كتب بواسطة:عبدالله العريان
رغم أن "الفكرة الإسلامية" على الأرجح سوف تستمر ، فإن فاعليها السياسيين يواجهون صراعا وجوديا للنجاة من الهجمات الشرسة التي تعرضوا لها خلال العقد المنصرم.
خلال الأسبوع الماضي تعرض رئيس البرلمان التونسي وحركة النهضة راشد الغنوشي إلى هجوم عنيف، على خلفية تعليقات أدلى بها إثر لقاء مع السفير الفرنسي.
إذ أنه على إثر سلسلة من الهجمات العنيفة، شنت الحكومة الفرنسية حملة ضد الجالية الإسلامية في فرنسا، وقامت بغلق بعض المنظمات الخيرية، وفرضت مراقبة على بعض أعضاء الجالية ومن بينهم أطفال، إلى جانب استجوابهم بخصوص معتقداتهم السياسية والدينية. وفي نفس الوقت طالبت الحكومة قادة الجالية بتبني ميثاق يدعم القيم الفرنسية، والتنصل من الإسلام السياسي.
هذه الإجراءات القاسية التي اتخذتها الحكومة الفرنسية جوبهت بموجة إدانات في كافة أنحاء العالم، تضمنت دعوات لمقاطعة البضائع الفرنسية في عديد الدول ذات الغالبية المسلمة.
وفي هذا الإطار جاءت تعليقات راشد الغنوشي، التي أثارت الاستغراب في أنحاء العالمين العربي والإسلامي. إذ أنه بعد لقاء مع السفير الفرنسي المعين حديثا في تونس، أكد الغنوشي على أن التطورات الداخلية في فرنسا لن تؤثر على العلاقات بينها وبين تونس، وقال: "لقد عبّرنا دون تردّد عن تضامننا مع الدولة الفرنسيّة والشعب الفرنسي الشقيق خلال الأحداث الارهابية الأخيرة، ونؤكّد أنّنا نُحارب جميعا عدوا واحدا هو الإرهاب، وتونس تواجه هذا الخطر كسائر دول العالم."
التحول
الشيء الذي فاجئ الكثير من المتابعين لم يكن تعبير مسؤول رفيع المستوى في المنطقة العربية عن هذه المشاعر، بل كان صدور هذه التصريحات عن أحد الأباء المؤسسين لحركة تعود جذورها إلى النشاط الإسلامي الذي أسسته جماعة الإخوان المسلمين.
وبصفتهم حركات معارضة، فإن الإسلاميين كانوا دائما في طليعة من ينددون بقمع السلطة للمسلمين، سواء تعلق الأمر بحكوماتهم أو بدول أخرى حول العالم. وكحركة سعت لخوض الانتقال المعقد من جماعة معارضة محظورة إلى حزب حاكم خلال العقد الماضي، فإن هذه الحادثة تثير الأسئلة حول ما إذا كانت تجربة السلطة السياسية قد غيرت إيديولوجيتها وممارساتها بشكل لا رجعة فيه.
ومع مرور عقد كامل على اندلاع الثورات العربية التي فتحت الباب أمام عصر غير مسبوق من مشاركة الأحزاب الإسلامية في السلطة في عدد من الدول، ينبغي النظر في التأثيرات طويلة المدى التي تركتها هذه الأحداث التي أدت لإعادة تشكيل طبيعة النشاط الإسلامي كما نعرفه.
وسواء تعلق الأمر بحركة النهضة، التي باتت تمثل جزء ثابت من تركيبة الحكومة التونسية منذ سقوط النظام الدكتاتوري في 2011، أو الإخوان المسلمون في مصر الذين وجدوا أنفسهم مجددا في موقعهم المعهود كمعارضة مضطهدة، على إثر الإنقلاب العسكري وموجة القمع في 2013، أو تشكيلة الأحزاب الإسلامية في أنحاء المنطقة العربية التي مرت هي أيضا بظروف متقلبة، فقد أصبح واضحا أن المهمة التقليدية التي ميزت النشاط الإسلامي خلال جزء كبير من نصف القرن الماضي لم تعد موجودة.
وقد حلت محلها سلسلة من الخيارات المصيرية، التي فرضت جزء منها إغراءات الدولة القومية وأدوات السيطرة التي تمتلكها. وكنتيجة لذلك فإن التغيرات في الالتزامات الأخلاقية التي ميزت هذه الحركات باتت متأثرة بظروفها السياسية.
