محمد خالد الشرقاوي:
طفلٌ يبدو أنه لم يبلغ السادسة من العمر، على كتفه اليد اليسرى لامرأةٍ ثلاثينية تبدو متعلمة أنيقة في ملابسها وإيماءاتها. ظلَّ رأسُهُ على كتف أمه الأيمن هادئاً في إحدى عربات قطار المترو المتجه من ضواحي الجيزة إلى وسط القاهرة، ثم استيقظ بعد 15 دقيقة ليبدأ جولة تثاؤبٍ لا تنقطع وكأنه ظل يعمل 24 ساعة حتى سقط في نومٍ عميق.
"ضع يَدك على فمك"، هكذا قالت الأم، بينما أثار عدم اهتمام الطفل بفمه ويده انتباه سيدةٍ تتدلى الكعبةُ في سلسلةٍ ذهبيةٍ حول رقبتها، لتخبره بصوت أجش: "اللي مش بيحط إيده على بقه (فمه) الشيطان بيعمل بي بي (يتبوّل) في بُقه".
ما قالته السيدة يشير إلى واحد من التصورات الشعبية عن الشيطان، والتي لا تقف "قذاراته" عند الحد الذي تحدثت عنه، فالبعض يعتقد مثلاً أن الشيطان يَبول في أذن من ينام عن صلاة الفجر.
يشعر بالتقزز إذا تثاءب
سامح البارودي (42 عاماً) هو عامل في مصنع منسوجات لا يعرف أن الشيطان يبول في فم المتثائب لكنه يؤمن أن الشيطان يبصق في فمه عندما يتثاءب، موضحاً: "أشعر بالقرف الشديد وأغسل بُقي لما أتّاوب (أتثاءب)، شيء قذر جداً لما تحس إن الشيطان تف (بصق) في فمك".
هذه "المعلومة" والعادة يقول سامح إنه تعلمها من جاره الحاج حسني الذي كان يقيم معهم في منزل الأسرة، في إحدى حواري ضاحية شبرا الخيمة حيث ولد وتربى ولعب في طفولته.
يوضح سامح أنه "يخاف من الشيطان"، فهو يعتقد أن "أحد الصالحين حصّنه ضد الشيطان عندما كان رضيعاً"، وعرف ذلك عندما أراد ساحرٌ أن يستخدمه مساعداً له قائلاً: "الساحر قال لي روح أنت متحصن ما فيش حاجة هتقرب لك طول العمر، عشان كدا مش بستأذن لما أدخل الحمام (المرحاض)".
"كنا صغاراً نصدق الخرافات"
محمد الصاوي (36 عاماً) يعمل كمنشئ محتوى في أحد المواقع الإلكترونية، وقد ولد في محافظة المنوفية ولعب في حقول الذرة وبجوار المقابر حتى انتقل إلى القاهرة بعد دراسة الإعلام، حاملاً عادات قرية زاوية الناعورة.
خلال طفولته كان يعاني من صراع بين رغبته في النوم والخوف من إغفال الصلاة وما سيلقاه من "قذارة الشيطان" في أذنيه، فكان إذا استسلم للنوم يحاول أن يُؤمِّن نفسه بوضع وسادة فوق رأسه حتى لا يصل البول إلى أذنيه، كما يقول.
"كنا صغاراً نصدق ما يُقال من خرافات في البيت أو الكُتاب حتى صدقنا أن الشيطان يمكن أن يبول في الفم أو الأذن"، يعلق محمد مستذكراً أنه كان في كُتاب القرية عندما تثاءب أمام الشيخ بسيوني ربيع، أو "بسونة" كما يصفه، ولم يضع كفه على فمه، فنهره الشيخ قائلاً: "تثاءب كما يجب".
يعلق محمد ضاحكاً: "أمر صعب عندما تتخيل أن الشيطان بكل ما فيه من قذارة سيُخرج عضوه الذكري ويبول في فمك أو أذنك قطراناً كما ظننت، ما هذا الشيطان الذي يحبس بوله حتى يتثاءب طفلٌ، كنت طفلاً يجد فزاعة الدين تحيط بكل تصرفاته".
طفلان مصابان بالأسطورة
ياسين سامح وهاني محمد طفلان يبلغان من العمر 7 أعوام، يسكن كلٌ منها مع أسرته في شارعين قريبين في نطاق شبرا الكبير. يتقابلان مساء كل يوم للعب على دراجتيهما الهوائيتين حتى موعد النوم، وفي الصباح يذهب كل واحد منهما إلى مدرسة مختلفة عن مدرسة الآخر.
تعلم ياسين وهاني من المدرسة والأسرة أن "كل واحد يحط إيده على بقه لما يتاوب عشان الشيطان بيتف فيه".
وعند الحديث معهما عن أمور أخرى يعتقدان أن الشيطان يتدخّل فيها أو هي "حرام"، يقولان مثلاً: "ما ينامش الشخص عريان عشان حرام"، و"يعدل الجزمة المقلوبة عشان حرام" و"ما يصرخش في الحمام عشان ربنا بيزعل".
