شمعي أسعد
لم تستطع عبادة الإمبراطور أو الآلهة القديمة، مثل الآلهة اليونانية أو الرومانية، أن تملأ الإحساس بالفراغ الروحي لرعايا الإمبراطورية الرومانية لاتسامها بالتطرف والجمود، ولم تستطع أن تُقدم حلولاً لمشاكل الناس الحاضرة أو المستقبلية، أو تُقدّم لهم المعونة في أوقات الشدة.
هكذا، وبمرور الوقت، فقدت الآلهة القديمة ما كان لها من احترام وتبجيل في عيون المتعبدين، واستمر الفراغ الروحي لدى رعايا الإمبراطورية، لا سيما بين المثقفين منهم وأصحاب الفكر المستنير الذين اهتموا بالمذاهب الفلسفية.
وسط هذا الفراغ، ظهرت المسيحية لتتفوق على ما عداها من عقائد وطقوس، وتتقدم نحو آفاق جديدة لتملأ حياة شعوب الإمبراطورية الرومانية. حصل ذلك في عهد الإمبراطور الروماني أغسطس قيصر، وكان من أخطر أحداث التاريخ التي غيّرت مسار الأحداث والحياة بكافة مظاهرها، وسط اليهود من الطبقات الدنيا في المجتمع، وفي أنحاء مختلفة ومدن متعددة من القدس والجليل ومن سائر أنحاء فلسطين، وبعضهم كان من مصر ومن ليبيا والقيروان، ومنهم عرب من الجزيرة العربية.
ارتبط تاريخ المسيحية في المرحلة الأولى بشخصيات ثلاث، لعبت دوراً كبيراً في تقدمها وانتشارها وإرساء أسسها ولاهوتها. وهؤلاء هم بولس وبطرس ومرقس.
الشخصيات الثلاث
وُلد بولس في طرسوس في كيليكية الواقعة في آسيا الصغرى (تركيا اليوم) بين السنة الخامسة والسنة العاشرة بعد الميلاد، ودرس الشريعة اليهودية والناموس، ونال قسطاً من الفلسفة عن طريق التحصيل الشخصي، لأن والده كان قد أبعده عن المدارس اليونانية.
رحل في صباه إلى بيت المقدس طلباً للعلوم الدينية، فتعصّب كثيراً لليهودية، وتعقب من اعتنق المسيحية حتى اعتنقها هو نفسه أثناء ذهابه عام 31 للميلاد إلى دمشق ليتصدى للمسيحية ويوقف انتشارها بين اليهود.
بدأ بولس التبشير بالمسيحية بين اليهود في دمشق، ثم ذهب إلى أنطاكية حيث انتشرت المسيحية بين أهلها انتشاراً واسعاً، فقضى فيها سنوات حتى اختاره كبير المسيحيين فيها للتبشير في الأقاليم المجاورة.
ولهذه الغاية، قام برحلات متعددة، بين عامي 45 و58 للميلاد، عاونه فيها مرقس ورجال آخرين. وفي عام 58، ثار عليه اليهود في هيكل سليمان، وسيق إلى السجن بأمر الحاكم الروماني، حيث قضى نحو عامين، ثم أُرسل إلى روما لمحاكمته أمام نیرون، ويُرجَّح أنه أعدم عام 64 مع بطرس وغيره من ضحايا الامبراطور الروماني.
عُرف بولس بأنه استطاع أن يُحوّل الكنيسة البادئة إلى هيئة منظمة ورسالة عامة، ونجح في أن يُرسي دعائم اللاهوت المسيحي وأسس الكنيسة العالمية، كما نجح في التبشير بالمسيحية حتى انتشرت في سائر أنحاء الشرق، ثم امتدت إلى إيطاليا وأوروبا.
أما ثاني الشخصيات المسيحية الهامة فهو بطرس الذي كان من تلاميذ المسيح. بشّر بالمسيحية في فلسطين بين اليهود، وتابع رسالته في مدينة يافا، ثم شرع في التبشير لكل العالم حتى قُبض عليه وسُجن عام 41 للميلاد. وعندما خرج توجه إلى أنطاكية عام 45 فأقام فيها ثماني سنوات، ثم سافر إلى روما في العام نفسه، ليُؤسس فيها الكنيسة المسيحية قبل أن يجري إعدامه مع بولس وغيره على يد نيرون.
