لماذا يبدو وصف اليهود متناقضا فى القرآن؟ - Articles
Latest Articles

لماذا يبدو وصف اليهود متناقضا فى القرآن؟

لماذا يبدو وصف اليهود متناقضا فى القرآن؟

رصيف22

 

 

"يتطلب الدخول في مجال الدراسات القرآنية، حيث تكثر الأبحاث والمواضيع المثيرة للجدل، الكثير من الشجاعة والمعرفة المتجددة بالاستنتاجات الحديثة والمواكبة للخطاب المعاصر. يتجسد هذا على وجه الخصوص، عند الحديث عن علاقة الإسلام باليهود واليهودية وربطها بالخطاب السياسي المعاصر للشرق الأوسط. في هذا السياق يعمل باحثون على تصحيح العديد من المفاهيم والافتراضات الخاطئة حول العلاقة بين المسلمين واليهود".

بهذه العبارات قدم دانيال شريتر، مدير مركز الدراسات اليهودية وبروفيسور في قسم التاريخ بجامعة مينيسوتا، ندوته الإلكترونية بعنوان "اليهودية في القرآن"، والتي استضاف فيها الدكتور الإيراني محسن جودرزي، المختص بالدراسات الإسلامية والدينية في قسم الدين بجامعة مينيسوتا، والذي يركز في أبحاثه على التاريخ النصي للقرآن وبالأخص على ظهور الإسلام وعلاقته باليهودية والمسيحية.

المجتمعات اليهودية في شبه الجزيرة

يمهد جودرزي قبل الدخول في مبحثه بتقديم لمحة موجزة عن وضع المجتمعات اليهودية المختلفة في العصور القديمة المتأخرة أو نهاية العالم القديم في الفترة ما بين القرن الثالث والقرن الثامن. ويناقش الباحث ما عُثر عليه من أدلة على وجود مجتمعات يهودية مختلفة عاشت أو تفاعلت مع سكان شمال شبه الجزيرة العربية وإلى الجنوب والجنوب الغربي منها. وجدت نقوش من مدن مختلفة، تخبرنا أن عدة مجتمعات يهودية عاشت فيها، وكانت قريبة جداً من مدينة يثرب التي ظهر فيها الإسلام فيما بعد، ويقال إن هناك عدداً كبيراً من اليهود عاشوا في يثرب. فما هو نوع الدليل الذي لدينا حول وجود المجتمعات اليهودية؟

تطلعنا النقوش التي عُثر عليها منذ منتصف القرن التاسع عشر على أن مجتمعات يهودية سكنت في شمال غرب شبه الجزيرة والجنوب الغربي منها، تمتعت بمكانة بارزة بين أقوامها، وربما تفاعلت مع عرب يثرب.

يستعين جودرزي ببحث لمحمد النجم، أحد القيمين على متحف تيماء في السعودية ومايكل مكدونالد، بروفيسور معهد الدراسات المشرقية التابع لجامعة أكسفورد حول نقش نبطي آرامي من مدينة تيماء يبين أهمية هذه المجتمعات اليهودية ومكانتها البارزة. يعود تاريخه إلى بداية القرن الثالث، وهو مكتوب بالآرامية كما كانت تستخدم في المملكة النبطية التي كانت مملكة ثم مقاطعة تابعة للإمبراطورية الرومانية التي امتدت إلى الأردن وأجزاء من شمال غرب المملكة العربية السعودية وحتى شبه جزيرة سيناء.

يقول السطر الأول "هذا هو النصب التذكاري لدفن أشعيا [...] بن يوسف، زعيم تيماء، يقيمه على شرفه إخوته عمرام وعشم". يدل هذا النصب باسم الزعيم وإخوته، وأحدهم يحمل اسماً يهودياً، على المكانة الاجتماعية التي تمتع بها اليهود في ذلك الوقت.