تغيرات الواقع
مثلت نشأة النشاط الإسلامي الشعبي ظاهرة مرتبطة حصرا بالقرن العشرين. إذ أن تراجع المؤسسات الدينية التقليدية في أغلب أنحاء العالم الإسلامي، بسبب عوامل من بينها التحديث السريع والإمبريالية، فسح المجال لصعود تشكيلة من المثقفين والنشطاء الذين سعوا لإعادة تنشيط مجتمعاتهم من خلال المعايير الأخلاقية والقيم التقليدية للعقيدة الإسلامية.
وحرصا على مواجهة تحديات زمنهم، فإن هؤلاء أقروا أيضا بالحاجة لتكييف هذه القيم مع المعايير الاجتماعية المتغيرة والوقائع الاقتصادية والسياسية الجديدة. إذ أن جماعة الإخوان المسلمين تأسست في مصر في فترة ما بين حربين، بعيد الحصول على الاستقلال عن بريطانيا، رغم أن البلد بقي خاضعا بشكل كبير لسيطرة المصالح الأجنبية.
وقد اقترح حسن البنا، مؤسس هذه الحركة، أنه في ظل غياب قيادة قوية لطالما مثلت المركز الأخلاقي للمجتمع، فإنه تقع على عاتق الناس العاديين مسؤولية الدعوة للمبادئ الإسلامية في مجتمعاتهم. وهذا يجب أن يبدأ مع العائلات والمجتمعات المحلية، ويتوسع نحو الخارج ليصل إلى الصعيد الوطني.
هذه الدعوة التي انخرط فيها أعضاء الجماعة، حثت أتباعها على العيش وفقا للنموذج السلوكي الإسلامي، والدفاع عن هذه القيم في مدارسهم، ومحلاتهم، وأماكن عملهم، وباقي مؤسسات الحياة العامة.
وبداية من هذه النقطة فإن الحركة الإسلامية تطورت في اتجاه مسارين، رغم أن كلاهما كانا مترابطين بشكل لصيق وغالبا ما لا يتم التفريق بينهما. في المسار الأول توجد الدعوة التي ظهرت في خطاب الوعظ اليومي واستفادت جزئيا من تطور صناعة إعلامية إسلامية قوية في الصحافة والقنوات التلفزيونية، لتهاجر في النهاية نحو شبكة الإنترنت. وفي أغلب الأماكن التي ينتشر فيها الإخوان المسلمون توجد أيضا جمعيات خيرية ومدارس ومستشفيات ومؤسسات اجتماعية أخرى، خاصة في المناطق التي تشكو من ضعف خدمات الدولة.
أما المسار الآخر فقد نتج عن استيعاب الحركة الإسلامية لحقيقة أن النشاط العام وبناء المؤسسات بمفردهما لا يكفيان للترويج لرؤيتها للمجتمع. وعوضا عن ذلك، فقد شاهد النشطاء الإسلاميون السلطات التي تمتلكها الدول على المواطنين، خاصة مع صعود الأنظمة الاستبدادية المركزية والبيروقراطية، ولذلك تبنوا بشكل متزايد المنصات السياسية التي تسعى للاندماج داخل مؤسسات سلطة الدولة.
وقد نافس هؤلاء على قيادة اتحادات الطلبة والنقابات العمالية، ودخلوا الانتخابات البرلمانية كلما أمكن ذلك. ورغم التزامهم المعلن بالإصلاح المتدرج الذي بدا أنه يقبل هياكل ومؤسسات الدولة القومية، فإن الإسلاميين في أغلب الأحيان يتعرضون للإقصاء من قائمة الأطراف السياسية التي تحظى بالقبول، ويتعرضون لمعاملة قاسية من الأجهزة الأمنية للدولة، مع بعض الاستثناءات.
وقد أصبح الإخوان المسلمون ومختلف فروعهم طرفا في المشهد السياسي في دول مثل الأردن والكويت والمغرب، رغم خضوعهم لقيود صارمة. ورغم أنهم الجماعة محظورة في مصر، فإنه كان يتم التسامح معها من قبل نظام حسني مبارك، وقد نجحوا في الحصول على 88 من أصل 444 مقعد برلماني في انتخابات 2005، قبل تعرضهم لحملة اضطهاد جديدة.
