أحمد تايلور:
"أمة هي خمس العالم من ناحية التعداد، تبحث عنها في حقول المعرفة فلا تجدها، في ساحات الإنتاج فلا تحسها، في نماذج الخلق والتعاون المؤثر والحريات المصونة والعدالة فتعود صفر اليدين. صرنا حضارياً وخلقياً واجتماعياً آخر أهل الأرض في سلم الارتقاء البشري. حكومات فرعونية إقطاعية، وجماهير تبحث عن الطعام، وفن يدور حول اللذة، ومتدينون مشتغلون بالقمامات الفكرية. ينظر المسلمون اليوم إلى التقدم الحضاري بعيون ناعسة، وينظر العالم إليهم اليوم نظرة استهانة، إنهم أقرب إلى الموت لا الحياة". هكذا وصف محمد الغزالي، المفكر الإسلامي، أحوال المسلمين، محاولاً تلخيص الأزمات التي يحياها اليوم العالم الإسلامي على كافة الأصعدة، حضارياً وفكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وتربوياً وتعليمياً. كُتاب ومُفكرون ودُعاة، على مدار عقود طويلة، حاولوا تفسير التراجع الحضاري للمسلمين. تحدث كثيرون منهم عن الفكر الديني السائد كأحد أسباب ذلك التراجع، بتقديسه وتنزيهه للتراث وتعامله بتفسير تآمري مع محاولات إخضاعه للنقد بنصوصه وشخوصه وأحداثه، وباحتكاره لفهم ذلك التراث وتقديم رواية واحدة عنه يصوَّر مَن يخالفها كمخالف للدين الذي عرفه الأولون. منهج التقديس هذا لا يشكل خطراً على فهم الماضي فقط بل على التعامل مع قضايا الحاضر وبلوغ المستقبل، وهو ما يدفعنا للتساؤل: كيف يمكن أن يكون الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان، كما نعتقد، ثم نتقيد بآراء واجتهادات زمان ومكان محددين؟
تاريخ المسلمين أم تاريخ الإسلام؟
في كتابه "النظام السياسي في الإسلام"، يرى عالِم الاجتماع السوري برهان غليون أن السياسة والدولة في بداية التاريخ الإسلامي لم يتولدا بطبيعة عقيدية، وإنما استجابة لغايات ومصالح وصراعات بشرية، ولم تكن الثقافة السياسية وقوانين الحكم مستمدة من تعاليم الإسلام بقدر ما كانت تعبيراً عن ذلك الصراع. ويعتبر أن المسلمين منذ لحظة وفاة الرسول دخلوا في صراع سياسي طويل قبل أن يبلوروا أية نظريات فقهية. وبالتالي لم تكن نظريات ورؤى واجتهادات وممارسات المسلمين الأوائل ثمرة لأخلاقيات النص الديني ولا من صنع المجتهدين، وإنما مجرد تاريخ بشري دنيوي. وأشار الفقيه المغربي أحمد الريسوني إلى إشكالية هامة في دراسة التراث، وهي المزج بين التاريخ والشرع، في كتاب "فقه الثورة... مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي". يقول إن تاريخ المسلمين وممارساتهم اختلطت بالمرجعية والثقافة الإسلامية، ونتج عن ذلك الخلط أن معظم ما تضمنته كتب السياسة الشرعية تم تقديمه للجمهور على أنه "سياسة إسلامية"، في حين أن نصيب التاريخ وتأثيره فيها قد يكون أكبر من نصيب الشرع وأدلته، وبالتالي الإنتاج النظري والفقهي في قضايا مثل الخلافة والملك، أهل الحل والعقد، صلاحيات الإمام وحقوقه وطاعته، الشورى والبيعة، خلع الإمام وانخلاعه، نظام القضاء والحسبة، تدبير المالية العامة، ولاية العهد وإمامة المتغلب هو تراث تاريخي لا يعكس سوى اشتباك العلماء والمفكرين مع قضايا واقعهم. ورصد المفكر الإسلامي محمد سليم العوا هو الآخر، في كتابه "النظام السياسي في الإسلام"، إشكالية منهجية تتمثل في تعامل الباحثين مع وقائع التاريخ الإسلامي بانتقائية، فيركز البعض على أفضل ما في العصور ويبسطونه على تاريخ المسلمين كله، فيما يركز الاتجاه الآخر على أسوأ حوادث التاريخ ويعممونها. ويلفت العوا إلى أزمة علاقة الإسلام بالحكم الناتجة عن التقيّد بكتابات الأقدمين، التي تعبّر، برأيه، عن واقع عصور من كتبوها، لا واقع المسلمين اليوم، ويقول إن "الذين لا يقبلون من الآراء والأفكار إلا ما يجدونه في كتاب قديم، يحكمون على الأمة بالبقاء حيث كانت منذ قرون، يتقدم الآخرون وتتخلف هي، والذين ينكرون الاجتهاد يخطئون الصحابة والتابعين الذين قبلوا كل جديد مفيد، ولو لم يكن لهم سابقة ولا عهد به".
