تر اث يحتقر المرأة - Articles
Latest Articles

تر اث يحتقر المرأة

تر اث يحتقر المرأة

مناهل السهوي:

 

في كتابه "الإصابة في منع النساء من الكتابة"، يقول خير الدين نعمان بن أبي الثناء الألوسي: "أمّا تعليم النساء القراءة والكتابة فأعوذ بالله، إذ لا أرى شيئاً أضرّ منه بهن، فإنهن لما كُنَّ مجبولات على الغدر كان حصولهن على هذه الملكة من أعظم وسائل الشرّ والفساد"، وأمّا السبب الذي يصيغه بن أبي الثناء فهو أن الكتابة ستسمح للنساء بمكاتبة عشاقهن. إذن، هو غواية وطريق لأجسادهن وليس وسيلة لإعلاء شأن العقل كالرجل. كما يروي الشيخ محمد النفزاوي في كتابه "الروض العاطر في نزهة الخاطر"، حكايةً تُسأل فيها امرأة حكيمة عن موضع العقل لدى معشر النساء، لترد قائلة: "بين الأفخاذ".

غدت هذه الحكايات عبر السنين طريقة تفكير مجتمعات بأكملها، فتحول الفرج إلى العقل لدى المرأة، وهو ليس أصلاً فيها إنما صفات أُصبغت على جسدها عنوة، فلا يخرج كلّ ما تفعله عن حدود فرجها. وأحاديث الألوسي أو النفزاوي ليست تصغيراً من شأن النساء فقط، بل من شأن الرجال كذلك، فتُقاس فحولة الرجل بكبر عضوه، لأنه ما يرضي المرأة وتسعى إليه ويشبع نهمها.

كيف تكتب المرأة وهي بلا عقل؟

يتحدث هؤلاء الشيوخ عن الطرق المثلى لتعامل الرجال مع نسائهم، ويسدون لهم النصائح للعيش مع كائنات غير عاقلة تماماً، فينصح الألوسي الرجال قائلاً: "فاللبيب من الرجال من ترك زوجته في حالة من الجهل والعمى، فهو أصلح لهن وأنفع".

لا يُخفى على قارئ أن هذه الأحاديث ليست خوفاً من غواية النساء، بل تحمل خشيةً من انتقال المعرفة إليهن، فتشكيل هوية المرأة على هذا النحو هو نتاج ثقافة كاملة، حاولتْ تنشئة الجسد الأنثوي ليبرع في ممارسة الجنس وإغراء الرجال، مع إنكار ما أمكن من قدرات النساء العقلية، ليصبحن كائنات حسّية، بينما أخذ الرجل دور التفكير نيابة عنهن، فصارت اللغة مذكّرة، وإذا استخدمت المرأة عقلها بدتْ شاذة وغير مرغوب بها. وعبر التناقل والنكتة، تحولت آراء ذكورية إلى ثقافة انتشرت وترسّخت في المعتقدات الجمعيّة، فليس غريباً أن كتاباً كالروض العاطر مازال يُطبع ويُقرأ إلى اليوم!

هكذا تحوّل جسد المرأة إلى عدو لها، فعقلها مغيّب وموجود بين فخذيها، يحمل الرجل راية العقل عنها ويتكلم باسمها، صوتها ولغتها مشكوك بهما، ولذلك، يقال بأن رجال السلطة في العصور الوسطى في أوروبا كانوا يقيدون المرأة سليطة اللسان (أي التي تستخدم لسانها وتجال وتقنع) إلى كرسي، ويقومون بتغطيسها في مياه النهر عدة مرات، من أجل إطفاء النار الملتهبة في لسانها، أو يلبسونها قبعة معدنية يمتد منها قناع يغطي فمها

وبينما اعتُبِرَ عجز المرأة عن التفكير السليم طبعاً فيها، كانت كفّة الرجل ترجح في العلوم والفنون والآداب، مشتغلاً على خطين متوازيين، الأول نشر كُتب تثبت عجز النساء عن طريق النُكتة والحيلة اللغوية، والثاني استمراره في جني المعارف وحصرها بالرجال، حتى غدا وجود كاتبة تتحدث عن العلوم كما تتحدث عن جسدها يدعو إلى الشكّ والتساؤل: كيف تفعل ذلك وقد كانت هذه مهمة الرجل منذ مئات السنين؟

لكن المرأة تكتب!

