هل الإسلام السياسي هو المشكلة الحقيقية؟ - Articles
Latest Articles

هل الإسلام السياسي هو المشكلة الحقيقية؟

هل الإسلام السياسي هو المشكلة الحقيقية؟

هدى شڤراني:

 

حين نقول إن الإسلام السياسي محرّك للعنف ومن الضروري استئصاله، نحن بذلك نغطّي عن اللاهوت الإسلامي الأصولي الممتد في التاريخ الإسلامي، والذي يفرز تلقائياً حركات الإسلام السياسي وما تمارسه من عنف بدرجات متفاوتة. والأصوات الاستئصالية هي بالأساس أصوات مسيسة تبحث عن الاجتثاث الآني لعدو سياسي ولا تبحث عن الاستئصال الفكري له.

نجد مَن يتحدث عن "مشروع تنويري" نواجه به الأصولية الدينية، ويكون في الآن ذاته خادماً وفياً وشرساً للأصولية السلطوية المتمثلة في أنظمة الاستبداد التي تحكمنا، والمتحالفة مع الأصولية الدينية الرسمية ضد قيام أي مشروع تنويري. هذا "التنويري" هو منخرط في السياسة وغير منخرط في التنوير.

حين نبحث عن اجتثاث الإسلام السياسي بتفرّعاته المختلفة، فنحن نبحث عن "تفكيك" العدو الخطأ تاركين الآلية اللاهوتية التي ستستمر في إعادة إنتاجه.

إنْ حصل واستُئصل حنابلة اليوم، أي الوهابيون والإخوان المسلمون ومَن لفّ لفّهم، فغيرهم من الحركات المماثلة ستحّل محلّهم. المرض الأصولي لم يبدأ مع هذه الحركات الإسلامية السياسية. نكبتنا ومرضنا في حنبلنا، المؤسس الأول للأصولية الإسلامية. وبين الحنبلية والوهابية نجد التيمية. البحث في النص التيمي ضروري لتفكيكه وإبطال سحره بين راديكاليي عصرنا الإرهابيين. النظام العقائدي الأصولي الذي تأبّد منذ الفترة الحنبلية ليس نظاماً فوق زمني وتفكيكه للتحرر منه هو صلب التنوير.

في الماضي البعيد، خرجَت الجماهير الحنبلية إلى الشوارع وأسقطت المعتزلة وأسقطت معهم العقل وإمكانية التديّن الروحاني العقلاني المستنير. هذا الانتصار الحنبلي لم يكن انتصاراً على المعتزلة فحسب بل على الأشاعرة والخوارج والشيعة وغيرهم. وانتصار الغزالي لاحقاً هو انتصار على الفلسفة، هو انتصار للمعرفة النقلية على المعرفة العقلية.

هذا الانتصار الأصولي هو انتصار للفكر الواحد، الرأي الواحد وهو انتصار للقوة أيضاً. هذا الانتصار فرض الامتثالية الجماعية للأسماء. هذا الانتصار الأصولي جعل رموزه تجثم فوقنا وتجثم فوقها عَبَدتها.

يُؤلَّه الاسم ويحوم في فلكه المؤمنون بقداسته. تحضر الحقائق المطلقة وتكثر المسلمات. إحدى هذه المسلمات هي مسلمة عُلوية الاسم وتفوّقه. وأمام هذه المسلّمة تحديداً، يتلاشى العقل والوعي وينتفي الإبداع والتنوير ويحضر التخوين والتكفير والقتل. فالقالب الأصولي ينتج مخوّنين ومكفّرين، وقتلة أيضاً لمَن ضاق بهم هذا القالب.

نحن مهزومون أمام الفكر الأصولي المهيمن

نحن جميعاً مهزومون أمام هذه الأسماء المنتصرة. وتمكّن الانهزامية من الجماعة ينتج عنه تلقائياً هزيمة منكرة للفرد. روح الهزيمة أمام الجماعة تتأصل في الفرد بطريقة ممنهجة منذ الصغر. فنحن فرادى مهزومون أمام أهالينا وأمام المعلم وأمام مدير العمل والعشيرة والقبيلة والطائفة والحزب والحاكم والمجتمع، إلخ. وجميعنا مهزومون أمام سلطة المقدَّس المحميّة بشراسة من قبل الأصولية الإسلامية.

