عادل نعمان:
لا أتصور أن أمة من الأمم استباحت من الدماء، وأزهقت من الأرواح ما استباحته هذه الأمة من دمائها، وأزهقته هذه الأمة من أرواح أنصارها وعشيرتها وأهلها، وما سمعت عن أصحاب عقيدة تفرض نفسها بالقتل والذبح والغزو بأكثر من القائمين على عقيدتنا، وما رأيت خلافا قاتلا بين الفرق بأشد من فرقنا ومذاهبنا وقبائلنا، وما سمعنا عن صحابة تقاتلوا على الحكم فى صفوف متراصة على نفس الصلاة وعلى ذات الدعاء كما قرأت عن صحابتنا وخلفائنا القدامى، وهذه أمة هى خير أمة أخرجت للناس! والحمد لله أنها لم تكن «خيار» الجن والشياطين، وإلا ضاقت علينا السماء كما ضاقت علينا الأرض بما رحبت، والكل القاتل والمقتول والمحرض والمعتزل والسايب والمربوط رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم أجمعين.
هذه مقدمة موجعة لابد منها، حتى يعرف القاصى والدانى أن الدين أمر وناقله وحامله ومبلغه وناسخه أمر آخر، وأن الدين من الله، وتسييره من البشر والمحدثين والرواة والقصاصين والوضاعين والمنافقين والوصوليين والسياسيين، وأن الله يريد للناس اليسر وهم باحثون عن العسر، وأن الله يريد الرحمة بعباده وهم تواقون للظلم، وأن الرسل جاءوا لهداية البشر بالحسنى والموعظة الحسنة وليس كما تناقلوها وسردوها وأسمعوها بالقتل والذبح، وإلا ما الفرق بين نبى وبغي وبين رسول وجائر؟
كل ما تجاوز الرحمة والعدل ليس من عند الله ولو اجتمعوا له، وكل ما خالف فطرة الإنسان ليس هديا حتى لو أقسموا عليه، وكل ما روج له مشايخ السلاطين والخلفاء كان لنصرة الخليفة وليس لنصرة الله، وكان لإقامة الملك وليس لإقامة الدين، وكان للثروة والعز والوجاهة وليس لوجه لله، والله هو الغني وهم الفقراء إليه، ولن يقرضوه من المال الحرام مهما بلغوا، ولن يتقربوا له بقرابين من بني البشر مهما طالوا، ولا يرضى الله إلا بالطيب ولا يرضى بالخبيث، فإذا رفع السيف اختفى الدين، وظهر قطاع الطرق والنهابون واختفى المؤمنون الصادقون. هذا حق لا خلاف عليه إن كنتم تعلمون.
فلما نقول أبعدوا الدين عن السياسة، فقد أصبنا الحقيقة والهدف، ورفعنا الدين مقامه السامي كما أراد له الله، وتركنا الحكم لأصحابه من السياسيين يبدلون ويغيرون ويتنازلون ويتلونون ويتلاعبون على قدر الممكن والمتاح والمطلوب، وليس على حساب الدين أو التلاعب في المعاني والألفاظ والتفاسير وتزييف التاريخ والروايات التي ترفع مقام الحكام وتنزل بمقام المعارضين والمنافسين، حتى وصل الأمر بالوضاعين السياسيين وضع أحاديث عن الرسول لم يتلفظ بها لخدمة أغراضهم والبقاء في السلطة والسيطرة على الرعية تحت غطاء ديني، يقتلون وينهبون ويغزون وياسرون ويتخلصون من المعارضين بقوة الشريعة والفتوى وأحكام الدين.
ولم يقف الأمر عند تزييف الحكام للدين فقط، بل وصل بالمعارضين إلى تحريف وتزوير وتزيين وتزييف وتبديل وتلفيق حقائقه، والافتئات والافتراء عليه سبيلا لتجميع المعارضين والناقمين والمظلومين تحت غطاء شرعى لسلب الحكم واقتناصه أيضا، واعتبروا هذا حقا لهم كما كان حقا لغيرهم، الجميع قد اتبعوا أسلوبا واحدا بغية الوصول للحكم، الحكام والخصوم، والظالم والمظلوم، وتاه ديننا الحنيف وتعليماته الإلهية بين المتقاتلين على الحكم، يزفون المقتول شهيدا إلى الجنة ويرفعون القاتل مقام سيف الله المسلول، تارة مع الحلفاء لتثبيت ملكهم وحكمهم وأخرى مع الخصوم للثورة عليهم ومطاردتهم والفتك بهم، ونبش قبورهم وصلب أمواتهم، تارة «تسمع للأمير وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك» وأخرى تسمعها «أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر».
أحد الصحابة عاتبوه ولاموه على تقاعسه عن الجهاد، ونصره إمامه على بن أبى طالب وإلا مات ميتة الجاهلية، شد رحاله وفرسه ورمحه وسيفه ووقف بين «صفين» هذا يكبر وذاك يكبر، هذا يصلى وذاك يصلى، وهذا يقرأ القرآن وذاك يختمه، هذا يدعو بالشر دعاءه بالخير، وذاك يدعو بالخير دعاءه بالشر، فعاد واعتزل ومات كما مات.
أكاد أجزم أن ديننا الحنيف بعيد كل البعد عن كل البناءات السياسية، وأن الصيغة والنسخة الأصلية للدين تخالف الشائع والمطروح والمتداول بين هؤلاء، وأن السياسة قد صاغت وبدلت ونسخت وأولت وأعادت صياغة وغيرت فى مفاهيم كثيرة، خدمة لرجال الحكم، وأن كل خليفة وحاكم قد جاءنا بنساخه وقصاصه ورواته يبدلون فى التاريخ كما يرى حتى يكون تاريخه أعظم تاريخ وقبيلته أعظم الأشراف، ويوم ينتصر الخصوم يبدلون ويغيرون ويزيفون ويدلسون لهم، وعلى ما كان قبلهم، تاريخنا مصطنع ومفتعل ومنحول ومكذوب ومغشوش، وديننا الحنيف الأصيل المؤكد الصادق حبيس أدراج الرواة والكذابين والمستفيدين والسياسيين.
adelnoman52@yahoo.com
"المصري اليوم"