افترض علماء وفقهاء كالألوسي والنفزاوي أنّ المرأة كائن مفعول به، ولا يمكن أن تغدو فاعلة، سواء في الكتابة، أو الجنس أو الحياة، وحين تتكلم تكون سليطة اللسان، وإن بدت ذكية ومجادلة وكاتبة فذّة تغدو لعوباً أو مسترجلة، وحين تبدع بشكل قاطع، يُشَكُّ بها، فمازالت جملة ابن حزم تتردد بصيغ مختلفة ليومنا، فهو يراهنّ في كتابه "طوق الحمامة": "متفرغات البال من كلّ شيء إلّا من الجماع ودواعيه"، فكيف يمكن أن تبدع النساء وهنَّ يفكرن طوال اليوم بالجنس؟

رغم اعتبار كتابه "طوق الحمامة" واحداً من الكتب التي دافعت عن مكانة المرأة، وابن حزم ذاته اعترف بأهمية النساء في حياته، فهو من قال: "ربيت في حجورهنّ ونشأت بين أيديهنّ... وهنّ علمنني القرآن وروينني كثيرًا من الآشعار ودرّبنني في الخطّ "،  إلّا أنه  أورد آراء فيها تشكيك بهنّ في نفس الفقرة، حيث يقول بأنه فطر على سوء الظن بالنساء: "أصل ذلك غيرة شديدة طبعت عليها وسوء ظنّ في جهتهنّ فطرت به." والمقتطفان من كتابه طوق الحمامة

مع أن الزمن يتغيّر ويعلو صوت الكاتبات يوماً بعد آخر ويصعُب تجاهل نتاجهن، تعرّض الجنسان لتغيرات رغم هشاشتها في بعض الأماكن، وإذ تمكّن الكثير من الرجال من إعادة صياغة عالمهم برفقة النساء الكاتبات، إلّا أن الثقافة المجتمعية المترسخة منذ مئات السنين ترسخ تصوراً مسيئا عن المرأة في كلّ مناسبة، بقصد أو دونه.

حين يصبح الجسد تهمة

ورغم الأصوات المنادية بحرية وحقّ النساء في الكتابة، إلاّ أن تهمة الجسد تُلصق بهنّ على طريقة ابن حزم، فهذه الروائية ناجحة لأن رجلاً يكتب بالنيابة عنها، وتلك تمنح جسدها للوصول ونشر كتبها، وأخرى باتت مشهورة لأنها جميلة. لا فصل بين عقل المرأة وفرجها، وهذا ما أفرد له فقهاء كتباً ومجلدات، قد يبدو مضحكاً اليوم القول: "ألمْ تعلمْ أن النساء دينهن فروجهن!"، لكن باستطاعة الكتّاب والكتابات، على حد سواء، اتهام كاتبة ناجحة ببيع جسدها لتحصل على النجاح.

إذا تتعلق هذه الصعوبات أساساً بجنس الفرد، وبكون النساء أكثر تعرضاً للإقصاء، فيرى عباس العقاد، أنه في زمن يميل إلى محاباة المرأة وعدم إغضابها فيما يكتب عنها من نقد، وأن آداب الأندية والاجتماعات تتغلب على آداب الكتابة، فهو برأيه لا يذهب بعيداً عمّا تواجهه الكاتبة اليوم من صعوبات في أوساطها الثقافية والاجتماعية.

فالتشكيك يتعلق برغبة الرجل في الحفاظ على مساحة اعتاد أن تكون ملكه على مرّ العصور، ووجود المرأة يحدث فوضى في الأنساق الثقافية له، وكأن المرأة ستسرق ما كان ملكه، ما يقوده للتقليل من موهبتها بشتى الطرق، إلّا إذا مالت لتنمو وتنجح تحت جناحه، فتتحول إلى نتاج ذكوري بصورة جديدة، ويغدو الرجل، صاحب الفضل، مخرِجَاً المرأة من ظلام عصور طويلة، مربّتاً على كتفها لتكون شجاعة وتدخل هذا العالم الخطير والغريب عليها، "عالم الكتّاب".

