محمد المحمود:
كيف لـ "عربي مسيحي" أن يكون إسلامويّاً؟
إذا كان طه عبد الرحمن وأبو يعرب المرزوقي مُسْلِمان سُنّيان تقليديان ينتميان ـ عائليا/ أسريّا ومناطقيا ـ إلى فضاء تقليدي مُتديّن/ محافظ، بحيث لا يُسْتغرب منهما أن يُوظِّفا كل ما يستطيعان من أدوات المعرفة/ العلم لتأكيد عقائدهما المُسبقة، ولترسيخ التقليد الأخلاقي الذي نشأ عليه، ولاستحضار التاريخ/ التراث بحقائقه وأوهامه من أجل "استئناف صورة وهمية عن الذات في الماضي"؛ لتصنع "مجداً مَوْهوما" في الحاضر(وهذا يستلزم الدعم الصريح أو الضمني للأصولية التي تأخذ على عاتقها ـ حركيا ـ استرجاع "مجد الإسلام")، أقول: إذا كان الطرح الأيديولوجي (ما يزعمانه علما) لهذين المُسْلمين التقليديين مفهوما؛ فكيف نفهم المسلك الأيديولوجي المماثل الصادر عن "عربي مسيحي" يعيش في الغرب، ويتواصل واقعيا وثقافيا مع الغرب الحداثي في أرقى نماذجه حضورا وفاعلية ؟ كيف لـ"عربي مسيحي" أن يكون إسلامويّاً كأشد ما تكون الإسلاموية محافظة وانغلاقا وعداءً للآخر، وتوجسا منه ؟
ما أراه ـ لتفسير هذه المفارقة ـ أن "الإسلاموية" هنا مُتَضَمَّنَة في "العروبوية" على نحو غير معلن، وربما غير مقصود على مستوى الوعي المباشر. لكن، حتى يتضح لك التضمين لا بد أن تتجاوز الصورة النمطية السطحية عن العداء أو التنافر بين العروبي والإسلامي، التنافر الذي كان ذا ملامح واضحة، معلنة في وقت من الأوقات؛ جرّاء دوافع سياسية؛ ينقضها ـ في العمق ـ المهاد الثقافي المشرك؛ لتكون عداء وتنافرا حقيقيا. فكلا الأيديولوجتين: العروبوية والإسلاموية هما أصوليّتان مُتعاضِدَتان مُتَخادِمتان ـ عن قصد وعن غير قصد ـ، بل ومتزاوجتان على مستوى البنية العامة للتصورات الكبرى/ الوعي (لمزيد من التفصيل في هذا، يمكن للقارئ أن يُراجع مقالي الذي نشرتُه على هذه المنصة الإعلامية في 2/7/2018 بعنوان: وحدة الوعي الأصولي: الديني والقومي).
إذن، مسيحية وائل حلاق، وهي عقيدته التي تفصله عن الإسلام كعقيدة تعبّدية، لا تفصله عن الإسلام كانتماء قومي. ليس الأمر فقط متعلقا بشعور معظم الأقليات العربية غير المسلمة أنها تنتمي ـ حضاريا/ ثقافيا ـ إلى الإسلام؛ بقدر ما هو متعلق بانتماء أشدّ جذرية وحسما، أي بالانتماء إلى وحدة وعي مشترك بين الوعي العروبي والوعي الإسلامي، بما يتجاوز ـ في هذه الحال ـ تحوّل الإسلام إلى دين قومي (فحلاق مثلا يشمل بتمجيده التاريخَ الإسلامي كله، حتى ما يقع منه خارج النطاق العربي)، وبما يتجاوز تحوّل العروبة إلى روح الإسلام ومادته الخام(وهنا أيضا، تركيز حلاق على التميّز/ الإنجاز الإسلامي، وليس العربي على سبيل التجريد والتخصيص).