نحن جماعة مهزومة أمام الأصولية وهذا أساساً ما تريده الأصولية، أيّة أصولية. السبب المحرّك لمعاداة الفردية هو الجماعية، الصفة المميزة لعدة مجتمعات ومنها مجتمعاتنا. فالمجتمع هو كل واحد يتحرّك بشكل واحد. على الفرد عندنا أن يذوب في الجماعة طوعاَ أو قسراً. وفي الحقيقة، لا يكون الذوبان في الجماعة طوعياً وإنْ كان يبدو كذلك ظاهرياً. فالذوبان الناعم في الجماعة هو فعل قسري أيضاً. الجماعة هي المرجعية وهي الحامية، ومطالبة الفرد بالفردانية هي تهديد للجماعة "المتماسكة جداً".

ومن هنا، كان الرفض، رفض وجود الفرد ورفض مطالبته بفرديته وتحقيق ذاته ورفض امتلاكه لشخصيته الفردية. وكل مَن يطالب بفردانيته يصوَّر على أنه عنصر ذاتي، انفصالي، خائن للجماعة، يهدد المصالح الاجتماعية العليا. هو ذاتي انفصالي حتى لو رفض مصادرة فردانيته داخل العائلة.

كل مَن يطالب بأن يعيش بين الجماعة باختلافه يصير "الآخر"، الآخر المتآمر والآخر المموَّل من الخارج والآخر المتماهي مع الغرب الكافر إلخ، ويُخرَج من الجماعة بانتهاج النبذ والعزل الاجتماعيين لهذا "العنصر" "الشاذ" ‏عن الجماعة.

هذا الحضور الكامل والطاغي للجماعة التي تحتكم للفكر الأصولي يستوجب الغياب أو التغييب الكامل للفرد. بين الثقافة الجماعية والثقافة الفردية بإمكان الجماعة والفرد أن يتواجدا في نفس المكان دون أن يطغى أي منهما على الآخر.

لكن الفرد بدأ يجد في أماكن من عالم اليوم مكاناً له يأمن فيه من الملاحقة والاستئصال إذا ما اختلف عن الجماعة. بينما إنسان العصبيات، إنساننا، لم يجد بعد مسافة الأمان التي يحتمي فيها من ديكتاتورية الجماعة. وأصولية الجماعة التي تلاحق فردنا صارت تلاحق الفرد في الغرب وتلاحق حرية تعبيره. هذا ما حصل مثلاً في حادثة نيس، وهي حادثة إرهابية تجسّد الأنا المسلمة الأرثودوكسية الإرهابية التي ذهبت بنرجسيتها المضطربة وثقلها من الضفة الجنوبية للمتوسط، من تونس تحديداً، إلى ضفته الشمالية "الكافرة"، إلى فرنسا، لقتل أبرياء داخل كنيسة، في إطار الرد على فرنسا التي أكدت على حرية أفرادها في التعبير.

حادثة نيس العابرة للمتوسط على قارب الموت هي تصدير للخوف لأرض واجهت الخوف فلسفياً كعدو استراتيجي وتخلصت منه على أراضيها. الخوف عدو. وجوده ينفي تلقائياً وجود الإنسان الحر والعقل الحر.

للمفارقة، حين كان يعمل الغرب على اجتثاث الخوف عند إنسانه، كان يعززه أكثر في إنساننا الخائف، داخل مستعمراته. هي مفارقة غذّت الشرخ بين ضفتي المتوسط وزادت من توتر العلاقة الغائر في الزمن. النحن الإسلامية التي تضفي على نفسها المثالية تفرض على الجميع الاستتباع والقطيعية وهذا لا يتحقق إلا من خلال بث الخوف. هذه النحن النرجسية مع شعور الغبن المتراكم الذي خلّفه العنف الاستعماري والاستعلاء الأوروبيين ذهبت بالبعض إلى الاختراق الجغرافي بغرض القتل، أي الاستسلام للعنف الطليق العابر للحدود لإشاعة الخوف في أراضي الغرب.