ثالث الشخصيات المسيحية الهامة كان مرقس الإنجيلي الذي أسس كنيسة الإسكندرية بعد حياة حافلة في معاونة بولس في التبشير، وسافر إلى روما أيضاً لكنه عاد مباشرة إلى الإسكندرية للتبشير فيها بين اليهود، كما غدا أول أسقف مسيحي في الإسكندرية، وكان أول من بشّر بالإنجيل في مصر وعلى يديه اعتنق أول يهودي المسيحية في مصر.
وفي الإسكندرية، لقى مرقس حتفه عام 62، أو عام 68 وفق بعض الروايات، ونقل أهل البندقية رفاته إلى مدينتهم في القرن التاسع للميلاد.
دخول المسيحية إلى مصر
هيأت التجارة الواسعة لمصر وقربها من فلسطين فرصة سهلة للديانة الجديدة من أجل النفاذ إليها، فبدأ بعض أهل مصر اعتناق المسيحية، ثم بدأت تنتشر في سائر أنحاء البلاد، حيث عُثر على أربع برديات قديمة في مصر الوسطى تتعلق بالعقيدة المسيحية وترجع إلى منتصف القرن الثاني الميلادي، ما يؤكد وصول المسيحية إلى تلك المناطق في تلك الفترة المتقدمة، ثم انتشارها في الوجه القبلي أواخر القرن الثاني الميلادي.
بدأ ظهور المسيحية في مصر التي كانت إحدى ولايات الإمبراطورية الرومانية في منتصف القرن الأول ميلادي، ووجد الدين الجديد هناك حقلاً خصباً نتيجة عدد من العوامل.
من أهم هذه العوامل، تشابه الفكر الديني المصري القديم مع المسيحية في بعض الأفكار مثل الوحدانية، وهي أساس المسيحية ولم تكن غريبة على المصريين فقد كانوا أول الشعوب التي آمنت بالوحدانية منذ عهد أخناتون (1383-1365 ق.م)، فضلاً عن إيمانهم بالحياة بعد الموت والحساب والعقاب في الحياة الأخرى.
الفكرة الثانية هي التثليث، وأشهر ثالوث عند قدماء المصريين كان إيزيس وأوزيريس وحورس، لذلك حين نادت المسيحية بفكرة التثليث لم يكن ذلك غريباً على ذهنية المصريين.
الفكرة الثالثة كانت الصليب، وصليب المسيحية يرمز للحياة يُقابله "عنخ" مفتاح الحياة عند قدماء المصريين.
ما شاع من قدرة المسيحيين على دفع الشياطين وشفاء المرضى وإحياء الموتى جذب كذلك انتباه المصريين للعقيدة الجديدة، وهيأت أذهانهم لاعتناق المسيحية، فضلاً عن نظرة المصريين للعقيدة الجديدة باعتبارها فرصة للتعبير عن معارضتهم للسلطات الرومانية بعد أن فقدت مصر استقلالها، وغدت ولاية تابعة لروما ثم لبيزنطة.
ما ساعد كذلك على دخول المسيحية إلى مصر، وتحديداً عن طريق الإسكندرية، هو أن الأخيرة في تلك الفترة كانت تُعتبر من أعظم موانئ العالم ومدنها، وكانت منارة ثقافية بسبب مدرستها الشهيرة، ومركزاً للعلم والفلسفة بسبب مكتبتها التي كانت تحوي مئات الألوف من الكتب والمخطوطات النفيسة.
في الإسكندرية، شقّ القديس مرقس طريقه بسهولة للتبشير بالمسيحية، فهو ابن المنطقة نفسها، إذ وُلد من أبوين يهوديين في مدينة القيروان، وهي إحدى المدن الخمس الغربية في ليبيا.
وكان مرقس منذ ولادته ينعم بما كان لأسرته من ثروة كبيرة وأراضٍ زراعية شاسعة، ولذلك تمكن أبواه من أن يُهيئا له أفضل سبل التعليم والثقافة، فأتقن اللغتين اليونانية واللاتينية، كما أتقن اللغة العبرية وتعمّق في دراسة كتب التوراة والناموس اليهودي، غير أن بعض قبائل البربر هجمت على أملاك أسرة مرقس في القيروان، فنزحت إلى فلسطين.