يؤمن حلاّق ـ وبصرف النظر عن دوافع هذا الإيمان ! ـ أن الغرب في أعلى صُورِ تطوّره: منحط/ غير أخلاقي، وبالتالي، غير حضاري، بل ولا يَعِد مستقبلا بما هو حضاري؛ من حيث هو لا يعد ـ وفق تشكله الحداثي ـ بما هو أخلاقي، بل ولا بما هو قابل للاستمرار/ النجاح. وفي المقابل يؤمن بالعكس تماما لما هو إسلامي/ إسلاموي، فالتاريخ/ التراث الإسلامي نجح نجاحا باهرا في القديم، ولديه الإمكانيات الاستثنائية لاستئناف هذا النجاح في الحاضر والمستقبل. يقول حلاّق في مقدمة كتابه (السلطة المذهبية: التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي، ص11): "وإذا كان التفوق الحضاري والتشريعي الغربي المزعوم ـ بكل مرونته وقدرته على التغيير و "التقدم" ـ قد فشل فشلا ذريعا في الماضي والحاضر، فهل يستمر المسلمون باستهلاك الخطاب الغربي المعرفي ؟ وإلى متى؟".
هكذا، في هجاء صريح للغرب؛ يستبطن الضد منه: المديح للتاريخ التشريعي/ الحضاري للمسلمين، وكل ذلك في "لغة قطبية"، تدعو للعزلة المعرفية صراحة. فوصف الحضارة الغربية بالفشل الذريع في الماضي والحاضر، ثم تنصيص "التقدم"؛ كإشارة إلى نفي هذه الصفة عن الغرب، لا يعكس أكثر من أزمة نفسية عاصفة، تطفح على لغة التنظير "العلمي"؛ في الوقت الذي تشكّل فيه الخيط الناظم كل هذ البحث والتنظير الأكاديمي.
إن هذا الهجاء الأيديولوجي للغرب، والذي يصل حد إنكار الوقائع الثابتة التي يعيشها العالم على مستويات كثيرة يصعب حصرها (أخلاقية، وتنظيمية، وفكرية، وعلمية/ تقنية...) يقابله ما يشبه تجميل التاريخ/ التراث الإسلامي بتزييف حقائقه التي يعرفها كل مُطلّع على هذا التاريخ/ التراث.
يقول حلاق عن استقلال القضاء في التاريخ الإسلامي ـ وهو "الاستقلال المُتخيّل" ! ـ: "إلا أن تدخل الخلفاء أو من ينوبهم في مجريات القضاء ـ رغم ندرة ذلك ـ كثيرا ما كان يتم من خلال القنوات الفقهية الرسمية المقبولة".
ويقول: "لقد كان الخلفاء ومن ينوبهم عموما يُذْعنون للشرع". ويقول ـ على سبيل التعبير الإسلاموي الدعوي ـ : "وعلى الإجمال إذا كانت هناك أية ثقافة فقهية وسياسية تعود إلى عصور ما قبل الحديثة وحافظت على مبدأ سلطة الشرع وسيادته حفاظا جيدا، فإنما هي ثقافة الإسلام" (نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، وائل حلاق، ص260و263و263).
مَن يتأمل مثل هذه "الهجائيات"/ "الفخريات" في تلافيف التنظير الناطق بلسان "العلم"؛ يعرف أن وراء هذا "العلم" الذي يرفعه حلاّق كشعار موضوعي، هَمٌّ أيديولوجي كبير؛ كما هو الحال مع صاحبيه المُتَفَلسِفَين (المرزوقي وطه عبدالرحمن). العلم هنا لا يُخدَم لوج الحقيقة، وإنما يُسْتَخدم لوجه الأيديولوجيا، العلم هنا ليس غاية حتى في حدوده كعلم، وإنما هو وسيلة دعائية لـ"رد الاعتبار القومي" الذي تراه الذات الجريحة يستحق كل هذا العناء.
إحساس حلاّق بـ"المظلومية القوميّة" إحساس حاد جدا، بل مرضي. ومن حيث هو على هذا المستوى من الحدة/ المرض، فهو يستقطب الأوهام في مسار بحثه عن الحقائق. في سياق هذه المظلومية التي مصدرها الغرب تحديدا، يصبح الغرب مصدر عدوان متنوّع متتابع، وهذا التنوع يتضافر ليُضَاعف مستوى العدوان وليُعَمّقه بصورة أكبر، بصورة مؤلمة ومهينة وغير قابلة للتغيير إلا من طرف الذات.