وعلى إثر فترة انفتاح ديمقراطي قصيرة في أوائل التسعينات، كان تحالف مجموعة من الأحزاب الإسلامية يستعد لتحقيق فوز كاسح في انتخابات الجزائر، قبل أن يتدخل العسكر لإلغاء النتائج، وهو ما أدى لاندلاع حرب أهلية دامت لعقد كامل من الزمن وكانت آثارها مدمرة. وفي السودان تراوح دور الحركة الإسلامية بين قبول الاندماج الديمقراطي، أو التمسح على أعتاب الجيش كما فعلوا عندما دعموا في 1989 الإنقلاب الذي أوصل نظام عمر البشير إلى السلطة.
وفي الأثناء فإن الأنظمة الاستبدادية في دول مثل سوريا والعراق وليبيا وتونس، فرضت حظرا صارما على نشاط الإسلاميين لمدة عقود وسعت لإلغاء وجودهم من المجتمع برمته. وفي كل هذه الحالات، رغم أن مسار الدعوة بقي ثابتا نوعا ما، فإن أولويات وقرارات الحركة في الجبهة السياسية كانت تحددها الفرص المتاحة في السياق المحلي لكل بلد.
الإسلاميون والانتفاضات
بداية من أواخر 2010، جاءت الاحتجاجات الحاشدة التي عملت على إسقاط الأنظمة الديكتاتورية في أنحاء العالم العربي، باسم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، لتقدم بالنسبة للإسلاميين مجموعة من الفرص والمخاطر.
فهي مثلت من جهة أكثر الحركات الاجتماعية تنظما، باعتبار أنها تمتلك منصات جاهزة لحشد الدعم من خلال الدعوة، وبفضل رؤيتها لمجتمع أكثر عدالة وتخلقا، ولذلك فإن هذه الجماعات كانت قادرة على الإمساك بمقاليد السلطة في فترات الانتقال نحو حكم أكثر تمثيلا للشعب. ومن جهة أخرى فإن الإسلاميين في أغلب الدول لم يكن لهم رصيد ثوري، وكانوا قد طوعوا مهام نشطائهم بشكل واضح لتتلائم مع واقعية البقاء تحت الحكم الاستبدادي.
هذا التردد كان ظاهرا من خلال قرارات اتخذها الذراع السياسي الجديد للإخوان المسلمين في مصر، وهو حزب الحرية والعدالة، الذي فضل مقاربة متدرجة وإصلاحية في الفترة الانتقالية بعد رحيل حسني مبارك، عوضا عن المقاربة الثورية والدخول في مواجهة.
إذ أن الفترة القصيرة التي تولى فيها محمد مرسي الرئاسة، لم تطغى عليها انحرافات الرغبة الجامحة في السلطة كما يتهم زورا من قبل الليبراليين واليساريين، بل طغت عليها رغبته في تجنب المواجهة المباشرة مع أقوى مؤسسات الدولة المصرية، وخاصة الجيش.
وحتى الدستور الذي كتبه حزب الحرية والعدالة في أواخر 2012، فإنه كرس المكانة المتميزة للجيش المصري وجعله في مكانة أعلى من الرقابة المدنية. وبالطبع فإن هذه المجاملة لم تكن كافية لتجنيب الإخوان المسلمين غضب الجيش مع عودة حكم الاستبداد خلال الأحداث الدموية التي أعقبت انقلاب 2013.
المهمة والطموح
حتى قبل انهيارها العظيم وعودتها لمربع الحظر، فإن جماعة الإخوان المسلمين واجهت أزمة في التصالح بين مهمتها الاجتماعية التاريخية وطموحاتها السياسية الجديدة. فهل يجب على أعضاء الجماعة الالتحاق بالحزب، أم يمكنهم التعبير عن أنفسهم بحرية داخل المشهد السياسي التعددي الذي ازدهر في مصر؟ وهل سيتم التسامح مع الخلافات الداخلية حول الشؤون السياسية أم أنها سينظر لها كانحرافات عن الالتزامات الدينية "بالسمع والطاعة."
