019 أنتجت 148 فيلماً، ومصر 33 فيلماً. من خلال هذه المنصات تستطيع أن تصل إلى إنتاج أكثر من 115 فيلماً، بالإضافة إلى أن المنتج يستطيع إنتاج نوعية من الأفلام التجارية كان صعباً عليه إنتاجها، كنوعية أفلامي، بالإضافة إلى الأفلام المستقلة والتجريبية.
وأشير إلى أن المنصات ساعدتنا على معرفة تأثير الأفلام في وقت قصير، فكان من الممكن ألا يُحدث فيلم "صاحب المقام" كل هذا الصدى الذي أحدثه في أسبوع، إلا بعد شهر أو أكثر لو عرض في دور السينما في وقتنا الحالي في ظل نسبة الـ25% من الجمهور المسموح لها بالدخول.
وُجهت للفيلم عدة انتقادات لعل أهمها أنه أشبه بمقال صحافي، وقيل إن هناك عيوباً تقنية في كتابة السيناريو كون بعض الشخصيات ظهرت دون تقديمها من خلال ماضٍ شخصي، كشخصية "روح" التي قدمتها الفنانة يسرا والتي لم يفهمها الجمهور تماماً، فأصابهم بعض التوتر، ولم يقفوا على يقين حول كونها إنسانة أم روح. كيف تعلّق على هذه النقاط؟
أنا كصحافي ورئيس تحرير لمدة ثلاثين عاماً، أعرف جيداً، كيف تصنع هذه الإشكاليات والفقاعات، كما أنني أرى أن هناك انحداراً في الثقافة السينمائية، فمثلا يوجه لي نقد أن فيلم "الضيف" يسيطر عليه الحوار، فمثلاً "هل أنا مش عارف إن الفيلم فيه حوار كتير؟ وهل أنا مش واخد بالي إنه أوضتين وصالة؟". ورغم ذلك حصلت على جائزة الحوار في فيلم "مولانا" من مهرجان الأفلام الروائية، وسعدت بهذه الجائزة، بالإضافة إلى أن الفيلم حصل على جائزة الجمهور، كما حصل أيضاً فيلم "الضيف" على نفس الجائزة من أربع مهرجانات دولية ومحلية، وهذا ما يتنافى تماماً مع الاتهام الموجه لي بأن أفلامي "نخبوية". وأنا أقول إن أفلامي حصدت على مشاهدات أكثر من عمرو دياب (ويضحك).
ويقال أيضاً إنني تطورت في "صاحب المقام" عن فيلم "الضيف"، "طب إيه رأيكم بقى إني كتبت "صاحب المقام" قبل فيلم "الضيف" وكان من المفترض أنه يتصور قبله"؟ كما أشيع أنني أقدم الإرهابي النمطي، رغم أن الإرهاب نفسه نمط، له شكل ومظهر نمطي، فأحب أن أقول "الناس اللي بتنتقدني دي مش هنا خالص".
ورغم ذلك أحب أن أقول بلا شك أنني أقبل كل هذه الآراء والانتقادات، لكن طوال الوقت أفكر في أن أصحاب هذه الانتقادات لا يعرفون أو يدركون أنني أعرفها تماماً؟ كنت أتمنى أن يفاجئني ولو رأي أو انتقاد واحد لم أتوقعه.
عبرت عن المادية والرأسمالية من خلال شخصية "يحيى" التي جسدها الفنان آسر ياسين، ومن خلال شخصية "حكيم" التي جسدها الفنان بيومي فؤاد عبّرت عن التوجه الصوفي الروحاني الذي يعارض هدم المقامات خوفاً من غضب الأولياء. هل ترى أن الحل في الوقت الحالي لما يعانيه المجتمع المصري من التسلف والمادية والعنف هو اللجوء إلى مذهب التصوف والسلوكيات الروحانية؟ وما ردك على اتهامك بأنك حاولت دس السم في أفكار الفيلم بالعودة إلى الدروشة والجهل والمقامات والأضرحة؟
من وجهة نظري، أرى أن الحل هو التديّن المصري، وبخصوص توجيه اللوم والاتهامات والتشيك بالتصوف أو المتصوفة، أحب أن أطرح تساؤلاً: هل رأى الناس المتصوفة رفعوا سلاحاً أو كفّروا شخصاً؟ ما المزعج في الصوفية؟ بكل تأكيد، أتمنى أن نكون صوفيين، ونتبع محي الدين ابن عربي، وابن الفارض، ففي مصر لدينا 300 ولي صوفي. ليتنا نصبح واحداً منهم، وما يطرح الآن من قضايا حول الأضرحة والمقامات، كلها جديدة علينا، لم نسمع بها في السنوات الماضية، وكل هذا نتيجة للسلفية المتخلفة.
