وليد فكري:
"المساس بالمقدسات" ليست تهمة مستحدثة، وبغض النظر عن المواقف المتباينة من هذه التهمة، فإن التاريخ الإسلامي نفسه، يحوي الكثير من النماذج المختلفة لأقوال صُنِفَت حينذاك تطاولاً على المقدسات الدينية.
أبو محجن والتغزل بالخمر
أثناء حروب المسلمين في بلاد فارس والعراق (فتوحات فارس)، كان بين جند المسلمين رجل من ثقيف اسمه "أبو محجن". تقول الرواية، التي يشكك البعض بها، إنه كان مدمناً على شرب الخمر قبل إسلامه. وإن كان اعتناقه الإسلام جعله يقلع عن ذلك، لكنه لم ينقطع عن قول الشعر في مدحها، فكان ينسب له القول: "إذا مِتُ فادفنوني إلى جنب كرمة.. تروي عظامي بعد موتي عروقها.. ولا تدفنوني في الفلاة فإنني.. أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها". فغضب عليه سعد بن أبي وقاص، قائد الجيش، وأمر بحبسه لتغزله في ما يحرم الدين، فحُبِسَ في مبنى كان سعد يتخذه مركزاً لقيادة العمليات العسكرية ومسكناً له. وأثناء إحدى المعارك، سمعت زوجة سعد أبو محجن يقول شعراً يشكو فيه من عدم قدرته على المشاركة في القتال، وسألته عن حاله، فلما قص عليها ما جرى طلب منها أن تطلقه سراً ليقاتل ثم يعود بعد القتال إلى الحبس. نفذت طلبه وأعطته أحد خيول زوجها، فخرج وقاتل، وحين لمحه سعد من بعيد وهو يقاتل بضراوة قال: "كأنه أبو محجن". وعندما قصت عليه زوجته ما جرى بعد المعركة، أطلقه وعفا عنه، وقال له: "لا أعاقبك على قول في شيء لم تفعله"، فوعده أبو محجن ألا يقول الشعر في أي محرم مرة أخرى.
شعر يزيد بن معاوية
برغم الصورة المأخوذة عنه كطاغية سفّاح، فإن الجانب الشخصي من يزيد كان عاطفياً، الأمر الذي يبدو في شعره. قياساً بقرب عهده بفترة البناء الأولى للدولة وما يسودها عادة من شدة في الدين، فإن بعض شعر يزيد يعتبر شديد الجرأة، حتى بالنسبة إلى عصور تالية كان المسلمون فيها أكثر تخففاً وتبسطاً. ففي قصيدته "أراك طروباً"، التي يعرفها البعض بـ"أصابك عشق"، يقول في حبيبته: "أشارت برمش العين خيفة أهلها.. إشارة محسود ولم تتكلم فأيقنت أن الطرف قال مرحبا.. وأهلاً وسهلاً بالحبيب المتيم فوسدتها زندي وقبلت ثغرها.. فكانت حلالاً لي ولو كنت محرم فوالله لولا اللهِ والخوفِ والرجا.. لعانقتُها بين الحطيمِ وزمزمِ وقبلتها تسعاً وتسعون قبلة.. مفرقة بالخد والكف والفم وقد حرم الله الزنا في كِتابهِ ..وما حرم القُبلات بالخد والفمِ ولو حُرِّم التقبيل على دين أحمد.. لقبلتها على دين المسيح ابن مريم". علماً أن الخليفة قائل هذه الأبيات كان يتحدث عن لقاءه بحبيبته في مكة أثناء موسم الحج.
الحجاج بن يوسف، تهديد الصحابة وسب الأنبياء
أما الحجاج بن يوسف الثقفي، فقد كانت جرأته في القول توازي جرأته لدى القتل والتعذيب. وفي يوم كان يخطب على منبر مسجد في "واسط" في العراق، قال عن الصحابي عبدالله بن مسعود إنه "رأس المنافقين"، وأضاف: "لو أدركته"، أي لو كان حياً ورأيته، "لسقيت الأرض من دمه". وفي واقعة أخرى كان يقرأ على المنبر آية تذكر قول النبي سليمان: "وهَب لي مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعدي"، قال معلقاً: "والله إن سليمان كان حسوداً". يذكر أن الحجاج قبل دخوله في عالم السياسة والحكم كان معلماً للقرآن.
الوليد بن يزيد، الخليفة الزنديق
هو الوليد بن يزيد بن عبدالملك بن مروان. كان صغيراً حين توفي والده، فتولى عمه، هشام بن عبدالملك، الخلافة ثم تولاها هو بعد وفاة العم. يعتبر من أكثر خلفاء بني أمية إثارة للجدل، فهو أول من يُقتَل منهم بشكل صريح ومباشر وعلني، والذين ثاروا عليه وأعلنوا خلعه ثم قتلوه ومثلوا به، هم أهل بيته أنفسهم، وثالثًا كان قتله بداية الشقاق بين أبناء البيت الأموي، وبداية صراع داخلي انتهى بسقوط الدولة. أكثر المصادر التاريخية تصفه بالمجون والزندقة والدموية، بينما قلة منها تنفي عنه تلك التهم وتفسرها بأنها من الدعاية المضادة له من قِبَل أقاربه الذين ثاروا عليه. مما قيل عنه إنه كان مرة في زيارة لمكة، خلال خلافة عمه، وحين نظر إلى الكعبة، قال لمن حوله إنه يريد أن يصعد فوقها ويتخذ على سطحها مجلساً للخمر. وكان عمه الخليفة ينهاه عن سلوكه هذا، حتى لامه في رسالة له قائلاً: "ويحك! والله ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا؟". وكان ابن عمه المعروف بـ"أبي شاكر" نديماً له في شرب الخمر، فراسل الوليد عمه قائلاً: "يا أيها السائل عن ديننا.. نحن على دين أبي شاكر.. نشربها صرفاً وممزوجةً.. بالسخن أحياناً وبالفاتر". ويروى عنه أنه أعجب بفتاة مسيحية فتنكر وتسلل إلى الكنيسة في العيد ليلقاها، وقال: "ألا حبذا سفري وإن قيل أنني.. كلفت بنصرانية تشرب الخمرا.. يهون علينا أن نظل نهارنا.. إلى الليل لا نصلي ظهراً ولا عصراً". أما أكثر موقف صادم ينسب له، فهو أنه فتح يوماً المصحف بشكل عشوائي، ووجد أمامه آية "واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد"، فألقى المصحف وأطلق عليه سهامه وقال: "تهددني بجبار عنيد.. فها أنا ذاك جبار عنيد.. إذا ما جئت ربك يوم حشرٍ.. فقل يا رب مزقني الوليد". وقد زاد المؤرخون في شأنه أن نسبوا لعمر بن الخطاب قولًا هو أنه يأتي على الأمة رجل يملكها اسمه الوليد أشد فساداً من فرعون.