الاجتثاث الإرهابي في أراضينا أو أراضي الغير هو تجسيد للأنا الأرثودوكسية الإرهابية المؤدلجة المتضخمة والمتورمة جداً. هذه الأنا المؤدلجة تتمترس في قبو ذاتها المريضة وتتمرس على معاداة البحث المتواصل عن الحقيقة، فهي طالت الحقيقة واحتكرتها. في قبوها المظلم لا تسمع إلا صدى صوتها، فلا حيّز لصوت آخر هنالك. لعل الصدى يخيفها ويحرّك عندها آليات الدفاع اللازمة، اعتقاداً منها بأنه صوت آخر يجب تصفيته.

العقل المؤدلَج، في مختلف الإيديولوجيات، يفتقر تماماً للقلق الفكري، فهو مطمئنّ ومستقر فكرياً. هو لا يقوى على استيعاب المتحوّل وما يفرضه الواقع من إنتاج متجدد للفكر. إنتاج الفكر لا يعنيه فهو يمتلك "الفكر"، كل "الفكر". بينما إنتاج العنف يعنيه وبشدة. هو يعي أن مقتله يكمن في إنتاج الفكر، لكنه لا يعي أن إنتاجه المستمر للعنف قد يعجّل بانتفائه الفكري.

قصور عقلي جمعي يقابله انفعال جمعي عاطفي

الأصولية الإسلامية ويدها الحمراء تريد أن توهمنا بأن رسول الإسلام في حرب مفتوحة مع "الروم". نعم، تصوير الغرب لنبي الإسلام يصطدم مع وعي المسلم لكون هذا التصوير يصطدم مع الصورة المثالية له. الطعن في صورة النبي المثالية هو طعن مباشر في الإسلام بالنسبة إلى المسلم.

في المخيال الأوروبي، لنبي الإسلام وجوه مختلفة. وبعيداً عن تصورات الغرب عن نبي الإسلام، وهي تصوّرات متغيرة ومحكومة بتوتر العلاقة بين العالمين تاريخياً، فصورة النبي في مخيالنا ذات وجه واحد، فوق تاريخي، تبجيلي، مثالي ومقدس. لسنا مستعدين لرؤية الصورة التاريخية والتي هي الأقرب إلى صورة النبي الإنسان. المخيال الإسلامي كثيف بالأسطرة، والانفصال عن الأسطرة هو بمثابة ميلاد وعي جديد. وهذا ينسحب على كل كبار رجال الدين وعلى تراثنا بأكمله. لقد ضاع تاريخنا بين السماء المقدسة والمقدَّس على الأرض.

وكلّما تعرّض نبي الإسلام إلى الإساءة، نشهد استنفاراً جماعياً في عالمنا الإسلامي. وشعار "إلا رسول الله" هو أحد الشعارات التي رُفعت في عالمنا الإسلامي إبّان نشر الرسوم الدنماركية المسيئة للنبي عام 2005، كما رفع مؤخراً في وجه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون.

"إلا رسول الله" هو شعار مشحون بالتهديد ينطلق من فضاء يحكمه المقدس الديني الغيبي إلى فضاء معلمَن تجاوز المقدس الديني. هو شعار ينطلق من فضاء يحكمه الأب الديني الهرم إلى فضاء قتل أباه الديني فكرياً وفلسفياً ليعيش في الدنيوي. هو شعار لا يحاكي لغة الفضاء الغربي، وخاصة الفرنسي، الذي هو بدوره في تجاوزه لعقوبة الاستهزاء بالمقدسات الدينية، لا يحاكي وعي فضائنا في هذا الخصوص.

الفضاء الغربي لم يعد يبالي بالطعن في عذرية مريم ولا في قيامة المسيح في حين أننا في فضائنا لا نستطيع أن ننطق باسم الرسول دون الصلاة عليه. الحساسية الدينية في الفضائين ليست نفسها. نحن لا نتشارك نفس المرحلة التاريخية ومن هنا كان هذا الرفض الجمعي في فضائنا حيال تأكيد فرنسا على حريتها في التعبير التي طالت نبي الإسلام.

