في العالم الحر.. المُقدس مُقدس عند أصحابه فقط - Articles
Latest Articles

في العالم الحر.. المُقدس مُقدس عند أصحابه فقط

في العالم الحر.. المُقدس مُقدس عند أصحابه فقط

ماهر جبره:

 

حادثة بشعة وقعت في باريس نهاية الأسبوع الماضي، حيث تم ذبح مدرس تاريخ على يد متطرف وإرهابي من أصول شيشانية. الإرهابي انتقم من المدرس بسبب عرضه بعضا من الصور على طلابه، التي تسببت من قبل في حادثة شارلي إيبدو. حدث ذلك في إطار نقاش عن حرية الرأي والتعبير.

الحادث هز فرنسا كلها. ليس فقط بسبب بشاعة الجريمة، حيث قطع الإرهابي رأس المدرس وفصله تماما عن جسده وصوره ووضعه على الإنترنت ولكن أيضا بسبب رمزيته.

فالأستاذ صامويل باتي، مدرس التاريخ كان يمارس عمله في تعليم تلاميذه عن ماهية حرية الرأي والتعبير والاعتقاد، وعن كفالة الدستور الفرنسي لحرية الاعتقاد. والتي تعني أن من حق الفرد أن يؤمن أو لا يؤمن، وأن يقدس الرموز الدينية أو ينتقدها، هذا ما يكفله الدستور الفرنسي وكل دساتير العالم الحر، حيث لا تفرض الدولة على مواطنيها تقديس المعتقدات الدينية.

ما فعله صامويل باتي يمثل قيم الجمهورية الفرنسية القائمة على مبادئ الحريات. في حين يعبر الإرهابي الذي قتله ومثل بجثته عن قيم تنتمي إلى الماضي. ماضي يأبى أن يرحل ويتركنا في سلام، حيث انتقاد المعتقدات الدينية كفيل فيه بأن يحل دمك ويجعلك عرضة للموت أو على الأقل السجن.

المُحزن في الأمر ليس فقط الحادث البشع، ولكن بعض من ردود الأفعال عليه. فخد مثلا بيان الأزهر الذي صدر للتعليق على الجريمة. فقد أصدر الأزهر بيانا يدين فيه الحادث ويطالب فيه بسن قانون عالمي لتجريم الإساءة إلى الرموز الدينية، على شاكلة إدانة التحرش ولكن مع حث الضحية على لبس ملابس محتشمة. بيان لا تستطيع أن تفهم إذا كان فعلا يدين الجريمة أم لا.

الصادم أكثر من البيان غير الواضح والذي يحمل أكثر من معنى، هو تعليقات بعض المتابعين عليه، فقد هاجم عدد منهم الأزهر ووصفوه بـ "المهادن" لفرنسا على حساب الدين. حيث كتب كثير منهم تعليقات تؤيد وتبارك الجريمة البشعة باعتبار أن ما فعله صامويل باتي اعتداء على المقدسات.

هذه التعليقات المنتشرة بالآلاف على مواقع التواصل الاجتماعي من تبرير واحتفاء واحتفال وتمجيد للقاتل في حد ذاتها، تكشف عن مدى انتشار الأفكار المتطرفة وأن معتنقيها أكثر بكثير من مجرد بضع أفراد من أعضاء التنظيمات الإرهابية المعروفة. والأهم أنها تضعنا أمام أسئلة كثيرة منطقية عن دور وفاعلية المؤسسات الدينية الكبيرة في مناهضة هذه الأفكار وعلى رأسها الأزهر.

للأسف يتخيل البعض أن فرنسا تستهدف الإسلام، بسبب عدم تجريم أنشطة مثل ما تقدمه صحيفة شارلي أيبدو، ولكن هذا ليس صحيحا. فالواقع إن المتابع لجريدة شارلي إيبدو سيجد أن حجم وكمية الرسومات التي تنتقد الرموز المسيحية واليهودية التي نشرتها الجريدة أكبر بكثير مما نشرته عن الإسلام أو عن النبي محمد. هذا ليس دفاعا عن محتوى الرسومات ولكنه فقط توضيح لحقيقة الأمر.