وهل ستؤدي مسارعة جماعة الإخوان المسلمين لاكتساح كل انتخابات تدخلها أثناء الفترة الانتقالية، إلى وضع مصالح الجماعة قبل مصالح الأمة، في وسط تلك اللحظة الثورية المحفوفة بالمخاطر؟ كل الشقوق داخل الجماعة، بعد أن كانت سابقا مخبأة، باتت أكثر وضوحا إثر سلسلة من انشقاقات الأعضاء رفيعي المستوى، والنقاشات العلنية حول تغير طبيعة النشاط الإسلامي في الأوقات الثورية.
أما حركة النهضة في تونس فقد واجهت أسئلة مماثلة، رغم أنها تعاملت معها بأسلوب مختلف تماما. إذ أن الحركة تحت قيادة راشد الغنوشي رسخت إيمانها بالديمقراطية كأساس للنظام السياسي العادل قبل عقود من الزمن، أي في مراحل مبكرة من تطورها، لتسبق بذلك أغلب الجماعات الإسلامية الأخرى. وقد كان الالتزام بالتعددية الديمقراطية ضمانة على أن النهضة سوف تتجنب إغواء السلطة خلال الفترة الأولى الحساسة، إثر سقوط النظام الدكتاتوري.
فرغم فوزه بأول انتخابات حرة في البلاد في 2011، فإن هذا حزب حركة النهضة تمسك بتقاسم السلطة داخل تحالف حكومي، ثم تنازل عن الحكم بشكل كامل على إثر أزمة وطنية في أواخر 2013، ربما خوفا من عواقب مشابهة لما حصل في مصر قبل أشهر.
وفي مسعى منها لتعزيز صورتها المعتدلة والمرنة دعمت حركة النهضة أيضا قانونا يحمي مسؤولي النظام السابق من المحاسبة، ورفضت تضمين الشريعة كمصدر للتشريع داخل الدستور التونسي، متنازلة بذلك عن مبدأ إسلامي جوهري.
ولتحرير أنفسهم من وابل الانتقادات الداخلية المتوقعة، فإن قادة حركة النهضة أعلنوا بشكل رسمي في مؤتمر للحزب في 2016 عن القطع بين الجانب الدعوي والنشاط السياسي. وقد شبه الغنوشي حزبه بالأحزاب الديمقراطية المسيحية في العديد من الدول الأوروبية، وقال: "نحن مسلمون ديمقراطيون لم نعد ندعي أننا نمثل الإسلام السياسي."
لعبة الحاصل الصفري
يصعب التقليل من أهمية الخطوة التي قام بها الغنوشي وما تمثله تصريحاته. إذ أنها من خلال تجربتها المتواضعة كحزب سياسي شعبي قطع ارتباطاته مع قواعده الاجتماعية التقليدية وجذوره الإيديولوجية الإسلامية، قدمت حركة النهضة نموذجا أوليا للأحزاب الإسلامية الأخرى لتحقيق النجاح السياسي في بلدانها.
وقد سار حزب العدالة والتنمية المغربي على نفس الخطى، حين نأى بنفسه عن الحركة الدينية بشكل عام رغم أنه استمد منها الكثير من الدعم حين شكل الحكومة إثر نجاحه الانتخابي في 2011 ومرة أخرى في 2016. إذ أن حكومة العدالة والتنمية أبعدت الأنظار عن جذورها الإسلامية، من خلال التعهد بإدارة الحكم في إطار النظام السياسي القائم، رغم قيوده الهيكلية ورفضه للإصلاح.
والمفارقة المثيرة للسخرية هي أنه كلما حقق الإسلاميون المزيد من النجاح السياسي، كلما ابتعدوا أكثر عن جوهر إيديوليجيتهم. ومن المؤكد أن النقاشات السياسية حول السماح بإشراك الإسلاميين، كإستراتيجية لتخفيف التزاماتهم الإيديولوجية وطموحاتهم السياسية، هي ليست بالأفكار الجديدة.
إلا أن تقييم المسارات الداخلية التي مكنت هذه الحركات من الاستجابة لضغوط المشاركة في اللعبة السياسية، يكشف أن التصنيف الثقافي الذي يضع كل الإسلاميين في سلة واحدة في نظر الناقدين الأجانب، كان مضللا بشكل كبير.
وفي الجانب الآخر من الطيف الإسلامي، تواصل جماعة الإخوان المسلمين في مصر معاناة أسوأ مرحلة في تاريخها الموثق.