وعندما جاء مرقس ليكرز بالمسيح في مصر، عَبَر على بلاد مصرية كثيرة عامرة بالسكان، لكنه فضّل الإسكندرية العاصمة ليبدأ منها بشارته، وكانت صرخة أنيانوس - أول من بشّره مرقس بالمسيحية - "يا الله الواحد" واسطة لكرازة لكل المدينة عن الإله الواحد.
ثم انتشرت المسيحية في ربوع مصر، وكان إقليم مصر في القرن الأول ميلادي ينتهي حيث يبدأ إقليم "قمرين" الذي يقع في ليبيا الآن، حيث المدن الخمس الغربية الواقعة شمالي ليبيا، وكان الطريق بينها وبين الإسكندرية متصلاً، ولذلك بعد أن صارت الخمس مدن ضمن الحدود الليبية أصبح لقب البابا هو بابا الإسكندرية والخمس مدن الغربية.
المدن الخمس الغربية
الأولى هي القيروان، وهي أول وأقدم هذه المدن جميعاً، أنشأها الإغريق عام 631 قبل الميلاد في الجبل الأخضر بعيدة عن الساحل، لتكون في مأمن من خطر قراصنة البحار، وهي غير القيروان الموجودة في تونس وينطق اسمها أيضاً قورنية وقرنية وقريني، ولعل منها سمعان القيرواني الذي "حمل صليب المسيح" (مر 15: 21)، وهى تُسمى حالياً الشحات أو عين شاهات.
الثانية هي برنيق، وتدعى أيضاً برنيقة أو برنيقة القرينية، واسمها القديم هسبريس أو هسبريديس، وفي عهد البطالمة بدّلوا اسمها إلى برنيق (وهو اسم زوجة بطلميوس الأول: برنيكي)، وتعرف حالياً باسم بني غازي.
الثالثة هي برقة (باركه)، وهي ثاني أو ثالث مدينة في القدم، وتقع في الداخل في الجبل الأخضر، وتسمى حالياً بالمرج، ولها ميناء قديمة تدعى بطولومايس.
الرابعة هي طوشير، وتدعى حالياً توكره أو طركرا، وقد أنشأها الإغريق على الساحل عام 510 قبل الميلاد، ثم دعيت باسم أرسينوى على اسم أم بطليموس الثالث.
أما الخامسة فهي أبولوني، وقد بُنيت على الساحل ربما لتكون ميناء لمدينة سيرين أو القيروان، وهي حالياً مرفأ أو مرسى سوسه، وقد نشأ في ما بعد ميناء آخر للقيروان هو درنة.
الحالة الفكرية وقت ظهور المسيحية
وصلت الإسكندرية إلى درجة عظيمة من الأهمية، حتى أصبحت تُعتبر بحق العاصمة الثقافية للعالم وقلب العالم الهليني النابض، وكانت مكتبتها تزخر بمن يفد إليها من علماء وفلاسفة وطلاب معرفة من كل العالم، يجلبون معهم علوم بلادهم وثقافاتها.
وازدحمت المدينة بأناس من شتى الأجناس والأديان والثقافات، وكان فيها المصريون بديانتهم المعروفة ومعابدهم المصرية، وإلى جانبهم عاش اليونان بلغتهم العالمية وفلسفاتهم، والرومان بأنظمتهم وقوانينهم وثقافتهم، وكان هناك اليهود الذين يمثلون عنصراً هاماً في المدينة ولهم فيها حي خاص ومعهم أجناس أخرى شرقية في المدينة لها أيضاً عباداتها وثقافاتها.
التقى كل هؤلاء في شوارع المدينة وأسواقها، وقامت مناقشات دينية وعقلية حامية، ودارت مناظرات بين العلماء في مكتبتها، فخلق هذا التنوع امتزاجاً فكرياً تولدت عنه أفكار وفلسفات ومذاهب جديدة، أسست لمدرسة الإسكندرية الشهيرة التي ساعدت المدينة لتحل مكان أثينا كمركز أدبي للعالم اليوناني.
الصراع بين المسيحية والفلسفة الوثنية
عندما ظهرت المسيحية في الإسكندرية كان عليها أن تتصارع مع كل الأديان والفلسفات والمذاهب، الوثنية منها واليهودية.
هكذا حدثت مفارقة عجيبة في المدينة، فاتخذ كل من الفريقين أسلحة الآخر ليحاربه بها، إذ درس المسيحيون الفلسفة للرد على الفلاسفة، ودرس الوثنيون الكتاب المقدس لمهاجمة المسيحيين.
