محمد سامي الكيال:
يعود نقاش «الإسلام» في الدول الغربية بشكل متكرر منذ تسعينيات القرن الماضي، وأصبح عاملاً سياسياً وانتخابياً شديد الأهمية. أحد الأسئلة، التي تُطرح بصيغ مختلفة ضمن هذا النقاش: لماذا الإسلام بالذات؟ فبعد عقود من سياسات الهوية، التي قامت أساساً على تصليب الرموز الثقافية للأقليات والاحتفاء بها، بل وإنتاج أقليات جديدة على الدوام، يبدو «الإسلام» واحداً من أكثر الهويات إثارة للمتاعب، لدرجة أن أنظمة «التنوّع» نفسها تلاقي صعوبات شديدة في استيعابه.
حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تقديم إجابة، في خطابه الأخير، الذي ألقاه من إحدى الضواحي الباريسية «المؤسلمة»: الإسلام، بصيغته الحالية، نزعة انفصالية، تضع نفسها فوق القوانين والقيم الجمهورية، ويجب محاربة ميله الانعزالي عبر سلطة جهاز الدولة. ولتلافي اتهام فرنسا بالميل اللائكي المتطرف، تحدث ماكرون عن أن الإسلام يعاني أزمةً «في كل مكان» وليس في الجمهورية الفرنسية فقط. وبالفعل يصعب إنكار أزمة الإسلام تلك، فحتى في بريطانيا والولايات المتحدة، الأكثر تمسكاً بأيديولوجيا «التعددية الثقافية» أو في كندا، الموطن الأول لهذه التعددية، لا يبدو «الإسلام» مرتاحاً للغاية مع محيطة السياسي والاجتماعي، والعكس صحيح.
تظهر المشكلة أساساً في مستوى حاكمية الدولة الحديثة: لا يمكن أن يكون هناك شرع أو قانون أو انتماء أعلى من الدولة. معظم جماعات الهوية لا تسعى بشكل مباشر للاصطدام بهذه الحاكمية، مهما بلغت «خصوصياتها» فيما يمتلك «الإسلام» مفاهيم أخرى للحاكمية، ما يجعله نزعة انعزالية – انفصالية. إلا أن الموضوع ليس بهذه البساطة، فتعالي السلطة الحديثة، وقدرتها على التحكم الحيوي والسياسي بحياة مواطنيها لا يمكن أن يتجسّدا بشكل عنيف ومباشر، لا بد من هيمنة أيديولوجية تضمن القبول بسلطة الدولة، وأجهزة ومؤسسات معينة، توطد بممارساتها المادية تلك الهيمنة. ما يجعل السؤال الأهم: لماذا تبدو هيمنة الدولة اليوم هشّة لهذه الدرجة؟ هل المسألة في «الإسلام» نفسه، بوصفه نمطاً أيديولوجياً منافساً لأيديولوجيا السلطة، وغير قابل للتآلف معها، أم في تراجع فعالية الأجهزة الأيديولوجية للدولة؟ ماكرون انتبه لدور المدارس في مشكلة التطرف الإسلامي، والمدرسة، حسب المفكر الفرنسي لويس ألتوسير، النموذج الأساسي لأجهزة الدولة الأيديولوجية. وكذلك تحدث الرئيس الفرنسي عن فشل مدّ القيم الجمهورية إلى الضواحي، إلا أن تصريحاته بدت وكأنها محاولة لاستدارك تقصير إجرائي في عمل الدولة، وربما كان السؤال الأجدى: هل مازال بالإمكان فعلاً فرض هيمنة قيم الدولة بالطريقة الكلاسيكية؟ وما انعكاس مشكلة الهيمنة هذه على «أزمة الإسلام» العالمية؟
تعطل وظيفة الاندماج
«الاندماج الاجتماعي» ليس مجرد شعار سياسي يُطرح في مواجهة المسلمين، أو المهاجرين، بل هو واحد من أهم مفاهيم علم الاجتماع المعاصر، بالنسبة لإميل دوركهايم، على سبيل المثال، اتسمت المجتمعات قبل الحديثة بنوع من «التضامن الميكانيكي» فقد كانت علاقات القرابة تؤمن تجانساً طبيعياً، مادياً وقيمياً، في مجتمعات ضعيفة التمايز. مع تعقّد الأنظمة الاجتماعية، واكتسابها الاستقلالية والتمايز الوظيفي، وبروز الفردانية، صار الاندماج وظيفة أكثر تركيباً، وعليه أن يضمن عمل الأنظمة الاجتماعية (مثل أنظمة السياسة والقانون والأخلاق والفن) بشكل متسق من جهة، وتأمين التماسك بين الجماعات المتعددة، وكذلك بين الفرد والمجتمع عموماً، من جهة أخرى. جورج زيميل يعتبر هذا النمط من الاندماج مميزاً للحياة في المدينة، بكل ترميزاتها وتياراتها وأنظمتها المتعددة، عن حياة الريف.
