سعد القرش:
حتى العائدون في زيارات قصيرة إلى "ديار الإسلام" لا يحتملون طول البقاء في بلادهم الطاردة، وسرعان ما يرتدّون إلى دول دينها القانون، يحظون فيها بحقوقهم، ويتمتعون بحرياتهم الشخصية والدينية، فلا يجرؤ أحد على سؤالهم عن دينهم أو مذهبهم.
هؤلاء يخلعون مظاهر الحداثة والتحضّر، في الرجوع المؤقت، ويلبسون قناعَ محتسب يراقب الآخرين، ويحاسبهم على عبادتهم وثيابهم. وفي هذه الزيارة، أو الهدنة الإيمانية، يلعنون التحلّل الأخلاقي في الغرب، ولا يستنكرون ما يناله بعضهم، أو يطلبونه طلباً، من مساعدات يعلمون أنها من ضرائب تجارة مشروبات وأطعمة "غير حلال". وبأقنعة المحتسبين ارتكب مواطنون، في دولة شبه مدنية/شبه دينية، جريمة أودت بحياة سيدة مصرية.
في تحقيق النيابة، أقرّ ثلاثة متهمّين بارتكابهم جرائم حجز المجني عليها والشخص الذي كان في رفقتها بدون وجه حقّ وتعذيب الأخير بدنيّاً، واستعراضهم القوة والتلويح بالعنف واستخدامهما ضد المجني عليهما بقصد ترويعهما وتخويفهما بإلحاق الأذى بهما. وكان من شأن ذلك إلقاء الرّعب في نفسيهما وتعريض حياتهما وسلامتهما للخطر، ودخولهم مسكن المجني عليها بقصد ارتكاب هاتين الجريمتين، وحيازتهم أدوات ممّا تستخدم في الاعتداء على الأشخاص.
وأكد المتهمون أن المجني عليها ألقت بنفسها من شرفة المسكن، بعدما أرهبوها والشخصَ الذي كان معها، واعتدوا على الأخير وقيدوه بوثاق؛ جريمة تؤكد نيّة الإيذاء، وإرهاب امرأة وإصابتها، فتهرب من ضرب أنزلوه بالرجل، وتسقط من الشرفة.
وقعت الجريمة مساء الخميس 11 مارس 2021، في حيّ "دار السلام" بالقاهرة، بعد إشاعة البعض استقبال امرأة لرجل، وتبين أنه عامل صعد بأنبوبة بوتاغاز. وكانت عيون المتلصّصين يقظة تنتظر ذريعة أخلاقية، لطرد المرأة من الشقة، بعد إلصاق تهمة تنال من "الشرف" بين الجيران.
وانتهى العدوان الجماعي في الأعلى بالمرأة جثةً ملقاة في الشارع. ما قبل موت السيدة اختلفت فيه الروايات، وسجل بيان النيابة اقتحامَ ثلاثة جناة للمسكن، واعتداءَهم بالضّرب على الرّجل وتقييده، وهروب المرأة إلى الشرفة، وسقوطها أو إسقاطها في الطريق. وفي تسويغ الاعتداء تُرفع راية "شرف المرأة" الذي يصبح، في ظل تخلف أخلاقي وقانوني، شأناً عمومياً يمسّ العائلة والمجتمع.
جريمة همجية تتداخل فيها الطبقية والأخلاق والذكورية. لا يجرؤ صاحب عمارة في حيّ راقٍ وعتيق مثل "الزمالك" و"غاردن سيتي" أو جديد في تجمعات الأثرياء الجدد، على اقتحام شقة مواطنة تستضيف صديقاً. لو أقدم على ذلك يُواجه بترسانة اتهامات قانونية لا يأبه لها صاحب عمارة في حيّ شعبي.