هذه المقارنة ليست انتقاصاً من المسلمين ومن وعيهم، فأوروبا المسيحية كانت مثلنا بالأمس القريب. باختصار نحن نتمرحل تاريخياً في فترة تجاوزتها أوروبا. حالياً، نحن عالم الإسلام وهم عالم الغرب وليس عالم المسيحية.

التيار المهيمن في منطقتنا هو التيار الأحادي، أي التيار الاظطهادي الذي تشيع في كنفه العلاقات الاضطهادية. هذه الاضطهادية المتوارثة تزرع روح الهزيمة في الجماعة وبذلك تغيّب روح الفعل الجماعي الإبداعي والمثمر.

والفعل الجماعي في منطقتنا هو انفعالي، اندفاعي، عاطفي، يعكس بجلاء الهزيمة النكراء التي لحقت بعقلنا الجمعي منذ مئات السنين. هذه الانفعالية الجماعية العاطفية المغذاة سياسياً والتي شهدناها مثلاً من خلال حملة مقاطعة البضائع الفرنسية والتظاهرات الحاشدة جداً التي جاءت رداً على الرسومات الغربية المسيئة لنبي الإسلام، هي في الحقيقة تعبير صريح عن قصور عقلي جمعي يحل محله فيض عاطفي انفعالي.

في هذه الانفعالية، بحث المهزوم عن انتصار وهمي على الغرب "الكافر" المتآمر علينا. وللأسف، قتل الأبرياء في الغرب لقي دعامة تبريرية من قبل أعداد مهمة من المسلمين، وفي هذا أيضاً تعبير صارخ عن قصور عقلي وأخلاقي خطيرين وعن فيض من الغضب الانهزامي. ووصل الأمر بالجماعة الإسلامية إلى أن تطلب من الغرب قانوناً تبجيلياً مخصصاً لها وحدها، يحمي الإسلام والمسلمين من الاستهزاء.

مَن أعلى المسلمين على الآخرين؟ من أين لهم بهذه القيمة الفوقية الفائقة؟ ما الذي يميزهم عن الآخرين للبحث عن فرض شوكتهم على الآخر الغربي في بلاده؟ هذا التفوق الذي يعود إلى خاتمية الرسالة وعالميتها هو تفوق متوهم لا يتجاوز الفلك الإسلامي. هو توهم نريد لمَن هم خارج فلكنا أن يؤمنوا ويلتزموا به.

وفي الحقيقة، لا يمكن للتيار الأصولي الاضطهادي المهيمن إلا أن ينتج آلية تفكير قاصرة ومخربة أيضاً تعاني في بعض الأحيان من اضطراب شبه هستيري في وجه ما يقيم تهديداً أو خطراً على ديننا ومقدساتنا.

الجماهير أصولية لأنها تحتكم إلى لاهوت أصولي ممتد في الماضي يعود إلى زمن نفي الاعتزال في القرن التاسع الميلادي الذي هو نفس زمن أحمد بن حنبل والخليفة القادر بالله ونص الاعتقاد القادري، بيان الحركات المتطرفة، وزمن الغزالي في القرن الحادي عشر ميلادي وزمن ابن تيمية في القرن الثالث عشر ميلادي.

نخاف النظر إلى أنفسنا

كل أصولية تتعامل مع الجميع من خلال ثقافة عسكرية تريد فرض الطاعة والولاء والاستتباع. هي تخلق جنوداً تحميها وتُبرئها من أي فعل قد يضعها تحت المحاكمة والمحاسبة. ظاهرياً، يشيح غالبية المسلمين بوجوههم عن الأصولية الإرهابية، متبرئين منها وفارين بذلك من المساءلة الذاتية.