وفق منطق حلاّق؛ لا شيء ـ في مسار هذه المظلومية ـ يتغيّر للأفضل، للأكثر تسالما وتصالحا؛ "فالاستشراق مازال وجها من وجوه الاحتلال الاستيطاني (أو ما يسمى خطأ بالاستعمار) وما زال هذا الوجه يتمحور ليعضد الهيمنة الغربية، حتى صار كالسرطان المعرفي الخبيث" (السلطة المذهبية: التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي، وائل حلاق، مقدمة حلاق للترجمة العربية، ص9و10).
هكذا يتضح أنه لم يكن الدافع الأساس لما كتبه ويكتبه حلاق (وهو أيضا واقع الحال مع المرزوقي وطه عبد الرحمن) علاقة بالعلم؛ من حيث هو "علم"؛ بل هي أيديولوجيا مأزومة؛ جوهر تأزمها ـ وإن اختلفت تمظهراته ـ كامن في طبيعة العلاقة مع الآخر/ الغرب تحديدا؛ خاصة عندما تصادمت وتخاصمت هذه الذات مع آخرها على المستوى المادي والمعنوي، في لحظة اندحار/ كسوف حضاري للذات؛ اندحار بات يُعمّق من مستوى مأساويته ما يقابله من إبهار حضاري ـ غير مسبوق تاريخيا ـ للآخر؛ إلى درجة يكون فيها هذا التقابل تقابلا بين عالمين غير قابلين للتواصل المتكافئ، بحيث يمكن الحديث حقا عن تقابل ـ أو حتى تصادم ـ حضارات.
هذا الإحساس المروع بالفراغ الحضاري الذي ينفتح على إحساس مهين الهامشية، هو ما يرسم حدود الأزمة/ التأزم. ولعل ما يزيد من مستوى غليان هذا التأزم بحق حلاق تحديدا، وبالتالي؛ من شدة تعقّده من ناحية، وشدة الإحساس المرضي به من ناحية أخرى، أن صاحبه وجد نفسه حاضرا في السياق الغربي؛ بوصفه شريكا/ مشاركا في السياق نفسه من جهة، ومن جهة ثانية، مُوَازية؛ حضر بوصفه ابن الثقافة الأخرى التي تُشَكّل هويته المفارقة، والتي تقع ـ بالنسبة للسياق الغربي ـ على هامش الهامش. أي حضر ليجد نفسه ـ في منطوق الصوت المضمر ـ محل ازدراء ثقافي من جهة الانتماء الهُويّاتي؛ في ذات السياق الذي يتألق فيه كباحث متألق يحظى بكثير من التقدير والاحترام.
والمقصود أن حلاق في هذا الصدام المباشر مع ثقافة/ حضارة الغرب، بل ومع الفضاء المعرفي الذي يتموضع فيه ـ من جهة كونه فضاء معرفيا غربيا ـ يحاول التأسيس لِنِدّية مع أقرانه في هذا الفضاء الفكري/ الثقافي الغربي؛ من جهة كونه ـ في الأصل ـ مهاجرا عربيا يتمثّل الغربُ ثقافته الأصلية كثقافة بدائية/ جامدة/ منقرضة، ثقافة عربية تنتمي إلى الإسلام الذي بات يُواجِه تهمة الإرهاب، فضلا عن تهمة الجمود الحضاري المنتهي بعداء/ رفض الحضارة المعاصرة. ما يعني أن حلاّق يواجه تهميشا/ ازدراء/ اتهاما مضاعفا؛ ابتداء، من حيث: هامشيّة الثقافة العربية/ ثقافته الأصلية (كعربي غير مسلم)، وتَثْنيةً، من حيث: انغلاق وجمود وعنف الثقافة التي تنتمي إليها ثقافته/ هويته العربية على نحو أصيل: تراث الإسلام.