روح المدينة، قبل تشويهها بمعاول الترييف، تنشد الحرية الفردية، وترفض المساس بالخصوصية. ولكن "دار السّلام"، كغيرها من المناطق الشعبية والمزدحمة، لا تسمح بهذا "التّرف". وكما يدلّ كثرة أنبياء بني إسرائيل على احتياجهم إلى هُداة، فما أكثر المحتسبين الشعبيين، ولبعضهم سوابق إجرامية يحاول إخفاءها بادّعاء الورع، عبر هيئة وهمية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لم يفاجئني هذا الاقتحام الآن. في عام 2005، حدثني زميلي عن مشاركته في أمرٍ مشابه، يختلف في الدرجة لا النّوع. زميلي الذي دخل بيتي ودخلتُ بيته أطعمني ما لذّ من حمام محشيّ أعدّته والدته، وكنت أظنّه منتمياً "على خفيف" لتنظيم الإخوان المسلمين، وبعد وصولهم إلى السلطة عام 2012، تأكد لي حُسن نيّتي، وأن الأمر ليس "على خفيف" إطلاقاً. واتضح لي ولغيري وجهه الآخر، المتعالي المتغطرس، ولكن للعيش والملح حُرمة. في ذلك الوقت قال لي إنه صعد مع بعض جيران إلى شقة ساكن جديد في العمارة، لمعرفة من تكون المرأة التي معه، ولم يصدقوا أنها زوجته إلا بعد رؤيتهم وثيقة الزواج.
كان زميلي على خلق، متديناً تديناً يخلو من نفاق ديني واجتماعي يسود مصر منذ السبعينيات. سألته لماذا انتحلوا صفة شرطة الآداب؟ وليس من الصّواب بدء علاقتهم بالجار الجديد بسلوك بوليسي ليست له دواعٍ أخلاقية أو قانونية. ردّ بثقة: "ومن أدرانا أنها زوجته؟". قلت إن الشرع لا يمنح أحداً حقّ التلصص، والقانون أيضاً لا يعطي جاراً مسؤولية مثل هذا التحرّي. قال: "إجراء نحمي به أخلاق أولادنا". قلتُ إن الفضول صفة مذمومة لا تليق بالمسلم، ولا بغير المسلم، ولا يسيء إلى أخلاق أبنائكم أن تكون المرأة زوجة أو غير زوجة، فالأولى أن تعلِّموهم حديث "من حُسن إسلام المرءِ تركُه ما لا يعنيه".
لو ذكرتُ لمتعصب موقفاً لعمر بن الخطاب، لسارَع إلى تخطئته. حدث أن غضب شاب أحمق حدثتُه عن حلّ تناول الطعام مع المسيحيين، وهو شأن معظم السلفيين يبخل عليهم بأنهم مسيحيون فيسمّيهم النصارى. أذكّره بآية "وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم"، فيردّ: "وأنا مالي بالقرآن؟". أمثاله يلزمهم علاج نفسي ينزع السموم الراسخة.
ربما تفيد واقعة اقتحام عمر لبيت، وضبْط أهله متلبّسين بالسُّكر، فواجه ربُّ البيت أميرَ المؤمنين: أتينا واحدة، وأتيت ثلاثًا: قال الله "وأتوا البيوت من أبوابها"، وأنت تسلّقت السور. وقال "لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها"، وأنت لم تسلم. وقال "ولا تجسّسوا"، وأنت تجسست. فانصرف عمر.
الحاكم الذي أراد أن يحوز سلطة دينية قضائية فرح بالصيد، ولكنه أمام الحجة اعترف بالخطأ، ولم يكابر، ورغب في "ستر" خطأ شخصي لا يؤذي أحداً. بهذا السلوك أرسى عمر بن الخطاب قاعدة مهمة في قانون الإجراءات الجنائية. قلتُ: القانون؟ نعم، وأتمنى ألا يطبق على المستضعفين وحدهم، كأنه ينتقيهم أحياناً، ويتجاهل المرضيّ عنهم؛ فيتمادون في انتهاك الدستور نفسه، في برامج فضائية فضائحية تُرهب المعارضين، بإذاعة تسريبات صوتية ومصورة، غير قانونية، لإخراسهم.
في غياب القانون أو تغييبه ينشط إرهاب مجتمعي وديني، وأخشى أن يكون صدى لخطاب رئاسي يحيل فيه السيسي حقّ محاسبته إلى الله وحده، يوم القيامة؛ خطاب والٍ على إمارة إسلامية.