واتهم الوثنيون المسيحيين لدى الحكام باتهامات كثيرة في تعاليمهم وعبادتهم وأخلاقهم، وأدى هذا الصراع إلى ظهور فئة من العلماء دافعوا عن المسيحية مثل أثيناغورس، أحد أساتذة المدرسة اللاهوتية في الإسكندرية.
بعدما انتشرت المسيحية انتشاراً سريعاً وازداد عدد المنضمين إليها، أصبح من الضروري أن يوضع التعليم المسيحي على أسس منهجية منظمة لإعطاء هؤلاء المتحولين إلى المسيحية ما يؤهلهم للمعمودية والانضمام إلى الكنيسة، وكذلك لتثقيف المؤمنين أنفسهم بمبادیء دینهم وتعاليمه، وتزويد الراغبين منهم بما يريدونه من الدراسات والتعمق في فهم الفلسفة واللاهوت.
وهكذا تأسست مدرسة الاسكندرية للتعليم المسيحي، ولكن لم تكن هذه الأسباب الإيجابية فقط هي الداعية لإنشائها، إنما كان هناك سبب آخر لا يقل أهمية، ذلك أن العالم الوثني كان يقف للمسيحية بالمرصاد، يحاول بكل قواه وبكافة الطرق العلمية والعقلية والنقدية أن يقضي على هذه الديانة الجديدة، وعليه واجهت الكنيسة هجمات فكرية شديدة من فلاسفة الوثنية ورجال السياسة فيها، وكان لا بد أن توجد مدرسة عليا تزود الكنيسة بقادة للفكر، وتقدم للمسيحيين المعرفة الكافية التي تمكنهم من الرد على خصومهم، سواء كان ذلك في مجادلات فردية أو جماعية.
وتأسست مدرسة الإسكندرية اللاهوتية في منتصف القرن الأول الميلادي على يد مرقس الذي أدرك بثقافته العبرية واللاتينية واليونانية طبيعة الصراع الفكري وقتها، وكانت المدرسة سبباً في أن تصبح الإسكندرية مركزاً للفكر المسيحي.
بدأت مدرسة الإسكندرية كمدرسة لتعلیم الإیمان المسیحي، تقدّم دراسات تؤهل المسيحيين لنيل سر المعمودیة حسب المفهوم المسيحي، وفتحت أبوابها أمام الجمیع، یلتحق بها أناس من دیانات مختلفة وثقافات متباینة.
عُرفت المدرسة باهتمامها بالبحث العلمي، فلم یكن الأساتذة مجرد محاضرین یلقنون الطلبة ما یریدون، لكنهم بالأكثر كانوا یهتمون بتقدیم المشورة في البحث والتنقیب مع المناقشة المستمرة، كما امتازت المدرسة بعدم الفصل بین الدراسة والحیاة الإیمانیة، فكانت العبادة تمارس جنباً إلى جنب مع الدراسة، إذ یمارس المعلّمون وتلامیذهم الصلاة والصوم وحیاة النسك بغیة الدخول في طریق الكمال المسیحي.
مشاهير أساتذة مدرسة الإسكندرية
اشتهرت مدرسة الإسكندرية اللاهوتية بالكثير من الفلاسفة.
من هؤلاء، أثیناغوراس الفیلسوف، وكان شخصیة فلسفیة كبیرة، مولعاً بالبحث في أمر الدیانة المسیحیة كغیره من الفلاسفة الوثنيين طمعاً في كشف أخطائها وٕإظهار فسادها، ثم انجذب للإیمان بها، تولى رئاسة مدرسة الإسكندریة اللاهوتیة حوالي عام 176، وهو أول فیلسوف يصبح مديراً للمدرسة دون أن یخلع عنه زي الفلاسفة.
يُذكر كذلك القدیس بنتینوس الذي ولد في الإسكندرية في أوائل القرن الثاني، وهناك اعتنق المسیحیة على ید أثیناغوراس، وكان فيلسوفاً رواقياً، وتولى رئاسة مدرسة الإسكندریة حوالي عام 181، ونال شهرة فائقة، وٕإلیه ینسب إدخال الفلسفة والعلوم إلى المدرسة لكسب الهراطقة والوثنیین المثقفین، وهو الذي فكر في ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة المصرية، لكنه رأى كل الخطوط المصرية من هيروغليفية وهيراطيقية وديموطيقية صعبة الكتابة، فاستعار الأحرف اليونانية وأضاف إليها سبعة أحرف من الديموطيقية وكوّن منها جميعاً الأبجدية القبطية.