طبعا، يعي حلاق أنه لو اكتفى باستحضار أمجاد التاريخ العربي مُجرّدة من أمجاد تاريخ/ تراث الإسلام (وهذا المتوقع/ المفترض ـ مبدئيا ـ لكونه عربيا غير مسلم)، فلن يظفر بشيء ذي بال، خاصة وهو يريد مُنَافَرَة الغرب (مع كل ما لهذا الغرب من عنفوان حضاري كاسح مُتَعَملق في مدى سبعة قرون من الإبداع المتتابع)، بأمجاد أمته ذات الإرث الإمبراطوري الذي يقف فيه "المُكَوِّنُ العربيُّ المُجرَّد من الإسلام"؛ هامشيا، لا يستطيع أن يصمد ولو لمنافرة جماعة/ أمّة بدائية؛ فكيف بمنافرة أعظم الحضارات. هنا، يدرك حلاّق أن لا شيء يخدم مُنَافرته الأيديولوجية سوى الإسلام تاريخا وتراثا؛ فيبادر إلى توظيفه بعد أن يبذل قصارى جهده في إجراء "عمليات التجميل".
هكذا نرى كيف تتحوّل "البحوث العلمية" إلى "مُنَافرة تفاخريّة" في دوافعها وفي غاياتها. وإذا كانت كذلك في الدوافع وفي الغايات، فهي ـ في جوهر الخطاب ـ ليست أكثر من ذلك. لكن إذا كانت مجرد "تظاهرة فخر ذاتي" في سياق استهدافها التلقي الغربي، فإنها لن تكون كذلك فحسب؛ في سياق التلقي العربي/ الإسلامي لها. ففي هذا السياق العربي/ الإسلامي ستتجاوز حدود "نشوة التفاخر"؛ لتكون من أهم دعائم السلفيات الأصولية المتطرفة، في شقيها: الديني والقومي.
وللأسف، يبدو أن حلاق لا يخفى عليه هذا الأثر السلبي (الذي يبدو أنه يراه إيجابيا !) لكتاباته، خاصة دورها في دعم التصورات الأصولية الانغلاقية/ الانكفائة. فمن يقرأ مُقدّماته للترجمة العربية لكتبه (وهي المقدمات المُوجَّهة للقارئ العربي حصرا)، يلاحظ إلحاحه الشديد في كل هذه المقدمات ـ وفيما يشبه الاعتذار الذي يستجدي عفوا ! ـ على إيضاح أن مؤلفاته موجهة أصالة للجمهور الأكاديمي في الغرب. وكأن المطلوب من القارئ العربي أن يقنع بهذا المستوى من المرافعة التفاخرية، ولا يعتب عليه في بعض "الهفوات" التي قد يبدو بسببها كما لو لم يكن أصوليا تماما، أي أصوليا يتوافق مع الخط الأصولي: الديني والقومي، الرائج في العالم العربي؛ لأن طبيعة التلقي الأكاديمي في الغرب اضطرته لأن يراوغ قليلا؛ ويمارس ـ أسلوبا ومضمونا ـ بعض ما قد لا يروق للمتلقي العربي/ المسلم.
هنا نقع على ازدواجية نسبية في لغة/ مضمون الخطاب. وهذا ليس غريبا في السياق الثقافي العربي/ الإسلامي، فزعماء/ قادة القومية العربية، كما هم أيضا قادة الأصولية الحركية الإسلاموية، هؤلاء وهؤلاء (وهم المعبرون عن نمط الوعي الكلي) طالما كان دأبهم التوفّر على خطابين: خطاب لجماهيرهم في الداخل، وخطاب للآخر، وخاصة الغرب الذي يُحْرجهم ببعض إلزاماته الثقافية/ القيمية/ السياسية. وحلاّق ـ من حيث هو مُفَكّر في ثوب سياسي ـ ليس إلا ابْناً وَفيّا لهؤلاء وهؤلاء، الذين طالما استهانوا بعقول الجماهير، وراهنوا على حبها للشعارات التفاخرية التي تضرب على أوتار عواطفها، وفي الوقت نفسه، على كراهيتها للعلم والحياد الموضوعي والتوق لمعرفة حقائق الأشياء !