التشكيك بإبداع النساء

في كتاب كيفية قمع كتابة المرأة للأمريكية جوانا روس، يجسّد الاقتباس المطبوع على الغلاف بدايةً، معضلةَ الكاتبات في التشكيك والتقليل من أعمالهن:

"هي لم تكتب هذا العمل (ولكن إن كان جلياً أنها كتبته...).

لقد كتبته، لكن لم ينبغي عليها ذلك (إنه عمل سياسي، جنسي، ذكوري، نسوي!).

لقد كتبته، لكن انظر عما كتبت! (غرفة النوم، المطبخ، عائلتها، النساء الأخريات!).

كتبته، لكنها لم تكتب سوى عمل واحد منه (جين آير، مسكينة، هذا كل ما لديها على الإطلاق...).

كتبته، لكنها ليست فنانة بحق، وعملها ليس جاداً حقاً. (إنها قصة مثيرة، رومانسية، كتاب للأطفال، خيال علمي!).

كتبته، لكنها حصلت على المساعدة (روبرت براونينغ، برانويل برونتي، كتَبَهُ الجانب الذكوري فيها).

كتبته، لكنها حالة شاذة (وولف، بمساعدة ليوناردو...).

كتبته ولكن...".

تسرد روس بشكل ساخر كيف تُمنع النساء من النشر، أو لا يُمنحن فضل إبداع أعمالهن، أو حتى التقليل من هذه الأعمال، ورغم مرور حوالي 30 عاماً على نشر الكتاب إلّا أنه مازال يصلح ليومنا.

تفتتح روس كتابها "بالمحظورات"، كعدم تعليم الفتيات أو الأجور المنخفضة أو التمييز على أساس النوع الاجتماعي، خاصة بما يتعلق بالأسرة والأطفال والأعمال المنزلية ورعاية الآخرين، وتقديم الكتابة كنقيضٍ للأنوثة، وهو ما قد يجعل المرأة غير جذابة أو غير مرغوب بها من قبل الرجال، كما تورد الطرق التي يتم فيها التقليل من أعمال النساء، كإنكار إبداعهن للعمل، التشكيك به، التصنيف الخاطئ أو حتى الشذوذ، تستشهد روس بالعديد من الكاتبات، كالشاعرة الأمريكية آن ساكستون، التي اتهمت بالنوم مع ناشرها مقابل طباعة كتبها!

ومن الطرق التي تُسْتَخدم للتقليل من كتابة النساء حين يتعلق الأمر بنتاج أدبي مهم، ترديد أنه لا يمكن لامرأة عادية أن تكتبه، لا بل يجب أن تكون عصابية أو مجنونة، على الدوام هنالك حجج للتقليل من عمل النساء. على سبيل المثال، قال الروائي البريطاني المعروف بعدائه للكاتبات لكونهن نساءً فقط، فيديادر سوراجبراساد نيبول، الحاصل على جائزة نوبل، إن كتابات المرأة غير متكافئة مع كتاباته، بسبب عاطفتها ونظرتها الضيّقة إلى العالم، يعلل نيبول قوله بأن المرأة ليست سيدة منزلها بالكامل، ولا يمكن أن تكون في كتاباتها!

كاتبات منسيات... كاتبات عظيمات

ليس غريباً بعد كل هذا القمع والتبخيس من أعمال النساء أن يتأرجحن بين طرفي الذكورة والانطواء تحت خيمة الفحولة، وبين البحث عن الكاتبة الأنثى. تقول مي زيادة: "إذا أحبّت المرأة ذاتها حباً رشيداً كانت لنفسها أباً وأماً وأختاً وصديقة ومرشدة، وأتمّت ملكاتها بالعمل، وضمنت استقلالها بكفالة عيشها"، لكن مي نفسها تعود لتلغي ثورتها في الكتابة، فهي تخلق بطلات مكسورات، يعُدن إلى الرجل بعد أن عجزن عن تحقيق مبتغاهن. وهكذا، ورغم رغبة مي بتخليص لغتها من الفحولة، إلّا أن خطابها ينفي ذلك.