إذ أن مجزرة رابعة التي ارتكبت في 2013، وراح ضحيتها حوالي ألف مصري على يد الأجهزة الأمنية أثناء فض اعتصام سلمي، تمثل رمزا للمعاناة المتجددة لهذه الجماعة، وسياسية الأرض المحروقة التي يعتمدها النظام العسكري لاجتثاث الفكر الإسلامي كقوة اجتماعية، وهي سياسة تمثل تعهدا أساسيا في صعود عبد الفتاح السيسي إلى السلطة.
وعلى إثر غلق مؤسساتها وتعرض قياداتها إلى السجن أو النفي، وصلت جماعة الإخوان المسلمين إلى نقطة مفصلية في تطورها، أدت لظهور عدد من المواقف المتباينة.
التصالح مع الأنظمة؟
رغم الهزائم الكارثية التي عانت منها هذه الجماعة، فإن قياداتها العليا تؤمن بأن الوضع الحالي لنظام السيسي يجعله غير مستدام، باعتبار أن اعتماده على القوة الجبرية يستمر في تقويض البلاد وإضعاف اقتصادها.
وتعد المصالحة مع النظام على أمل تحقيق التعايش، كما حصل سابقا في العلاقة مع نظام مبارك، المسار المفضل لقيادة الإخوان المسلمين. وقد ظهرت أخبار تم تسريبها بشكل مدروس ومتواتر في الإعلام تفيد بأن هذا الحل بات مطروحا. وتكررت هذه التسريبات، ولكن إلى حد الآن لا توجد أي مؤشرات على أن السيسي، الذي لم يتسامح مع أي معارضة حتى من داخل مؤسسة الحكم في مصر، مهتم بإعادة إدماج المعارضة الإسلامية في المشهد السياسي.
ويتوجب على قيادات الإخوان المسلمين التي نجت من الاضطهاد أن تتعامل أيضا مع الأصوات المعارضة لها داخل أروقة الجماعة، ومن بينها الفصيل الشبابي الذي يرفض أي مصالحة مع النظام، ويطالب عوضا عن ذلك بسلك المسار الثوري الذي يصلح أخطاء فترة ما بعد مبارك.
وعلى شبكات التواصل الاجتماعي والمنتديات الافتراضية، يحتج مساندو هذا الرأي بأن الجماعة مطالبة بالتخلي عن مظهرها التقليدي والذهاب نحو تغيير السياسات التي أنتجت مقاربتها المحافظة في الماضي. عوضا عن ذلك، يطالب هؤلاء بتبني الروح الثورية التي التقى حولها الملايين من المصريين في ذروة الثورة. ومن الاستحقاقات الأساسية ضمن هذا الرأي هنالك الحاجة للفصل بين البنية الهرمية المتصلبة والهيكلة التنظيمية المغلقة للإخوان المسلمين من جهة، ومهمتهم السياسية والاجتماعية الأشمل من جهة أخرى.
ولكن على خلاف المنطق الذي اعتمدته حركة النهضة لاتخاذ قرار الفصل بين الدعوي والسياسي، فإن هذا الرأي يعتقد أن هذه الخطوة مهمة لتطور حركة واسعة النطاق، من أجل إسقاط هيكلة السلطة القائمة، وليس من أجل التقرب منها.
وإلى جانب هذين المسارين هنالك فصيل ثالث، يتكون أساسا من الأعضاء الذين أصيبوا بخيبة أمل على هامش الجماعة، وهم يعتقدون بأن المشروع الإسلامي التقليدي المرتبط بمصير الدولة القومية الحديثة، مصيره المحتوم هو الفشل. وبالنظر للأوضاع السيئة التي تعاني منها أغلب دول المنطقة وعجزها عن معالجة التحديات الطارئة التي يواجهها مواطنوها، فإن أصحاب هذا الرأي يعتبرون أن السعي لخلق نظام سياسي إسلامي داخل هيكلة السلطة القائمة، هو مسعى عقيم.
ورغم أن تعداده محدود ويمثل تيارا فكريا وليس حركة واسعة النطاق، فإن هذا الفصيل يتمسك بأن السقوط المأساوي للإخوان المسلمين يمثل فرصة نادرة لاكتشاف أفكار جديدة وجريئة، تعالج المشاكل الجذرية التي لا يعاني منها فقط المسلمون، بل كل المجتمعات في جنوب الكرة الأرضية، مثل العنف الطائفي والإثني والقومي، والإمبريالية والاستغلال الاقتصادي النيوليبرالي، والتفاوت في توزيع الثروة، وغياب الأمن الغذائي، والتدهور البيئي وما إلى ذلك من مشاكل.