جمهورية ماكرون تبدو متناقضة مع قيمها العلمانية لدى حديثه عن ضروره دعم «إسلام الأنوار» بدلاً من الإسلام الانعزالي المتطرف، لأنها بذلك تصبح طرفاً غير محايد دينياً، يدعم معتقدات معينة على حساب أخرى، وينظّم الشؤون العقائدية بشكل مباشر.
يولي عدد كبير من علماء الاجتماع أهمية كبرى لما يسمى «المؤسسات الوسيطة» في عملية الاندماج، وهي مجموعة من الهيئات، التي لا يمكن نسبتها بشكل مباشر إلى الأجهزة التنفيذية للدولة، فمعظم الأفراد لا يتعلّمون القيم المشتركة والقوانين العمومية بتماس مباشر مع الشرطة والمحاكم والسجون، بل بتوسط شبكة شديدة التعقيد من المؤسسات التعليمية والإعلامية والاجتماعية والثقافية والدينية، كما توفر هذه المؤسسات نوعاً من الرعاية والضمان الاجتماعي العمومي للمواطنين، لم يعد بالإمكان التعويل على بنى العائلة والقرابة في تأمينه.
وبعيداً عن النقد المعروف لهذه المؤسسات، بوصفها أساساً للهيمنة الطبقية، حسب الماركسيين، أو لهيكلية السلطة الذكورية البيضاء حسب حركات التظلّم المعاصرة، فلا يمكن تخيّل مجتمع شديد التعقيد، يعمل بحد أدنى من الاتساق والفعالية، بدون وجودها. عالم الاجتماع الألماني أوليفر ناختفاي يصفها بـ«مدارس الديمقراطية» ويتحدث، بأسى شديد، عن انحلالها في شرطنا المعاصر، ما يعطّل عملية الاندماج، فيصبح من الصعب الحديث عن قيم مشتركة، يمكن الاحتكام إليها بين المجموعات المختلفة، ويجعل الأفراد معزولين، محرومين من الرعاية والتأهيل، وغير مهيئين للمشاركة في العمليات الاجتماعية الأساسية. من جهة أخرى يختلّ الاتساق البنيوي بين الأنظمة، فيصبح الاقتصادي مثلاً طاغياً على الاجتماعي. هذه الحالة يعتبرها ناختفاي «نزعاً للتحضّر».
انحلال وظيفة الاندماج لا يعني المسلمين وحدهم، إذن في المجتمعات الغربية، والقيم الديمقراطية والجمهورية أصبحت تعاني مع مختلف المجموعات السكانية. الاستقطاب السياسي الحاد في الولايات المتحدة مثال جيد على هذا: أنصار التيارات السياسية المختلفة يعيشون في عوالم منفصلة، ولا يعتبرون الآخر خصماً سياسياً بقدر ما يرونه نموذجاً للشر أو الغباء، والتطرف، يتصاعد في كل المعسكرات، ولا يبدو أن هنالك قيماً ثقافية أو سياسة أو حتى وطنية مشتركة بين الأطراف المتنازعة. وبما أن تعطّل وظيفة الاندماج الاجتماعي جانب من شرطنا التاريخي المعاصر، فمن الصعب التعويل على قدرة الجمهورية الفرنسية على نشر قيمها في مواجهة «الانعزالية الإسلامية» ولكن هل يمكن رد «أزمة الإسلام» بأكملها إلى انحلال المؤسسات الوسيطة في المجتمعات المعاصرة؟
نزعة غير انفصالية
تصاعد التطرف والتفكك الاجتماعي والهوياتي بشكل عام لا ينفي خصوصية معينة لـ«الانعزالية الإسلامية»: تعمل كثير من أيديولوجيات الإسلام السياسي المعاصرة على صياغة نمط قيمي وحياتي لا يتسم فقط بالانفصال عن الآخرين، بل أساساً بالتضاد مع قيمهم والاستعلاء عليها. لا يبدو منظور هذه الأيديولوجيات منظوراً أقلوياً، يسعى لحماية أقلية مهددة والحفاظ على خصوصيتها ورموزها الثقافية الأساسية، بل أقرب لمنطق جماعات راديكالية، تسعى، بشكل استعراضي، إلى إلغاء قيم الآخرين وتقويم سلوكهم. قيام المتطرفين الإسلاميين بقتل فنانين يُعتبرون مسيئين للقيم الإسلامية، ليس دفاعاً عن جماعة مستضعفة، بقدر ما هو محاولة لجعل أحكامها وشرائعها سائدة ومراعاة في الحيز العام.