نصبتذكاري

النصب التذكاري لأشعيا يوسف- نقش نبطي آرامي من مدينة تيماء من القرن الثالث (سنة 203 م)

شهد القرن الرابع نجاحاً سياسياً للديانات التوحيدية في أجزاء عدة من الشرق الأوسط. وقد حظيت المسيحية بقبول و انتشار واسعين في الإمبراطورية الرومانية خلال القرن الرابع. حدث أمر مشابه لهذا في مملكة أكسوم والتي امتدت في ما يعرف اليوم أثيوبيا و إريتريا. و في مملكة حمير (ما يعرف باليمن اليوم) حصل تطور مماثل نراه في النقوش التي وجدت في المنطقة و تحتوي على لغة توحيدية، خصوصاً ذات طبيعة يهودية و في الحقيقة، لا يتضح وجود أية نقوش وثنية في هذه المنطقة بدءاً من العام 380.

يطلعنا جودرزي على ترجمة من كتاب "العرب والممالك قبل الإسلام" (2015) للباحث والمؤرخ كريستيان روبن للنقوش التي تم العثور عليها في القرن العشرين من عام 380 إلى 420 في منطقة بيت الأشول. ويبدو أن شخصاً يهودياً بنى قصراً هناك، ويشكر في النقش الرب، في وصف للإله الواحد "يهودا يَكُف شيد قصره بمساعدة ونعمة ربه الذي خلقه". ويتابع النقش "إنه رب الأحياء والأموات، رب السماء والأرض، بمباركة من صلوات شعب إسرائيل".

قصريهودايكُف

قصر يهودا يكُف- نقش من منطقة بيت الأشول (اليمن 380-420)

يعني هذا على الأرجح، بحسب جودرزي، أن يهودا يكف كان من أعيان اليهود، وهو يحتفل ببناء هذا القصر من خلال الاعتراف أيضاً بأن صلوات شعب إسرائيل ربما أعانته على أداء هذه المهمة. يتضمن النقش أيضاً نصاً عبرانياً، يقول السطر الأول فيه: "هذا ما كتبه يهودا ليخلد ذكره الطيب، آمين شالوم آمين".

نقشعبراني

نقش عبراني على قصر يهودا َيكُف 

ماذا عن غرب شبه الجزيرة العربية؟

تقدم المصادر الإسلامية معلومات عن المجتمعات اليهودية التي عاشت في غرب شبه الجزيرة العربية وتفاعلت مع النبي، وهذه المصادر، كما يشير جودرزي، تعود لقرن، أو قرنين بعد النبي. لذلك، لا تتضح التفاصيل فيها. لكن الروايات الإسلامية التقليدية التي نجدها في هذه المصادر تفيد بأن النبي عندما ذهب إلى مدينة يثرب، بدأ بعلاقة ودية مع اليهود الذين عاشوا هناك: كان المسلمون يتخذون بيت المقدس قبلة في صلاتهم. كما زخر الوحي النبوي بالقصص والشخصيات والأسماء التي تم ذكرها في العهد القديم. لكن حدثت قطيعة لاحقة بين أتباع النبي والقبائل اليهودية في يثرب.

وعلى مدار السنوات العشر التي قضاها النبي في يثرب، التي تعرف بالمدينة المنورة اليوم، كان هناك ثلاث قبائل يهودية رئيسية، يشرح الباحث مصيرها: طردت قبيلة بني قينقاع من المنطقة بعد معركة بدر. كما يقال أيضاً أن قبيلة بني نظير طردت بعد معركة أُحُد، ثم فيما بعد ذُبح رجال قبيلة بني قريظة وسُبي الصبية والنساء بعد معركة الخندق. وقد انتشر هذا النوع من القصص التقليدية التي لها بداية إيجابية ونهاية مريرة لعلاقة النبي ومجتمع أتباعه باليهود في يثرب.

لكن، إذا خرجنا عن التراث الإسلامي والمصادر اللاحقة التي تنقل هذه القصص، فإننا، بحسب جودرزي، نجد أن بعض المصادر غير الإسلامية من القرن الأول للإسلام، سواء كانت مصادر مسيحية أو مصادر يهودية، تتحدث عن تعاون حصل بين اليهود وأتباع النبي خلال انتشار الإسلام. ولاحقاً عندما فتح المسلمون مناطق كانت تحت سيطرة الإمبراطورية البيزنطية والفارسية، بعض المصادر المسيحية تفيد بأن اليهود قاموا بمساعدة المسلمين في الفتح.