"ينفخ روحه الخبيثة"
أسماء وهدى محمد عبد السميع شقيقتان تقيمان في قرية بهتيم، الأولى تبلغ 38 عاماً تركت المدرسة في المرحلة الإعدادية لتتزوج وأنجبت 4 أطفال، والثانية تبلغ 45 عاماً تركت المدرسة للسبب ذاته في المرحلة الثانوية.
تؤمن الشقيقتان أن "الشيطان يدخل إلى جوف المتثائب وينفخ في صدره من روحه الخبيثة ولا بد أن يمنعه الإنسان عن ذلك، أما البول فلا يحدث إلا إذا غفل الإنسان عن الصلاة".
وتعتقد الشقيقتان أن قلب الحذاء في المنزل يسبب حزناً مثل ترك المقص مفتوحاً لفترة طويلة، وتحرصان على نقل هذه العادات إلى أطفالهما رغم أنهما لا تصدقانها تصديقاً مطلقاً، وإن كانت أسماء تؤمن بحقيقة تجربة التمائم التي تمنع "الضيقة" (التعب النفسي) الذي يسببه الشيطان للأم التي ولدت حديثاً.
وتقول أسماء إنها عندما مرت بالتجربة رسمت لها إحدى السيدات تميمة وعلقتها في صدر الطفل علي، وجمعت 7 عملات فضية من 7 أشخاص يسمى كل واحد منهم باسم محمد، منهية حديثها بالتأكيد: "الحَذَّاقَة مصدقاها عن تجربة".
"يجلس على أذن النائم"
محمد عبد الحميد سائق يبلغ من العمر 72 عاماً، ولد في محافظة أسيوط في صعيد مصر. ترك المدرسة بعد المرحلة الابتدائية، وقضى فترة طويلة مقيماً في دولة ليبيا للعمل، وهناك تعرّف على زوجته الليبية زاهية مسعود (55 عاماً) التي لم تتلق تعليماً مطلقاً.
يعتقد الزوج المسن أن الشيطان يدخل إلى فمه إذا تثاءب ولم يكن يعرف أن البعض يظنه يبول كذلك، قائلاً: "لا دي مش عارفها قبل كده"، ويؤمن أن الشيطان ينفخ في أذنه طوال الليل حتى لا يستيقظ لإقامة صلاة الفجر، وفقاً لما تعلمه من جده عندما كان في الخامسة من عمره.
من جهتها، تعلمت الزوجة القادمة من ثقافة شعبية ليست بعيدة تماماً من والدتها أن الشيطان يجلس على أذن النائم حتى لا يستيقظ لصلاة الفجر، لذلك تحرص منذ صغرها على قراءة القرآن حتى تبعد الشيطان عنها، وتتفق مع زوجها في دخول الشيطان من فم المتثائب، قائلة: "هو بيدخل لما تسيب التم مفتوح عشان هيك لازم يتسكر، لأن الشيطان اللعين يدخل الصدر ينفخ فيه ويضر الإنسان".
"أفكار شعبية"
لا يؤمن يسري عطية بكل هذه الأفكار التي وصفها بـ"الشعبية" رغم أنه لم يتلق تعليماً مطلقاً ولا يعرف رسم حروف اسمه بعد أن وصل إلى عمر 51 سنة، وقضى معظم عمره في مهنة لصق "السيراميك" و"البورسلان" على الأرضيات بين المنازل البسيطة وأفخم الفنادق والقصور.
ولد يسري في إحدى حواري القليوبية، ومنها تنقّل بين أغلب مدن مصر بسبب طبيعة عمله، وخالط جميع فئات المجتمع، كل هذه الجولات والتجارب الحياتية علمته كما يقول ما لم يتعلمه في المدرسة حتى تفتحت بصيرته.
"الشيطان يبول في فم من يتثاءب وفي أذن من يهمل صلاة الفجر"... بعضٌ مما سمعه كثر من العائلة أو المدرسة أو المسجد عن "قذارات الشيطان"، منهم من أدرك لاحقاً أنها "هراء شعبي" ومنهم من استمر بالاعتقاد بها ونقلها إلى أولاده، فماذا يخبر هؤلاء عن علاقتهم بهذه المعتقدات؟
يتحدث يسري عن الأمر قائلاً: "زمان قالوا لنا الشيطان بيبول في البُق لما الواحد يتاوب أو بينفخ في صدرك كلام من ده يعني، وقالوا بيبول في ودنك عشان ما تقمش تصلي الفجر، كل دا كلام فاضي، والواحد العاقل اللي دماغه شغال مستحيل يقبل الهَجْصْ (الهراء) ده بتاع الناس الشعبية، وهل الشيطان يعني هيسيب الدنيا كلها ويتف أو يبول في بقي أنا؟ دا كلام فاضي".
تتشابه الظروف الحياتية والاجتماعية لعبده محمد مع ظروف يسري، ورغم ذلك لا يزال عبده يؤمن بكل هذه المعتقدات فيظن أن الشيطان يبول في الفم والأذن، وهذا ما تربى عليه وسمعه من أسرته في المنزل ومن جيرانه في الحارة، وأحياناً في خطبة الجمعة.