لم يكن دخول المرأة الكتابة بالأمر السهل، فالقلم هو عضو يعود للرجل، ثعبان قاتل- كما يقول عبد الله الغذامي- عرف الرجل ترويضه على مدى العصور، ولم تكن المرأة سوى موضوع الكتابة وشهوة للكتّاب والقصائد، واليوم لدينا "اللغة الذَكَر" التي تحمل في أعماقها نفوراً من الوجود الأنثوي، بضمائرها ومسمياتها، فليس مصادفة أن تُنادى المرأة بالقاضي والنائب، ولو أُنّثت غدت قاضية (أي مميتة) ونائبة (أي مصيبة وكارثة).

وحتى وصول المرأة إلى النجاح مشكوك فيه. نستذكر الأميركية لويز غليك الحاصلة على نوبل للآداب 2020، وما أثير حول أحقيّة حصولها على أرفع جائزة أدبية، فهي تكتب ببساطة عن العائلة وعلاقتها مع الأطفال والزوج! كيف يمكن لامرأة تكتب عن المنزل أن تفوز على رجالٍ يكتبون عن المأساة البشرية والحروب؟ يقول لنا الأدب الكلاسيكي إن النموذج الرفيع للأدب يتحدث عن المأساة البشرية، لكن أليس من الجدير التفكير أكثر بالمواضيع التي تعتبر أدباً رفيعاً، أوليس المنزل والعائلة هي مواضيع ترتبط بالإنسان على طول حياته أيضاً؟

وبسبب تاريخ طويل من تبخيس عمل النساء ووصمهن بالتخلف والجهل، لجأت الكثير من الكاتبات إلى أسماء مستعارة، كجورج أليوت واسمها "ماري آن إيفانس"، ما قامت به ماري هو تأكيد لأهمية كون الرجل كاتباً وتهميش لكلّ الكاتبات الأخريات اللواتي أردن النشر تحت أسمائهن الحقيقية، لجأت كذلك أليوت إلى الاسم المستعار هرباً من الوصمة الجنسية بعد هربها مع جورج هنري لويس، الذي كان متزوجاً بالفعل، خوفاً من أن يتم تقييم أعمالها وفقاً لحياتها الجنسية، حسب روزماري بودينهايمر، كاتبة سيرة إليوت.

التاريخ الطويل للإقصاء والإلغاء والتهميش والأسماء المستعارة محى آثاراً كاملة لكاتبات وشاعرات، كتب ضاعت أو أُتلفت أو لم يلاحظها أحد، وإن أرادت النساء العودة الحقيقية للكتابة فلا يكفي فهم السياق التاريخي والاجتماعي للكتابة النسائية، لا بد من النبش في التاريخ واستعادة أسماء كاتبات، في عملية لا تقلّ أهمية عن الكتابة، وهذا ما تقوم به بالفعل منظمات ومؤسسات، كدار نشر بيرسيفوني في المملكة المتحدة، والتي تعيد طباعة الكتب المنسية والمهملة، خاصة أعمال كاتبات منذ منتصف القرن العشرين وحتى اليوم.

وكما تفعل الناقدة والكاتبة الأميركية آن بويد ريو، الباحثة عن الكاتبات المنسيات، ساعيةً إلى إعادة سير ونتاج كاتبات لم يحصلن على التقدير في عصرهن، مستعيدةً أعمالاً مهمة وجريئة لكاتبات أميركيات، كالكاتبة كونستانس فينيمور وولسون، والتي كانت كاتبة مشهورة في أيامها، وأُهملت بعد ظهور المجتمع الأدبي الذكوري في أميركا.

وفي حين كان الفرج هو عقل المرأة لمئات السنين، وقد يبقى تهمة تلاحقهن طويلا، فإن معركة الكاتبات طويلة، وأهمها هي تقديم لغة وخيال يخصّهن وحدهن، بهدف صنع تكامل لا قطيعة مع الرجل.

رصيف 22

Related

Share

Rating

0 ( 0 reviews)

Post a Comment

Category
Author
More Options
  • Recent
  • Popular
  • Tag
Tags