من أين أتى التقديس إذاً؟
يرى الباحث مدحت ماهر، مؤلف كتاب "فقه الواقع في التراث السياسي الإسلامي"، في حديث مع رصيف22، أن اتجاهات تقديس وتنزيه تاريخ المسلمين تأتي من أمرين، الجهل والهوى، بدعم عوامل أخرى مثل الاستبداد الذي يغلق الآفاق أمام الفكر والنقد، أو الهجوم الحاد على الأجداد، فيكون رد الفعل تنزيه التاريخ والتراث دفاعاً عن الذات. "لماذا يملك الماضي كل هذا السلطان الطاغي في حاضر العرب، ومن أين يستمد كل هذه القدرة على الخروج من تاريخه، وتمديد إقامته في أزمنة أخرى؟". سؤال مهم طرحه المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز في كتاب "نقد التراث"، مؤكداً أن التراث لا يملك سلطاناً من نفسه، وإن كان له مضمون قداسي يبدو عابراً للزمان، لأنه محايد في ذاته، يرقد في الكتب، والناس هم مَن يخرجونه من صمته ويُنطِقونه أو ينطقون به، ويرى أن عملية تقديس التراث تستهدف بالأساس الاستيلاء عليه عبر احتكار تأويله وفرض رواية واحدة صحيحة عنه، وذلك بدافع الاستيلاء على الحاضر، فمَن ينتصر في معركة التراث ينتصر في الحاضر. واتهم الباحث المصري نصر حامد أبو زيد الخطاب الديني المعاصر بأنه اتخذ موقفاً نفعياً من التراث، بتحويل أقوال السلف واجتهاداتهم إلى نصوص لا تقبل النقاش أو إعادة النظر والاجتهاد، والتوحيد بين تلك الاجتهادات والدين في ذاته، وتجاهل جانب آخر من التراث يناهض هذا الاتجاه. يقول أبو زيد في كتاب "نقد الخطاب الديني" إن آلية التوحيد بين الفكر والدين، التي اعتمدها ذلك الخطاب، تعتمد على إهدار البعد التاريخي، بمد فعالية النصوص الدينية إلى كل المجالات، متجاهلاً الفروق التي صيغت في مبدأ "أنتم أعلم بشؤون دنياكم"، وبذلك يوحد الخطاب بين النصوص وبين فهمه وقراءته لها.
قراءة سلفية "لا تاريخية" للتراث
"القراءة السلفية للتراث قراءة لا تاريخية، لا يمكن أن تنتج إلا نوعاً واحداً من فهم التراث وهو الفهم التراثي للتراث". قدّم المفكر المغربي محمد عابد الجابري هذا النقد للتيار السلفي، في كتاب "نحن والتراث"، ووصف قراءته للتراث بأنها "سافرة" تتخذ من التمسك بالجذور وسيلة لبلوغ المستقبل وعصر النهضة، من خلال الدفع بأن ما تم في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبل، إلا أن الوسيلة تحوّلت إلى غاية، وأصبح الماضي نفسه هو مشروع النهضة المأمول، فأضحى المستقبل يُقرأ بواسطة الماضي، الماضي كما كان ينبغي أن يكون وليس الماضي الذي كان. وفي كتاب "وعاظ السلاطين"، دلّلَ المفكر العراقي علي الوردي على فشل الرأي الذي يعصم فترات الإسلام الأولى من النقد باعتبارها "نموذجاً" لا يحتاج لتطوير أو تبديل، برأي الرسول نفسه الذي قال إن الإسلام سيرجع غريباً كما بدأ أول مرة، فكان يقول لأصحابه أنهم سيتبعون سنن مَن كانوا قبلهم من الأمم، وفي أواخر أيامه توقع ظهور الفتن كما توقعها من بعده عمر، فكلاهما أدركا طبيعة التطور الاجتماعي وقواعد الصعود والهبوط. وهاجم الوردي أيضاً الاتجاه الذي يضع الصحابة فوق البشر، مستشهداً بأحاديث البخاري التي روت أنهم تشاتموا مرّة أمام النبي وتضاربوا بالنعال، وهذا أكبر دليل على أنهم بشر يتنازعون ويتنافسون ويتحاسدون، وتجري عليهم نواميس المجتمع البشري. كذلك قال إن مَن يزعم أن طريق الصحابة هو طريق النجاح تناسى أن الصحابة أنفسهم اتبعوا طريقين متناقضين أيام عثمان بن عفان، وتساءل أيهما نتبع: طريق أبو ذر الذي أراد أن يصادر أموال الأغنياء أم عثمان الذي أراد أن يُبقي عليها؟
تقديس التراث.. الإسلام يُراد هدمه باسم الإسلام
يتحدث محمد الغزالي عن أزمة توظيف التراث لدعم واقع المسلمين المزري، فيقول في كتابه "سر تأخر العرب والمسلمين"، إن الإسلام يعاني من المجتمعات التي انتمت إليه وقدّمت مواريثها وأهواءها على أنها مطالبه ووصاياه، فعانى مثلاً من حكم الفرد وإغفال الشورى وفقدان المال لوظيفته الاجتماعية وتحقير النساء، فنتج عن ذلك هبوط إنساني عام قذف بالمسلمين في مؤخرة القافلة البشرية، بعد أن فقدوا الصدارة عن جدارة لا عن ظلم، ويضيف أنهم لما بدأوا يصحون وجدوا عراقيل الماضي تعترضهم.