ترد في بعض المصادر اليهودية، كما يضيف جودرزي، أن بعض المجتمعات اليهودية احتضنت الغزاة العرب، وفي مثال يسلط الضوء عليه من مصدر يعود للقرن الثاني يدعى "أسرار الحاخام شمعون بن يوحاي"، يقدم تفسيراً للفتوحات الإسلامية عبر رؤية للمستقبل، يرى فيها أن ملك الإسماعيليين قادم. وبما أن النبي وأتباعه يُنظر إليهم على أنهم إسماعيليون، لذلك رأى شمعون أنهم يمتلكون هذه الإمبراطورية، ثم قال للملاك ميططرون "ألا يكفي ما اقتصته منا مملكة إدوم الشريرة (الإمبراطورية الرومانية) والآن مملكة إسماعيل؟".

فأجابه ميططرون: "لا تخف يا ابن الإنسان، إن القدير يرسل ملك إسماعيل ليخلصكم من شرور إدوم"، ويذكر جودرزي بأن بعض اليهود رأوا في الإسماعيليين خلاصهم من مملكة الروم (إدوم) بسبب علاقاتهم شديدة التوتر مع الإمبراطورية الرومانية الشرقية في ذلك الوقت. ويقول الحاخام: "إن الله هو الذي يرسل نبياً من الإسماعيليين سيأتي ليعيد هذه الأرض إلى عظمتها". ومن هنا، يلفتنا الباحث إلى هذا الرؤية الإيجابية للغزو الإسلامي التي نراها في بعض المصادر غير إسلامية ومصادر مسيحية عن علاقة يهود الشرق الأدنى بالفتح الإسلامي.

الشخصيات التوراتية في القرآن؟

يعتبر القرآن من أول المصادر التي توثق حياة الرسول. فهل تدعم النصوص القرآنية أياً من الروايات التي سبق ذكرها، أم تقدم وجهة نظر مختلفة؟

يشير محسن جودرزي إلى أن الشخصيات التي تظهر في القرآن هي في الغالب توراتية ومألوفة لدى معظم اليهود والمسيحيين، وهناك ثلاث شخصيات توراتية ورد ذكرها بكثرة في القرآن هي: موسى يرد 136 مرة، وإبراهيم 69 مرة، ونوح 43 مرة. كما ترد أيضاً إشارات إلى آدم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وهارون، ويوسف.

يحتوي القرآن أيضاً على بعض الإشارات إلى قادة وأنبياء ما بعد فتح كنعان، مثل شاؤول، جليات (جالوت)، داود، سليمان، إلياس، اليسع، يونان (يونس). إضافة إلى شخصيات من العهد الجديد مثل يسوع ومريم ويوحنا المعمدان (يحيى) وزكريا.

تكمن أهمية هذا، في أنه بالمقارنة مع الشخصيات التوراتية المذكورة في القرآن، فإن ذكر الأنبياء العرب خارج التراث التوراتي في القرآن أقل منها، أحدهم هو النبي هود ذكر 7 مرات، والآخر هو صالح وذكر 9 مرات. وبهذا يرى جودرزي بأن القرآن يكرّم ويحترم جميع هذه الشخصيات اليهودية والمسيحية.

ماذا يقول القرآن عن اليهودية؟

يذكر القرآن اليهود بطرق مختلفة، بحسب جودرزي، فيستخدم لفظ "اليهود" تسع مرات، وهو مشابه لألفاظ أخرى مستخدمة في اللغة العبرية أو الآرامية ومأخوذة من "يهودا". ويرد في القرآن أسماء أخرى لليهود (هود، الذين هادوا)، يرتبط معناها بالعودة إلى الحقيقة والتوبة والرجوع إلى الله، لأن جذر "هَوَد" في اللغة العربية له هذا المعنى فمثلاً "إنا هُدنا إليك" (1: 156)، و"الذين هادوا" قد تفيد أن اليهود هم الذين التفتوا إلى الله، أو إلى التوراة.

يتم أيضاً التدليل على اليهود والمسيحيين باسم "أهل الكتاب"، لأن هذه المجتمعات تنزل عليها كتاب مقدس تستند في تعاليمها إليه. فاليهود والنصارى، بحسب القرآن هم من ورثوا الكتاب، أو من يقرؤون الكتاب قبل المسلمين، فماذا يقول القرآن عن اليهود والنصارى؟

يذكر جودارزي مجموعة من الدلالات الإيجابية والسلبية ترتبط بذكر اليهود والمسيحيين في القرآن. ويستعرض بعض الأدلة النصية القرآنية تشمل اليهود والمسيحيين حين يخاطبهم "بني إسرائيل" أو "أهل الكتاب"، نوردها فيما يلي.