هذا ما نلحظه في كلام شيخ الأزهر أحمد الطيب حين قال: "الأزهر يمثل صوت ما يقرب من ملياري مسلم، وقلتُ إن الإرهابيين لا يمثلوننا، ولسنا مسؤولين عن أفعالهم". نعم، يشيح غالبية المسلمين بوجهوهم عن الأصولية الإرهابية وكأنها ليست إفراز النواة المتعصبة في الإسلام. ولكن في دواخلهم، يرون فيها آخر سكرة من سكرات موتنا الحضاري.

أن نشيح بوجوهنا عن صورتنا الحقيقية والمركّبة والتي لا تختلف عن صور باقي المجتمعات، صار تقليداً نحتمي به من النظر إلى أنفسنا. تاريخنا الإسلامي مثلاً مثقل بالخمر والشهوة والجنس والجواري والغلمان الملتحين والغلمان المُرد. وكانت تسمى السحاقية بـ"الظريفة". وكُتب الكثير في عشق الغلمان.

قال محمد بن هانئ الأندلسي في القرن العاشر ميلادي: "لا تلحني يا عاذلي إنني/ لم تصبني هند ولا زينب/ لكنني أصبو إلى شادن". وكَتب الخليفة العباسي الأمين، ابن هارون الرشيد، الكثير في حبيبه كوثر، حبيبه وليس حبيبته. في الشعر جزء من تاريخنا. لكنه تاريخ يُراد قبره عنوة، والاحتماء منه يكون بالتلذذ بوهم "الطهارة". لا فائدة من طمس تمظهرات بشرية طبيعية تعيشها كل الثقافات.

وخوفاً على "تدنيس كمالنا" المتخيَّل، كمال "خير أمة أخرجت للناس"، لدينا دائماً توجس كبير من "الحضارة الغربية الوافدة"، بكل ما يحمله هذا الوفود غير الأخلاقي من اختراق مؤامراتي لثقافتنا ونسيجنا المجتمعي "المتين بأخلاقه". هو توجس وخوف معهودان من قبل كل الانعزاليين الماضويين والقارئين الانتقائيين لتاريخنا ومُؤسلمي الأخلاق.

كل ما يُقيَّم "لا إسلامياً" هو وافد علينا وفعل مؤامراتي يُراد به تدنيس "النقاء" الذي نحن عليه. وكأن إنساننا غير إنسانهم. وكأن الفعل الإنساني، طبيعياً كان أو قصدياً، ليس واحداً هنا أو هنالك. وكأن تاريخنا لا يشهد بذلك. وكأن شِعْرنا القديم لم يُدوّنه.

كل مَن يريد أن يعيش باختلافه هو واختلافه الوافد، رغم تأصله في أرضنا، منبوذان بشدة. هو ليس سيد أفعاله بل هو "ملقن" من الخارج ويصير منهم. يصير الآخر الذي يجب أن تُجيش النحن ضده للقضاء عليه. وكل مَن يدافع عن اختلافه هو شريكه في إشاعة هذا الوفود غير الأخلاقي لإفساد الناس. وإذا تعرّض الآخر الغربي لمقدساتنا نلاحقه أيضاً.

فك النواة المتعصبة في الإسلام ضرورة ملحّة

في الدين، أي دين، ميول إلغائية محرّكة للعنف. هذا العنف ينتج عن الاحتكارية المتوهمة للحقيقة المطلقة والاعتلاء المتخيل للدرجة الأعلى في السماء. من رحم الثبوتية المطلقة تنتج النزعة الإلغائية العنيفة ضد مَن يصنفون أعداء الدين الحق. فاليقين هو الذي يقتل وليس الشك كما أكد على ذلك نيتشه.

فك النواة المتعصبة للدين هو فك لهذه اليقينية المولّدة للعنف والقتل. وبعيداً عن السياسيات الأوروبية اليمينية المغذية للإسلاموفوبيا والمصورة لسلوك المسلمين، كل المسلمين، على أنه سلوك واحد، متطرف وعنيف، وبعيداً عن النظرة الاختزالية للإسلام، كل الإسلام، في السلفية الجهادية فإن القول بأن القلة القليلة التي تقتل باسم الدين لا تمثل الإسلام هو تعتيم عن الآلية اللاهوتية التي تضنع الأصولية الإرهابية.

