جويس كرم:
قليلة هي اللحظات حين يختار فيها الساسة والزعماء القيم والاعتبارات الأخلاقية فوق المصالح الجيوسياسية والاستراتيجية، التي هيمنت على صنع السياسة الدولية منذ نشأة مفهوم الدولة.
من المتوقع أن يشهد يوم السبت 24 أبريل لحظة مماثلة، مع اختيار الرئيس الأميركي جو بايدن الطريق الأصعب والأكثر تعقيدا على واشنطن بالاعتراف بالمجازر التي حلت بالأرمن على يد السلطنة العثمانية وتركيا الحديثة بين 1915 و1923 بأنها إبادة جماعية. أميركا بذلك ستنضم بسلطاتها التنفيذية (البيت الأبيض) والتشريعية (الكونغرس الذي اعترف بالإبادة في 2019) إلى 29 دولة بينهم ألمانيا وفرنسا وروسيا والأرجنتين ولبنان وكندا والدنمارك.
كان أسهل على بايدن أن يحذو حذو أسلافه ويخرج ببيان يقول فيه يستنكر فيها "المجازر الوحشية" و"المأساة التاريخية" وأوصاف أخرى للالتفاف حول الحدث بعدم استخدام كلمة "إبادة جماعية"، وتجنبا من إثارة غيظ القيادة التركية. جورج بوش الأب وثم الابن، باراك أوباما ودونالد ترامب، كلهم رؤساء تعهدوا في حملاتهم باستخدام عبارة الإبادة الجماعية، قبل أن يعدلوا عن قرارهم بعد تولي الحكم بسبب الضغوط التركية.
بايدن سيغير هذا النهج يوم السبت في الذكرى الـ106 على المجازر، ببيان يصف القتل الممنهج لمليون ونصف من المدنيين الأرمن بالابادة الجماعية. القرار جاء من الرئيس ومستشاريه الأقرب رغم معارضة الخارجية وحذر وزارة الدفاع بسبب المخاوف من رد فعل عكسي على العلاقة التركية-الأميركية المتأرجحة أصلا.
الخوف في الخارجية هو من انعكاسات على الانسحاب الأميركي المرتقب من أفغانستان في 11 سبتمبر، وعلى التبادل التجاري وتعاون أنقرة كحليف في "الناتو" في ردع روسيا والصين، إنما مع ذلك اختار بايدن الاعتبارات الإنسانية.
عدم الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن كان أبسط على بايدن في محاولته كسر الجفاء مع تركيا، وتسهيل الخروج مع أفغانستان، إنما كان ليكرر النمط نفسه من التغافل في القضايا الإنسانية لحماية المصالح الجيوسياسية.
تاريخ السلطنة العثمانية من مذبحة المماليك إلى مجازر القسطنطينية وحلب وجدة ومذابح سيفو، حافل بمحطات سوداوية لا يمكن لدولة تركيا الحديثة أن تتخطاها من دون حتى الإقرار بوقوعها. لم تتخط ألمانيا ذكرى المحرقة النازية بنكرانها، ولم تتخط اليابان مجازر نانكينغ من دون الاعتراف بها والاعتذار عنها. المصالحات والتقدم في مجتمعنا الإنساني وفي الدول الراقية يبدأ لحظة الاعتراف والإقرار بالخطأ بدل معاقبة من هم في تركيا الحديثة في حال استخدام عبارة الابادة.
بايدن ليس دونالد ترامب ولا باراك أوباما، والرئيس التركي رجب طيب إردوغان بدأ يكتشف ذلك. هناك عودة لاعتبارات حقوق الإنسان في السياسة الخارجية الأميركية في هذه الإدارة من دون أن تكون المحرك الأساسي. هناك أيضا وضوح في قراءة المعطيات التاريخية وقوة أميركا. فالباب مفتوح أمام إردوغان وفلاديمير بوتين وشي جين بينغ للتعاون في قضايا حيوية من أفغانستان إلى النووي مرورا بالمناخ، من دون أن يعني ذلك أن واشنطن ستلتزم الصمت حول فظائع إنسانية وانتهاكات حصلت في هذا الأسبوع أو منذ أكثر من قرن.
اعتراف بايدن بالإبادة الجماعية الأرمنية هو متأخر، ولكن يرسخ منعطفا في السياسة الخارجية الأميركية التي ستستوعب المصالح الحيوية بين الدول من دون أن تتنازل عن القيم الإنسانية والحقائق التاريخية.