رغم أن عبده يعمل حداداً ويمتلك ورشة لتصليح المعدات الكهربائية وعاش متنقلاً بين مدن وقرى مصر، بداية من الوراق وإمبابة مروراً بالحسين والغورية، وصولاً إلى محافظة القليوبية حيث ورشته في منطقة "أم بيومي"، وخالط جميع فئات المجتمع، لكنه ظل على حاله مؤمناً بما عرفه في طفولته فلم يتمرد عليه بل حرص على تعليم أولاده هذه العادات التي يشكو أنها بدأت تختفي من المجتمع.
"لا يبول فقط بل يضاجع النائم"
يرى أستاذ الأدب الشعبي في كلية الآداب جامعة القاهرة خالد أبو الليل أن الشيطان حاضر دائماً في أغلب كلامنا ومواقفنا في الحياة اليومية، وتحكم هذا الحضور القوي وسيلتان هما الترغيب في فعل أمر ما قد يكون جيداً، والترهيب من فعل يرفضه المجتمع.
يعزو أبو الليل ذلك إلى دور رجال الدين الذين رسّخوا تدخل الشيطان في أفعالنا وإصابتنا بقذارته، ثم انتقلت الكثير من التصورات الأسطورية إلى المجتمع الشعبي فلم يعرف الإنسان العادي إذا كان الأصل حديثاً نبوياً موضوعاً أم غير ذلك.
ويذكر أستاذ الأدب الشعبي أن البعض يعتقد بمضاجعة الشيطان للنائم على بطنه أو من ينام عارياً، فينصح الآباء أطفالهم بتجنب النوم في هذه الحالات، ولا يقف التصور الشعبي عند فعل البول سواء في الأذن أو الفم بل يمتد إلى الاعتقاد بأن الشيطان يشارك في عملية الجماع بين الرجل والمرأة إذا لم يقرأ الزوجان أدعية معينة وآيات قرآنية، وإذا لم يفعل الزوجان ذلك تتصور الجماعة الشعبية أن الطفل سيخرج غير صالح، ومن هنا جاء قول "نبت شيطاني".
ويضيف: "يعتقد البعض أن الشيطان يتلبس أي شخص يبكي أو يصرخ في المرحاض أو من يظل فيه لفترة طويلة، ويستخدم الناس الشيطان مبرراً لكثير من الأمور مثل قولنا ′ساعة شيطان′ أو ′دخل الشيطان بينهم′ أو ′اطردوا الشيطان اللي بينكم′ خلال محاولات إجراء الصلح بين أطراف متخاصمة".
كل هذه التصورات الأسطورية تغلغلت إلى الثقافة الشعبية عبر أحاديث مختلفة في أسلوبها، ينفي البعض ورودها على لسان النبي محمد لتعارضها مع المنطق وعدم ورودها في نص واحد ثابت، فقد روى البخاري (1144) ومسلم (774) والنسائي (1608) وابن حبان (2562) عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "ذُكِر عند النبي رجلٌ، فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة، فقال: ذاك رجلٌ بالَ الشيطان في أُذُنه".
والحديث الآخر عن التثاؤب ورد في رواية عن أبي هريرة أن النبي محمد قال: "أما التثاؤُب فإنما هو من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليَرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان"، كما رواه البخاري، لكن البعض يضعف الحديث ويشك في صحته فيضعه محمد ناصر الألباني ضمن الأحاديث الموضوعة والضعيفة ضمن كتابه "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ على الأمة".
"البول مجازي"
يعتبر أستاذ الشريعة الإسلامية والفقه المقارن في جامعة الأزهر سيد عبده خريشي أن هناك الكثير من العادات والتقاليد الشعبية المنتشرة في المجتمعات ترجع لأصول دينية، خاصة إلى سنة النبي، مثل التكبير في أذن المولود والنهي عن نوم الإنسان عارياً، أو الصراخ والبكاء في المرحاض، وغيرها من العادات مثل وضع يد على الفم أثناء التثاؤب.
وينظر خريشي إلى حديث "بول الشيطان" نظرة مختلفة، فيقول: "الحديث ورد بالفعل في كتب الأحاديث النبوية ونقله الرواة عن النبي وينطبق الرأي ذاته على بول الشيطان في أذن الإنسان الغافل عن الصلاة"، مشيراً إلى أن "بعض المصادر أوردت الحديث بنص ′إذا تثاءب ضحك عليه الشيطان′"، ولكن في كلا الحالتين يرى أن "بول الشيطان أو ضحكه ليسا بالأمر الحقيقي".
ويوضح خريشي رأيه قائلاً: "لا بد أن نفهم المعنى مجازياً، إذ أن الشيطان كائن ليس مادياً ولا يمكن أن يراه الإنسان مثل الأشعة فوق الحمراء، وأشعة X ray، فإذا ضحك هو ضحك مجازي أو بال فهو بول مجازي، وليس كما يفهمه العامة من الناس".
رصيف 22