بالتأكيد، المتطرفون لا يمثلون الإسلام بكليته. ومن نافلة القول أنهم لا يمثلون غالبية المسلمين لكنهم يمثلون تجسيداً لا تخفاه عين لإشكالية التعصب المرافقة للإسلام ولأي دين كان.

أما عن الدعوة إلى الجهاد، الجهاد الحربي، فقد كانت في صلب تجربة نبي الإسلام. وفي القرآن آيات كثيرة تدعو للعنف. هي آيات ستؤوّل كلماتها إلى كلمات تأريخية مفرغة من ديمومة معناها الجهادي إذا ما قُرئت في مرحلتها المدنية التي كان فيها النبي رجل جيش يقود معارك مع القريشيين.

بتر الأصولية الإسلامية الراديكالية ضروري. والبتر يتم حين نُقرّ أولاً بوجود العضو المريض ولا نتبرأ منه بالقول إنه مفتعل وغربي أو إن الأصوليين مجرمون مثلهم مثل غيرهم من المجرمين؛ وثانياً، حين نقرّ بأن التصاق هذا العضو المريض ببقية الجسد، قد يذهب بكامل الجسد، ومن ثم وجب البتر أو الاستئصال.

والبتر هنا هو بتر فكري وليس أمنياً، ويتم بتفكيك العقلية التراثية الأصولية للتحرر منها. هذه العقلية الإلغائية للآخر تجد لها مكاناً أيضاً بين الاستبداد والبؤس والفقر وتغذيها وسائل التواصل الاجتماعي. هي عقلية يغذيها الداخل والخارج بسياساته تجاهنا. لكن النواة المحركة للارهاب متجذرة في تاريخنا.

لو تمعنّا قليلاً في هذا القتل الممارس من قبل هؤلاء المتطرفين لرأينا أنه قد يبعث فينا حياة نكون فيها فاعلين في التأسيس الحضاري. فالصدمة قد تُعجل بالحل. وبالتأكيد الاستئصال ليس حلاً. وأثر الصدمة الذي يخلّفه اجتثاث الآخر بقطع رأسه كما يحصل منذ سنوات قد يهزم الحنابلة الذين هزموا المعتزلة حين غالوا في استعمال العقل. وقد يهدد "أزلية" انتصار "تهافت الفلاسفة" على "تهافت التهافت"، أي انتصار الغزالي على ابن رشد أي انتصار.

هي صدمة قد تخترق امتثاليتنا الجماعية لوهم التفوق واليقينية القطعية وتنزلنا من عليائنا المتوهمة. هذه العقبة الكأداء قد تكون جسر عبورنا لدخول عصرنا، العصر الذي تخافه الأصولية وتريد لنا جميعاً أن نظل خارجه لنستمر في احتلال الماضي.

نعم، هو احتلال، لأن الماضي ليس أرضاً لنا لنعيش فيها. الماضي لناس الماضي وليس لناس الحاضر. فلنترك للماضي جثثه ولنعش حاضرنا. الأرثودوكسية الإسلامية ويدها الحمراء تريدان فرض أحاديّتهما على عالم تحكمه التعددية، على عالم توسع فيه العقل الخصب على حساب صحراء الفكر. هذه الأصولية تعيش قلقاً وجودياً يُترجَم بالتهديد والتخويف والدم.

ربما هذا الدم سيدفع بنا إلى الحفر في الأعماق، لا لنستوطن فيها بل لننبش فيها عن تاريخنا الذي نمنا عليه مطمئنين مغرورين. ومن ثم يمكن أن ندخل زماننا الذي جعلتنا الأصولية نفرّط فيه. نحن في معركة تدور رحاها في الخفاء وفي العلن، لكن باحتشام. الأصولية الإرهابية قد تعجّل بانبثاق الإصلاح الديني والتنوير الإسلامي على أرض الخصاء الفكري التي كانت خصبة يوماً ما بعقلها وتعدديتها العقائدية.

* رصيف22

 

Related

Share

Rating

0 ( 0 reviews)

Post a Comment

Category
Author
More Options
  • Recent
  • Popular
  • Tag
Tags