بناء على هذا فربما كان من الخطأ الحديث عن «نزعة انفصالية» أو حتى «انعزالية» في الأيديولوجيا الإسلامية المعاصرة، فهي لا تريد التعبير عن إثنية أو جماعة قومية تناضل لانتزاع حيّزها السيادي المستقل، كما فعل كثير من حركات التحرر الوطني الراديكالية في ما مضى. لا يهدف الإسلاميون إلى الانفصال بإقليم إسلامي عن فرنسا مثلاً، أو إلى تحقيق مناطق حكم ذاتي معترف بها في الضواحي الأوروبية، بل يسعون إلى جعل منظورهم للأسلمة حاضراً، ولا يمكن تجاوزه في الحياة العامة. يبدو الحديث هنا عن نوع من «الكونية الإسلامية» أكثر مناسبة من التحذير من الانفصالية، وهي كونية لا أهداف سياسية واضحة إلا أحلام بالأسلمة التدريجية للمجتمعات، يصعب على رئيس فرنسي الاعتراف بأن جمهوريته، المستندة لتراث تنويري كوني متين، تواجه كونية مضادة، ولذلك قد يكون اختزال المسألة بـ«نزعة انفصالية» مريحاً وأقلّ تعقيداً.
«إسلام الأنوار»
إلا ان جمهورية ماكرون تبدو متناقضة مع قيمها العلمانية لدى حديثه عن ضروره دعم «إسلام الأنوار» بدلاً من الإسلام الانعزالي المتطرف، لأنها بذلك تصبح طرفاً غير محايد دينياً، يدعم معتقدات معينة على حساب أخرى، وينظّم الشؤون العقائدية بشكل مباشر. سيكون من الحزين للمفكرين الأحرار، الذين تدّعي الجمهورية استلهام تراثهم، أن يروها تحولت لمعهد لتخريج الأئمة «المتنورين».
المفارقة الطريفة في عصرنا أن قضية «إصلاح الإسلام» من داخله باتت تشغل أطرافاً عديدة، من المفترض ألا تكون معنية أصلاً بالعقيدة الإسلامية، من بعض المفكرين العلمانيين العرب، وصولاً للسياسيين الأوروبيين. ويبدو أن «الإسلام» المعاصر يظهر دائماً بوصفه جوهراً أصيلاً ضائعاً، يحاول الجميع استخلاصه من شوائب التطرف والانحراف.
ربما كان الأجدى أن ينهمك المسؤولون السياسيون بالحفاظ على دولة القانون، وإعادة ترميم المؤسسات الاجتماعية الأساسية، وتجفيف مصادر تمويل التطرف، أما العقائد الإسلامية، فهي شأن معتنقيها وحدهم. «أزمة الإسلام» وتفاعلاته المتعددة في العالم الإسلامي وخارجه، ستنتج غالباً كثيراً من التغيرات الاجتماعية والثقافية، التي ستنعكس بالضرورة على الأيديولوجيا الإسلامية الحالية وأنصارها، وبوادر هذا بدأت تظهر في العالم العربي، حيث أصبح الإسلاميون عموماً في موقف الدفاع. قد يكون الدافع الأكبر لجعل الإسلام يعيش حالة انعزالية هو محاولة سياسيين وناشطين غربيين، سواء كانوا من أنصار النزعة الجمهورية، أو سياسات الهوية، مناصرة نسخة متخيلة عن إسلام متنوّر أو ديمقراطي، وكأنهم يقيمون محميات طبيعية لحياة صحيّة للمسلمين، ويحمونهم من أنفسهم ومن الآخرين.
٭ كاتب من سوريا