وفي غياب الانشغال بالتنافس على السلطة السياسية داخل الهيكلة الحالية، فإن أنصار جماعة الإخوان المسلمين، أو ما تبقى منه، يعتقدون أنها بحاجة لإعادة بناء رسالتها من جديد، متحررة من تقاليدها الإيديولوجية أو المتطلبات المتغيرة للسياسات الحزبية.
ورغم أنه من غير المرجح أن يكون له أي تأثير على الأحداث السياسية في المستقبل المنظور، فإن هذا الحراك الذي تم التعبير عنه في الآراء المذكورة سلفا سيكون له تأثير على المسار طويل المدى على الإسلاميين، أو بمعنى أدق على التعبيرات الفكرية في مرحلة ما بعد الإسلاميين.
التطلع نحو الأمام
ولكن في المستقبل القريب، يبدو أن مصير الإسلاميين يتطلب في كل الأحوال تخليهم عن معتقدات وممارسات تمسكوا بها لوقت طويل. وفي أفضل الحالات، فإن الاندماج الناجح داخل المساحات الضيقة التي سمحت لهم بها بعض الدول، أثبت أنه لا شيء أقل من إعادة تشكيل الرسالة الإسلامية التقليدية لتصبح حزبا سياسيا متماشيا مع القرن الواحد والعشرين، سيكون كافيا.
هذا يترك مجالا ضيقا للتفاؤل، باعتبار أن هيكلة القيادة داخل هذه الأحزاب تتركها غالبا منقطعة عن قاعدة أنصارها داخل المجتمع، ومعرضة للفساد ومجبرة على التنازل عن الأسس الأخلاقية التي بنيت عليها الجماعة.
وقد خلف الدعم الذي أعلنه زعيم حركة النهضة مؤخرا للهجمة الفرنسية على المسلمين، موجة من الغضب في أنحاء العالم الإسلامي، إلا أنه كان فقط واحدا من سلسلة أحداث أثارت حفيظة الكثيرين داخل أروقة حركة النهضة، وهو ما أدى إلى عدد من الاستقالات التي تم إعلانها.
هذه الشخصيات الحزبية التي انسحبت خلال الأشهر الماضية، عبرت عن امتعاضها الكبير من بعض تصرفات قيادة حركة النهضة وقراراتها السياسية، وخاصة ابتعادها عن القيم الجوهرية للحركة.
وفي بلدان أخرى أدى نجاح قوى الثورة المضادة في إفشال موجة التغيير، إلى ترك القوى الإسلامية معزولة. كما أن المشروع الإقليمي الذي دفعت به الحكومتان السعودية والإماراتية، بالتعاون مع حلفائهما المحليين، نجح تقريبا في تضييق المجال أمام التعايش القديم والمستقر نسبيا، الذي ميز التجربة الإسلامية تحت الحكم الاستبدادي على مدى قرابة نصف قرن.
ومع سعي الدكتاتورية العائدة في مصر والحرب الأهلية في سوريا وليبيا واليمن إلى ترسيخ أعمدة الحكم الاستبدادي، لم يتبقى مجال كبير للحركات الاجتماعية والشعبية التي تحمل طموحات سياسية، سواء كانت إسلامية أو غيرها.
وبينما يرجح أن ما يسمى "بالفكرة الإسلامية" سوف تستمر كقوة تتميز بجاذبية اجتماعية واسعة، فإن اللاعبين السياسيين الذين كانوا أبرز المدافعين عنها، يواجهون الآن صراعا وجوديا للنجاة من الهجمات الشرسة خلال السنوات الأخيرة، مع تعرض كثيرين منهم للقتل أو السجن أو النفي.
ورغم أن الظروف التي حدثت فيها هذه التطورات قد تكون متباينة بشكل جذري، فإن التأثير هو نفسه كما في باقي البلدان: وهو الفصل القسري بين الرسالة الجوهرية للحركات الإسلامية ونشاطها السياسي. وينتظر أن نرى ما إذا كان هذا الفصل يمثل المرحلة الأخيرة في تطور الفكر الإسلامي كبديل سياسي متاح، أم أنه يمثل نهايته.
المصدر: ميدل إيست آي
ترجمة وتحرير: نون بوست