وهناك أيضاً إكلیمنضس السكندري، وهو من أبرز تلاميذ بنتينوس. وُلد حوالي عام 150 من أبوين وثنيين، وكان قبل تحوله إلى المسيحية فیلسوفاً وثنياً درس فلسفة اليونان ثم جال يطلب العلم في بلاد اليونان وإيطاليا وفلسطين ومصر وبلاد الشرق الأدنى، وتتلمذ على ید القدیس بنتینوس، وصار مساعداً له.
سُیّم كاهناً في الإسكندریة، وبعدما سافر أستاذه بنتینوس إلى الهند عام 190 تسلم رئاسة المدرسة إلى حین عودته، وهو واضع السياسة التعليمية الجريئة التي سارت عليها مدرسة الإسكندرية المسيحية في كافة عصورها، حدد من خلالها العلاقة بين الفلسفة والدين، وهو المؤسس الحقيقي لعلم اللاهوت المسيحي.
إلى جانب هؤلاء، العلامة أوریجینوس، ویُعتبر من أبرز الشخصيات التي ظهرت في تاريخ الكنيسة المسيحية. وُلد في الإسكندرية من أبوين مصرين مسيحيين حوالي عام 185، درس الفلسفة على يد أستاذه إكلیمنضس، واستطاع في سن مبكرة أن يستوعب قدراً ضخماً من المعلومات فألمّ بالفلسفة والمنطق والهندسة والرياضيات والموسيقى والبلاغة، وجمع بين معلومات المدرستين المسيحية والوثنية.
وإذ تُركت مدرسة الإسكندرية بلا معلّم بسبب الاضطهاد، ورحیل القدیس إكلیمنضس، عینه البابا دیمتریوس رئیساً للمدرسة حوالي عام 203، وهو بعد في الثامنة عشر من عمره. وقد بلغت مدرسة الإسكندریة في عهده أوج عظمتها، لا سيما أنه وضع علم اللاهوت المسيحي على أسس منظمة.
القدیس دیدیموس الضریر من بين هؤلاء كذلك. وُلد في الإسكندرية عام 313، وفقد بصره في الرابعة من عمره، فلم يتعلم القراءة في مدرسة، وإنما بسبب ولَعِه بالتعلم اخترع الحروف البارزة بالنحت ليقرأها بإصبعه، وبهذا سبق بخمسة عشر قرناً في استخدام الحروف البارزة.
ورغم أنه فقد بصره صبیاً، إلا أنه تمكن من النبوغ في نواحي المعرفة العدیدة، مثل الفلك والحساب والهندسة والموسیقى، ودرس النظریات الفلسفیة المختلفة، وحفظ الكتاب المقدس والتعالیم الكنسیة عن ظهر قلب. تولى رئاسة مدرسة الإسكندریة خلفاً للقديس مقاریوس.
العلاقة بين المدرستين الوثنية والمسيحية
كانت المدرسة الوثنية قد بلغت ذروتها في العلوم والفلسفة في القرون الأولى للمسيحية، ولم يكن هناك أية مدرسة في العالم القديم تعادلها كمركز للدراسات الطبيعية والعلمية في الطب والتشريع والرياضيات والفلك والجغرافيا.
وإذا كانت أثينا قد تميزت بدراسة الفلسفة، فإن مدرسة الإسكندرية الوثنية درّست كل هذه الفلسفات، حتى أنها أنجبت الأفلاطونية الحديثة، وتزعمت الغنوصية، ونشرت هاتين الفلسفتين في أرجاء العالم. لهذا كله، كانت المدرسة الوثنية القوية منافسة خطيرة للمدرسة المسيحية الناشئة التي كانت تُمثل أعلى مجهود للمسيحيين في نزاعهم الفكري مع الوثنية.
مع ذلك، عاشت المدرستان جنباً إلى جنب، كل منهما كان لها طابعها الجامعي وهدفها الخاص، وكانتا كمرآة تعكس الحالة الثقافية في الإسكندرية وقتذاك، وقد أثرت كل منهما في الأخرى، وكانت المنافسة الجبارة بين المدرستين ذا أثر فعال في نهضة وازدهار العلوم والفلسفة واللاهوت في تلك القرون الأولى.
رصيف 22