يذكر جودرزي مجموعة من الدلالات الإيجابية والسلبية ترتبط بذكر اليهود والمسيحيين في القرآن. ويستعرض بعض الأدلة النصية القرآنية تشمل اليهود والمسيحيين حين يخاطبهم "بني إسرائيل" أو "أهل الكتاب"، نوردها فيما يلي.

يتعارض في عدة مقاطع قرآنية ذكر اليهود والمسيحيين مع عبدة الأوثان الذين لا يتبعون النبي ولا يقبلونه كرسول لله ويرفضون تعاليمه التوحيدية. فالقرآن يقارنهم باليهود والمسيحيين الذين يعترفون بأن رسالة نبي الإسلام على الطريق الصحيح وتشبه ما لديهم من التوحيد والتقوى.

وفي نص قرآني يشير إلى تنزيل القرآن نفسه، يحاجج النص هؤلاء الذين يرفضونه بأن بعض بني إسرائيل شهدوا على صدقه، فكيف والقرآن بلغة العرب، وجاء به نبي من بينهم لا يصدق به العرب: "قُلْ أَرَأيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنۢ بَنِىٓ إِسْرَٰٓائيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِۦ فَآمَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُمْ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰالِمِينَ" 46:10)، لذا فإن القرآن يسأل النبي: "أوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ" (26: 197).

وهنا نرى في القرآن إلقاء اللوم على بعض أهل مكة لعدم قبولهم للرسول وتصديقه ومدحاً لأهل الكتاب الذين صدقوا رسالته، فيقول القرآن: "وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ" (13:36). وفي مقطع يتم فيه مخاطبة النبي نفسه: "فإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ۚ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ". أي إذا كان لدى النبي أي شك حول مصدر وحيه، فيمكنه أن يذهب ويسأل علماء بني إسرائيل: اليهود والمسيحيين، وسيخبرونه أن رسالته هي في الأساس نفس رسالتهم.

ونجد في بعض النصوص القرآنية وصفاً متناقضاً لليهود والمسيحيين، فبعضهم صالحون وبعضهم ظالمون: "ثمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ" (35:32)، وهذا إشارة إلى الاختيار الإلهي لبني إسرائيل.

وقد يتوجه النص بنقد أكثر حدة لليهود والمسيحيين: "وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" (2:120). أي أنهم يرفضون النبي لأنهم يريدونه أن يكون يهودياً أو مسيحياً وإلا فلن يقبلوا شريعته.

وبرغم الإشارة السابقة إلى الاختيار الإلهي لبني إسرائيل، يعود ليساويهم بغيرهم من الأقوام: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ" (5:18). وهذا يعني أن اليهود والمسيحيين، كسائر خلق الله، سيعاقبون عن خطاياهم.

كما يخص النص اليهود ببعض الانتقادات تحمل تلميحاً إلى السياق السياسي في المدينة: " وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً" أي أنهم يكذّبون رسالة النبي ويكفرون بها. ثم يشير النص إلى الفتنة التي سببوها: "كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ" (5:64)، كإشارة إلى النزاعات العسكرية التي ربما كانوا يحاولون استفزازها لكن الله أخمدها.

كيف نفهم ما يظهر من تناقض وصف اليهود في النص القرآني؟

فيما تذكره المصادر التراثية، يرد أن النبي، كما يشير جودرزي، بدأ بعلاقات ودية مع اليهود، لكن ذلك انتهى بعداوة بين النبي والقبائل اليهودية في يثرب والمدينة المنورة لاحقاً، لكنه يعتقد أن في هذا التصوير تبسيط للواقع لا ينصف الخطاب القرآني. وبرأيه كأي مجتمعات مختلفة تتعايش مع بعضها في البيئة نفسها يمكن أن تحكم علاقاتهم نزعات قد تتسم بالتأييد والمعارضة.