ابن هانىء تطاول على الذات الإلهية لنفاق الخليفة
هو شاعر أندلسي كان البعض يلقبه بـ"متنبي الغرب" لقوة شعره. أراد ذات مرة أن يتقرب إلى الخليفة الفاطمي المعزلدين الله فأنشد قصيدة مدح تبدأ بـ"ما شئت لا ما شاءت الأقدار.. أحكم فأنت الواحد القهار.. وكأنما أنت النبي محمد.. وكأنما أنصارك الأنصار"، فكافأه وقربه. لاحقاً حاول أحد شعراء الأندلس أن يكرر فعلة ابن هانىء، فأنشد تلك القصيدة في حضرة الحاجب والحاكم الأندلسي الشهير "المنصور بن أبي عامر"، فغضب المنصور وأمر بجلده 500 جلدة وطرده من الأندلس.
الأفشين، قائد جيش الخليفة يلقب بالإله
كان المسلمون شديدو الحساسية حيال بعض الألقاب الأعجمية، وأشهرها "شاهنشاه"، أي "ملك الملوك"، باعتبار أن الله هو ملك الملوك وبالتالي فاللقب لا يجوز لبشر، فما بالنا بالألقاب "الإلهية" الصريحة. لهذا لم يكن من المستغرب أن ينقلب الخليفة العبّاسي المعتصم بالله على قائده "الأفشين"، الفارسي الأصل، الذي كان في البداية مجوسياً ثم اعتنق الإسلام واندرج في خدمة الدولة وقدم لها خدمات عسكرية جليلة. وحاكمه بتهمة الزندقة لعدة أفعال نُسِبَت له منها العثور على رسائل في حوزته من أهل بلده الأم يقولون له فيها: "إلى إله الآلهة من عبيده". ففسر ذلك أنها مجرد ديباجة معتادة في رسائل أهل هذا البلد لنبلائها، وكان منحدراً من أسرة حاكمة في تلك المنطقة، ولم يطلب منهم تغيير تلك الصيغة في مخاطبته كيلا تهتز هيبته بتغييره تقليداً راسخاً لديهم. تبرير الأفشين لم يكن مقنعاً لقضاة محكمته، خصوصاً أن تفتيش منزله أدى إلى العثور على كتب مصنفة آنذاك بـ"الوثنية". أيضاً أظهر كشف جسد الأفشين أنه لم يكن مختوناً، ما أكد في أذهان القضاة أنه "زنديق يدعي الإسلام"، وبالتالي حكموا عليه بإعدامه. كان للتحقيق في أمر الأفشين ومحاكمته أسباب "سياسية بحتة" مرتبطة بشك الخليفة في ولائه، إلا أن تقبله لقب "إله الآلهة" في المراسلات، كان بمثابة "هدية" لخصومه، الذين أرادوا التخلص منه.
الخطيب يعرّض بالرسول مجاملة للملك
الشيخ أحمد شاكر (1892-1952)، هو أحد أشهر القضاة وعلماء الحديث الأزهريين وأحد قادة الأزهرية خلال ثورة 1919. ويروى أنه كان حاضراً في إحدى خطب الجمعة بالتزامن مع حفل أقامه الملك فاروق تكريماً لطه حسين بعد عودته من بعثة الدكتوراه في فرنسا، فأراد الخطيب مدح الملك بعد الصلاة، فقال: "ما عبس وما تولى إذ جاءه الأعمى". فقام الشيخ شاكر صائحاً في المصلين: "أعيدوا صلاتكم فإن الإمام قد كفر" باعتبار أنه عرّض بالرسول محمد الذي نزل القرآن يقول "عبس وتولى إذ جاءه الأعمى"، في موقفه من عبدالله بن أم مكتوم الأعمى، الذي جاءه أثناء اجتماعه ببعض سادات مكة. ورفع الشيخ أحمد شاكر قضية ضد الخطيب لكنه تنازل عنها لاحقاً. يلاحظ في شأن "التطاول اللفظي على المقدسات" أن التعامل معه كان غالباً يتأثر بمدى ارتباطه بالسياسة، وما إذا كان الأنفع هو التغاضي عنه أو التشدد في العقاب. وهذا ما يُلاحظ استمراره حتى الآن كجزء من الطبيعة البشرية، في ربط تمرير الأخطاء من عدمه بمعايير المكسب والخسارة.
رصيف 22