ففرض تقديس الرموز الدينية بالقانون وعقاب من ينتقد هذه الرموز هو أمر يُعتبر من الماضي بالنسبة للغرب. وهو يرتبط بذكريات مثل محاكم التفتيش وحرق البشر أحياء بسبب التشكيك في إيمانهم، وهي أحداث يخجل منها ويعتذر عنها الغربيون عندما يتحدثون عن تاريخهم.

وربما علينا أن ندرك كيف يفكر الغربيون حتى نفهم هذا الأمر الشائك. فالغربيون يؤمنون بحرية النقد والفكر بما في ذلك حرية نقد الأديان وهذا من صلب ثقافتهم وبالتالي فمن الطبيعي أن تجد في المكتبات الغربية كتبا تهاجم المسيحية مثلا وتنتقدها بل وتسخر منها. هذا لا يدفع المسيحيين في هذه الدول للقيام بأي رد فعل عنيف، فالفكر يواجه بالفكر، هذه هي ببساطة إحدى أساسيات الثقافة الغربية.

أما في بلادنا فليس غريبا أن تجد أشخاص خلف القضبان بسبب آرائهم أو معتقداتهم الدينية، طالما دعوا أو أعلنوا عن أفكار لا تتفق مع الأفكار الدينية السائدة.

وعليه فعندما نطالب فرنسا بسن قوانين ازدراء الأديان إسوة بالمنتشرة في بلادنا، مثل المادة (98و) من قانون العقوبات المصري، والتي تجرم حرية الرأي والتعبير في تعارض واضح مع الدستور المصري. فنحن عمليا ندعو فرنسا العلمانية لحبس مفكريها كما فعلنا نحن مع مفكرينا، ناسين أو متناسين أن هذه القوانين هي التي تم بها سجن وقمع كثير من المفكرين الذين حاولوا واجتهدوا في مجال الإصلاح الديني، بما في ذلك الأزاهرة أنفسهم. وهو ما لا يمكن تصور حدوثه.

فهذه الثقافة التي نريد فرضها على الغرب هي التي تسببت في إعدام المفكر الإسلامي السوداني الكبير محمود محمد طه، وهي التي بررت قتل المفكر المصري العظيم فرج فوده. علما بأن من برر للقتلة فعلتهم هو الشيخ محمد الغزالي، حين قال في محاكمتهم إن القتلة افتئتوا فقط على الحاكم، أي قاموا بما كان يجب أن يقوم به الحاكم وهو قتل فوده عقابا له على أفكاره.

هي أيضا من حكمت بتفريق المفكر الإسلامي المصري الدكتور نصر حامد أبو زيد عن زوجته بحجة أنه مرتد لأنه فهم وقدم الإسلام بشكل مختلف عن السائد، وهي من أجبرته على أن يهرب من مصر ويقضي بقية عمره في أوروبا. أوروبا التي ندعوها اليوم لتحذر حذونا.

القضية ببساطة هي أننا نريد أن نفرض احترام مقدساتنا على العالم أجمع، رافضين أن نقبل بواحدة من أهم أساسيات التعايش مع الآخر ألا وهي أن المُقدس مُقدس عند أصحابه فقط، وأننا لا نمتلك الكون حتى نفرض عليه معتقداتنا. فمن حقك أن تؤمن وتقدس ما تشاء ولكن ليس من حقك أن تفرض على مليارات البشر وخصوصا الذين يعيشون في ثقافات مبنية على الحريات أن يلتزموا بمعاييرك.

الحرة

Related

Share

Rating

0 ( 0 reviews)

Post a Comment

Category
Author
More Options
  • Recent
  • Popular
  • Tag
Tags