تبدو الديمقراطية اليوم إلى انحسار، مع العودة القوية للاستبداد، بفعل أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية وصحية، شكلت وقودًا لحركات يمينية متطرفة صعدت شعبويًا إلى السلطة في بعض دول العالم. فما السبب؟
إيلاف من بيروت: الديمقراطية الليبرالية محاصرة اليوم بتيارات استبدادية قومية في دول عدة. إنه البند الأساسي الذي تناقشه آن أبلباوم في كتابها "شفق الديمقراطية" Twilight of Democracy (224 صفحة، منشورات دبلداي) مسلطة الضوء على اتجاهات تعادي الديمقراطية الغربية، وعلى صعود أحزاب يمينية شعبوية تنهش النظام الديمقراطي الغربي من داخله، ساعية إلى تبيان الخلل الحاصل في الأنظمة الديمقراطية، وتعبيد الطريق إلى قيم ديمقراطية حقيقية فقدت بريقها.
تقول أبلباوم إن المستبدين لا يحكمون وحدهم، "بل يعتمدون على حلفاء سياسيين بيروقراطيين وإعلاميين يسهلون لهم الحكم، وعلى أحزاب استبدادية وقومية نشأت في ظل الديمقراطيات الحديثة، تقدم لأتباعها طرائق جديدة لتحصيل الثروة أو الاستبداد بالنفوذ والسلطة"، موصفةً استخدام المدافعين الجدد عن الديمقراطية اللاليبرالية نظريتي المؤامرة والاستقطاب السياسي إلى جانب وسائل التواصل الاجتماعي، لتغيير مجتمعاتهم.
وريثة مخاوف وأحقاد
تولي أبلباوم هشاشة الديمقراطية في العلم عناية كبيرة في كتابها، معبرة عن خشيتها من ألا تنجو سيادة القانون وحقوق الفرد والجمع بين الانتخابات الحرة والمؤسسات المنظمة للجمهورية من الهجمة الشرسة التي تشهدها بداية القرن الحادي والعشرين، فالمجتمعات الأكثر تقدمًا لا تزال وريثة المخاوف والأحقاد القديمة، وتتوتر بسبب الحروب المطولة والاضطرابات الاقتصادية والهجرة المعدلة للديموغرافيا، وجائحة كورونا أخيرًا، "فهذه تحديات تزداد تعقيدًا بسبب قوة التقدم التقني وسرعته، خصوصًا وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من الاتصالات القائمة على الإنترنت التي يمكن أن تقوض الإجماع وتقسّم الناس أكثر وتزيد من حدة الاستقطاب إلى درجة يصبح معها العنف هو ما يحدد من يحكم".
بحسب المؤلفة، هذا الأمر يتيح للأفراد والأحزاب السياسية التي تقدم الحلول في شكل سلطة قوية استغلال الناس، عائدةً إلى محافظين أميركيين تحالفوا زمنًا ثم انقسموا بعضهم على بعض بسبب صعود سياسيين مثل سارة بالين وحزب الشاي ودونالد ترمب.
لكنها تسأل: "ما سبب هذا التحول؟". ترى أبلباوم أن الظروف المتغيرة في العالم أدت إلى تعتيم ما بدا أنه بزوغ فجر جديد في أواخر القرن العشرين، مع انهيار الاتحاد السوفياتي ينهار، وإلغاء الفصل العنصري، وتهافت الأنظمة العسكرية في أميركا الجنوبية، وتوجه الصين نحو تحرير أسواقها.
نظريات مؤامرة
تشير أبلباوم إلى أن المسلمين يشكلون 4 في المئة من سكان إسبانيا، "وعندما يتم إجراء استطلاع لآراء الإسبان بشأن تخمين النسبة المئوية للمسلمين، يعطي المستطلعون عددًا مبالغًا فيه، وهذا ينطبق على الديمقراطيات الغربية التي تشهد تناقضات وأزمات. فالإنذار الديموغرافي، أكان قائمًا على واقع أو خيال أم يروّج له إعلاميًا، يوفر اختيارات دسمة للحركات القومية التي اجتاحت العالم في السنوات الأخيرة.
تتحدث المؤلفة عن بولندا، "ففي اللحظة التي أوشكت فيها بولندا على الانضمام إلى الغرب، شعرت كأننا جميعًا في فريق واحد، متفقين على الديمقراطية، والطريق إلى الازدهار"، لكن أصدقاء كثرًا روجوا لنظريات المؤامرة. تقول: "هؤلاء الناس لم يفقدوا وظائفهم ولم يحصلوا على سكن نتيجة ضغط من المهاجرين. إنهم لا يندرجون في فئة المتخلفين عن الركب، فهم متعلمون تعليمًا عاليًا، ويسافرون بشكل جيد، لكن لماذا، ينشرون الأكاذيب وأنصاف الحقائق التي روجها حزب القانون والعدالة البولندي؟".
بحسبها، درس التاريخ الأول هو أن المستبدين يحتاجون إلى دعم جماهيري، ويحتاجون أيضًا إلى تعاون الناس في المناصب العالية، "ففي ظروف ملائمة، يمكن أي مجتمع الانقلاب على الديمقراطية بسهولة، وإذا كان ثمة أمثولة من التاريخ، فهي أن مجتمعاتنا ستفعل ذلك في نهاية المطاف".
لم يتأثروا
في أوروبا الشرقية، كان الركود في عامي 2008 و2009 كبيرًا، لكنه عاد بطيئًا إلى أن قضت عليه جائحة كورونا. وصلت أزمة اللاجئين في عام 2016 إلى ذروتها لكنها خفت بعد ذلك.
بحلول عام 2018، توقف وصول اللاجئين من شمال أفريقيا والشرق الأوسط إلى أوروبا، بفضل صفقات أبرمها الاتحاد الأوروبي مع تركيا. تقول أبلباوم: "لم يتأثر الذين أكتب عنهم في هذا الكتاب بهاتين الأزمتين. ربما لم ينجحوا في حياتهم المهنية، لكنهم ليسوا فقراء ولا ريفيين. ولم يفقدوا وظائفهم بسبب المهاجرين، وهم ليسوا ضحايا التحول السياسي منذ عام 1989. وفي أوروبا الغربية، هؤلاء ليسوا جزءًا من طبقة فقيرة. في الولايات المتحدة، لا يعيش هؤلاء في مجتمعات دمرتها المخدرات، ولا يطابقون الصور النمطية الكسولة المستخدمة لوصف ناخبي ترمب. بل خلافًا لذلك، تلقوا تعليمهم في أجود الجامعات، ويرطنون بلغات أجنبية، ويسكنون مدنًا كبيرة، مثل لندن وواشنطن ووارسو ومدريد. فما سبب هذا التحول إذًا؟ هل كان بعض أصدقائنا مستبدين دائمًا؟ هل تغير الأشخاص الذين تعاملنا معهم في الدقائق الأولى من الألفية الجديدة بطريقة ما خلال العقدين التاليين؟".
بحسبها، وباء كورونا سيلهم إحساسًا جديدًا بالتضامن العالمي، "لكن ربما تنتج المخاوف تأثيرًا معاكسًا، فالخوف من الجائحة يخلق خوفًا من الحرية، وهذا يمكّن المستبدين من السلطة.
ايلاف