وفي تحليله لتلك الأوضاع، أشار الغزالي إلى أن الاستسلام للواقع سيطر على الفقه لعدة قرون، فرضي باغتصاب السلطة وأعطي الحكام المتغلبين صفة شرعية ورضي بانحرافات ثقافية واجتماعية كثيرة. ويقول إن الإسلام يعاني من شيوخ، لا هم من أهل الذكر ولا هم من أهل الفكر، لهم قدرة غريبة على تبني آراء تراثية تقف عثرة في طريق نهضة المسلمين وتدعم الاستعمار الداخلي، فتجدهم يستشهدون، مثلاً، بالتراث وهم يقولون "المرأة لا ترى أحداً ولا يراها أحد"، وكأن عصر النبوة كان يقبل المنكر عندما رصّ النساء صفوفاً في المسجد، وعندما قبلهن عوناً للجيش في بعض المعارك.
هل المسلمون في حاجة إلى "غربلة" تراثهم؟
نادى العديد من المفكرين الإسلاميين بعمل مراجعات عميقة وشاملة للتراث الإسلامي، بمعظم مفرداته وقضاياه ومؤلفاته، منهم على سبيل المثال، أحمد الريسوني الذي لم يستثنِ من تلك المراجعة إلا ما كان شرعاً منصوصاً صريحاً صحيحاً، وطالب بمراجعة الإجماعات المشكوك في دواعي تشكيلها وسلامة انعقادها أو في صحة حكايتها ورواجها. العامل الزمني لم يكن دافع الريسوني الأول، فصحيح أن الفقه المنوط بالمراجعة تم وضعه ما بين القرنين الخامس والثامن الهجريين، وهو ما يفصلنا بعدة قرون عن واقعنا، إلا أن عامل آخر يفصل المسلمين عن هذا الفقه، حيث التطورات النوعية الهائلة التي شهدتها المجتمعات الحديثة في جميع المجالات والأصعدة، كذلك الهزة السياسة الكبرى التي عرفتها المجتمعات العربية في 2011، والتي كشفت، بحسب الريسوني، أوجهاً مؤسفة من الضعف والقصور والتخلف والخلل في الفقه، خاصة السياسي، لدى كثير من العلماء الشرعيين والقادة الإسلاميين. ودعا الغزالي بشكل واضح في كتابه "سر تأخر العرب والمسلمين" إلى ضرورة "غربلة" التراث والتقاليد، بحيث لا يبقى منهما إلا ما كان له صلة بالشريعة، وعلى قدر قوة هذه الصلة وضعفها يكون التمسك بهما. كما طالب في كتاب "تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل" بإعادة كتابة التاريخ الإسلامي حتى القرن الخامس عشر للهجرة. وطالب الريسوني بالفصل بين الشريعة ومكوناتها والتاريخ ومكوناته عند مناقشة قضايا التراث، على أساس أن هذا الفصل يرفع الحرج عن المجتهدين، كذلك يُجنب الخلط بين التاريخ والشرع حتى لا يتخذ المسلمون من تاريخهم ديناً.
إذاً... كيف يجب أن نتعامل مع التراث؟
يرى الريسوني أن الفقهاء متفاوتون في ذواتهم وقدراتهم الفكرية ومراتبهم العملية ومسالكهم المنهجية، وكل هذه الأمور تؤثر في اجتهاداتهم ونتائجهم حتى أخلاقهم وطباعهم تؤثر، لذلك يحتاج المنتج الفقهي الاجتهادي إلى مراجعات مستمرة. "ليس التراث مقدساً، ولا مدنساً، ولا حلبة مواجهة، إنه موضوع للمعرفة فحسب". هكذا حدّد عبد الإله بلقزيز مسار علاقة الباحث بالتراث، وقال إن الباحثين في الغرب لا يجدون حرجاً في دراسة التراث الفلسفي الإغريقي أو التراث القانوني الروماني أو التراث الديني والفكري المسيحي، لا يفعلون ذلك بحثاً عن أجوبة لمشكلات عصرهم، وإنما لأن دراسته تقع في صلب مهنتهم كباحثين، فالموضوع فكري بامتياز، والقضية محل البحث تنتمي إلى تاريخ الفكر وهو ما يستوجب قراءة التاريخ التي تطورت خلاله، لذلك يزدهر العمل الأكاديمي والفكري في مجتمعات أخرى دون أن يعيش إشكالية التراث بالشكل الذي يعيشه الفكر العربي المعاصر.