بالنسبة لي، التصوف ترفُّع عن الدنيا والماديات، وهو حب وعلاقة بالناس فيها الرحمة والتسامح والانفتاح، ونحن كمصريين متصوفين حتى لو لم نعترف بذلك، لكن المشكلة الحقيقية دخول السلفية والتطرف والعنف والقسوة علينا في السنوات الأخيرة. وأؤكد لك أن أفلامي الثلاثة هي محاولة لاستعادة التديّن المصري مرة أخرى.
هناك اتهام، سرعان ما انطلق، هو سطوك على قصة فيلم إسرائيلي اسمه Maktub، فضلاً عن سرقة فكرة الدكتور سيد عويس من كتابه "رسائل إلى الإمام الشافعي"، وخرج مسعد عويس في تصريحات صحافية يطالبك بالاعتراف بشجاعة بتناول فكرة والده في فيلمك. ما ردك على هذه الاتهامات؟
بلا شك، هناك رغبة في التشويه والتشهير تجاه الفيلم، سواء بشكل تلقائي فوضوي أو بشكل منظم. فمثلاً يقال إن مؤلف الفيلم كافر، أو مأخوذ من فيلم إسرائيلي، حتى يُدفع المشاهد للابتعاد والنفور من مشاهدة الفيلم، كما أنهم ساعدوا عبر اتهام السرقة في زيادة مشاهدات الفيلم الإسرائيلي والترويج له. ورغم كل هذه الاتهامات أعذر الناس، وأعتذر للمخرج والمنتج عن أن هذه الاتهامات تكون موجهة وشخصية لي، ولا تمت للفيلم بصلة.
ويسعدني أن أقول إنه بعد انتهاء الفيلم تواصل معي الكاتب مسعد عويس ابن الدكتور سيد عويس وكانت من المكالمات الهاتفية المحببة إلى قلبي، واتفقنا على لقاء، أما بخصوص سرقة رسالة الدكتوراه أو كتاب "رسائل إلى الإمام الشافعي" للدكتور سيد عويس، فهذا اتهام لا معنى له، كيف أسرق رسالة دكتوراه؟ لكن بكل تأكيد كانت مرجعاً علمياً لي لفهم ظاهرة الرسائل، بالإضافة إلى مراجع أخرى اعتمدت عليها لكتابة الفيلم مثل دراسة الدكتور عمار علي حسن عن التصوف والسياسية، وكتابات الأديب جمال الغيطاني، لكنني أشعر أن الناس يخلقون فقاعات لا يفهمونها. هل يتخيل هؤلاء أنني أكتب فيلماً دون أن أدرس عالمه؟ بكل تأكيد أصحاب هذه الآراء والاتهامات "غلابة يا عيني".
كما أحب أن أشير إلى أنني طلبت من محمد العدل، مخرج الفيلم، أن يظهر الكتاب "رسائل إلى الإمام الشافعي" في آخر الفيلم، كتحية للرجل، لكن لم يظهر المشهد بسبب عدم تصوير الكتاب دون قصد.
صرحت أنك تعاقدت على فيلم جديد، سيكون موضوعه تاريخياً، فما هي حكايته، وما هي مشاريعك وأفكارك القادمة للسينما؟
المشروع القادم مع المنتج أحمد السبكي ومحمد العدل أو "ماندو" الذي حقق نجاحاً في فيلم "صاحب المقام"، وهناك مشروع آخر مع مخرج شاب مستوحى من حياة الفنان زكريا الحجاوي، والفنانة الشعبية خضرة محمد خضر.
وأحب العمل مع مخرجين شباب، وأصر على العمل معهم، خاصة الذين لديهم رؤية كبيرة وثقافة سينمائية كبيرة، والوقت مبكر للكشف عن أسماء وعناوين هذا التجارب الذي ستخرج للجمهور عام 2021.