وبالعودة إلى الخطاب الموجود في التوراة وأيضاً في أسفار الرسل، نجد أنه تسوده الإدانة والاستحسان، فمثلاً يرد في الإصحاح الأول من سفر ميخا "وما معصيةُ بَيتِ يَعقوبَ‌، أمَا هي السَّامرةُ؟ وما خطيئةُ‌ بَيتِ يَهوذا، أما هيَ أُورُشليمُ؟ سأجعلُ السَّامِرةَ خَراباً، حقلا لِغَرسِ الكُرومِ، وأُلقي حِجارَها في الوادي وأُعَرِّي أُسُسَ بُنيانِها" (5-6). ثم لا يلبث النص أن يعدهم بمراحم الله في الإصحاح الثاني "إني اجمع جميعك يا يعقوب أضم بقية إسرائيل أضعهم معا كغنم الحظيرة كقطيع في وسط مرعاه يضج من الناس. قد صعد الفاتك أمامهم يقتحمون ويعبرون من الباب ويخرجون منه ويجتاز ملكهم أمامهم والرب في رأسهم" (12-13).

يوجد ما يشابه هذا الخطاب في القرآن، على الرغم من أن النص يوبخ اليهود بعبارات شديدة وسلبية، ولكن في نفس الوقت يقابل ذلك بكلمات الاستحسان، والوعد بالرحمة وقبول التوبة.

ولإثبات ذلك، يختار جودرزي مقتطفات من سورة المائدة (السورة الخامسة في القرآن) التي يرد فيها ذكر اليهود والمسيحيين بكثافة، ويرى العديد من العلماء أنها من أحدث سور القرآن، لذا فهي تتحدث عن مرحلة لاحقة في حياة النبي. ومن الصعب جداً محاولة فهم هذه الحكمة، برأيه، ما لم ندرك تجاذبات الخطاب الذي يحمله القرآن، لأنه يتشارك إلى حد ما في أسلوب الوعظ المتبع في الصحف السابقة.

لعل سياق النص القرآني يتشابه مع سياق الموعظة الموجود في التوراة وأسفار الرسل التي سبقته، فالتناقض الظاهر بين عبارات التقريع والاستحسان لليهود والوعد بالعقاب والرحمة، هو ضمن إطاره الوظيفي كنص خطابي وعظي.

تبدأ السورة بإقرار درجة من التكامل الاجتماعي بين أهل الكتاب وأتباع الرسول: "وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ"، وتقاسم الوجبة له دلالة كبيرة على الألفة في العالم القديم. كما يجيز النص الاختلاط عبر الزواج بين الملتين: "وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ"، وهذا ما يشير إلى مقدار الاندماج الاجتماعي بين أهل الكتاب والمسلمين.

وبالرغم من ذلك، بعد هذه الآية بقليل، يحمل النص تقريعاً لليهود: "وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ". وفي هذا إشارة إلى التآمر السياسي من قبلهم الذي سيكتشفه النبي. ومع ذلك، فإن النص لا يضمّن الجميع في خطابه، كما أن الآية تنصح النبي بالرأفة على من ينخرط في هذه المؤامرة، فتقول: "فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين" (5:13).

كما يشير جودرزي إلى تكريم النص القرآني للنصوص التي سبقته، فيرد في التوراة: "إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ" (5:44)، وعن الإنجيل يقول: "وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ" (5:46). "وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" (5:48).

ويحث النص القرآني النبي أن يرأف بالذين يكفرون برسالته من أهل الكتاب، كما في قوله: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" (68: 5). ثم يعود ليطمئنهم بقوله إنه لا خوف على من آمن منهم: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (69:5). أي أنَّهُ حتى في سورة المائدة، و هي واحدة من أحدث سور القرآن نزولاً، لا نجدُ أسلوباً قائماً على التقريع لوحده أو خلافاً مستمراً مع اليهود؛ ولكن هناك لغة نقدية و موعظة تترك الباب مفتوحاً لتوبتهم.

وبالنسبة لجودرزي، فإن هذا التنقل بين التقريع والاستحسان، العقاب والرحمة، الإيجابي والسلبي للمسيحيين واليهود، يقع ضمن الإطار الوظيفي للنص وهو تقديم الموعظة وتقويم السلوك لشعوب تشترك في مبدأ التوحيد.

رصيف 22

Related

Share

Rating

0 ( 0 reviews)

Post a Comment

Category
Author
More Options
  • Recent
  • Popular
  • Tag
Tags