بابكر فيصل:
من الخصائص الأساسية للأيدولوجيا أنها تزود من يعتنقها بقناع يحجب عنه رؤية الحقيقة المجردة كما هي، ويخلق له واقعا بديلا (خياليا) يعيش فيه وذلك عبر إعمال خطاب يشتمل على أدوات عديدة لحجب الحقيقة وإحلال الصور المرغوب فيها، وتمثل حياكة الأسطورة إحدى تلك الأدوات المستخدمة في تزييف الواقع.
وتمثل صناعة الأسطورة حول القائد الملهم والزعيم الخالد أحد المحاور المهمة التي تشتغل عليها دعاية الأيدولوجيا في تزييف الحقيقة المرتبطة به، حيث يتم نسج القصص الخيالية التي تظهر بطولاته وتمجد أعماله وتمنحه قدرات خارقة من شأنها أن تجعله الهدف الرئيسي للأعداء الذين تغدو غايتهم الوحيدة هي التخطيط على نحو جنوني للتخلص منه.
في هذا الإطار درجت جماعة الإخوان المسلمين على صنع أسطورتها الخاصة برموزها القيادية وذلك عبر الترويج لقصص ساذجة لا تخضع لأبسط قواعد التمحيص العقلاني والتدقيق المنطقي، والعمل على تمريرها وكأنها حقائق لا يغشاها الباطل، ومن بين تلك الأساطير المقدسة محاولة الإعلاء من شأن المرشد المؤسس حسن البنا وتصوير عملية اغتياله وكأنها مؤامرة كونية استهدفت أهم شخصية في العالم الإسلامي.
بعد انضمامه لجماعة الإخوان المسلمين كتب الأستاذ سيد قطب بمجلة الرسالة في فبراير 1953 مقالا عن حسن البنا بعنوان "عدالة الأرض وحسن البنا"، ذكر فيه أنه (أي سيد قطب) كان في المستشفى بأميركا حين جرى اغتيال البنا في فبراير 1949، ووجد الممرضات والأطباء يتبادلون التهنئة ويُقبلون بعضهم فرحا، ولما سألهم عن السبب أجابوه أن رجلا في مصر اسمه حسن البنا يمثل خطرا محدقا على أميركا وعلى الغرب كله، وهم يعتبرونه عدوا، قد تم اغتياله!
القصة التي رواها قطب أعلاه أضحت حقيقة لا يطالها الشك حيث عملت آلة الإعلام الإخوانية على نشرها وإذاعتها ليس في دوائر الجماعة وبين عضويتها فحسب بل على مستوى الشارع العربي والإسلامي، وأصبحت تتردد على ألسنة قادة الجماعة الكبار من المتعلمين، فضلا عن قواعدها من البسطاء الذين يمكن أن يقعوا بسهولة في فخ الدعاية المضللة.
وعلى الرغم من أن راوي القصة، سيد قطب، لم يحشد أية أدلة على صدق روايته، بل اكتفى بسردها معتمدا على ثقله الفكري فحسب، فإنها انتشرت مثل النار في الهشيم وباتت من المسلمات التي لا يمكن التشكيك فيها حتى ظهرت مؤخرا وثيقة تاريخية تبين أن القصة غير حقيقية وأنها من صنع الخيال.
قام الباحث المصري، حلمي النمنم، بنشر الوثائق الرسمية المتعلقة ببعثة الأستاذ سيد قطب لأميركا، ومن بينها تقريرا باللغة الإنكليزية طويلا نسبيا أعده مدير البعثة التعليمية المصرية بواشنطن في ذلك الوقت السيد أحمد نجيب هاشم بعد زيارته للكلية التي يدرس بها سيد قطب في ولاية كولورادوا.
المعلومة المؤكدة الواردة في تقرير نجيب هاشم والتي تنفي القصة المذكورة حول وفاة البنا هي أن سيد قطب لم يكن بالمستشفى عندما تم اغتيال المرشد المؤسس في فبراير 1949، وأنه دخل للمستشفى في شهر مارس، ولأهمية المعلومة أنقل أدناه الفقرة الخاصة بتاريخ دخول قطب للمستشفى، كما وردت في النسخة الأصلية باللغة الإنكليزية:
In March and April 1949 Ustaz Kotb complained of ill health and he had to enter the hospital for a general checkup, as well as for tonsillectomy. The operation was a success. Early in May, he was able to resume his studies and for these he left for Colorado State College of Education at Greely, Colorado.
من الواضح أن قطب اشتكى من اعتلال في صحته ودخل المستشفى في مارس 1949 لإجراء فحص طبي شامل، وقد أجريت له عملية ناجحة لاستئصال اللوزتين، فلماذا إذن قام بنشر قصة كاذبة عن وجوده بالمستشفى أثناء عملية اغتيال البنا في فبراير؟
يحاول النمنم استنتاج السبب بالقول: "هل نحن أمام حماس كاتب وخياله أم أننا أمام رجل يكذب لترسيخ أسطورة يريد أن يدعم وجودها، ترى هل سيد هنا، يريد أن يقدم للجماعة أوراق اعتماده علنا أمام الجميع؟".
يعتقد كاتب هذه السطور أن غرض قطب من حياكة هذه القصة الخيالية كان ترسيخ أسطورة المرشد كشهيد لمؤامرة كونية استهدفت الإسلام في شخصه ذلك لأنه يمثل في نظره التجسيد الأكمل للداعية الذي أراد إحياء الدين لمواجهة أعداءه (الغربيين خصوصا)، وهي حبكة أيدولوجية تساعد على تماسك وقوة واستمرار خطاب الجماعة، وليس أدل على ذلك من أن ذات الرواية تواصلت ليكون قطب نفسه بطلها الجديد بدلا عن البنا.
في 28 أغسطس 2016 كتب الناشط الإخواني أحمد مطر (يُعرِّف نفسه برئيس المركز العربي للدراسات الاقتصادية ونائب رئيس المنتدى الدولي للأعمال) في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) القصة التالية بمناسبة مرور 60 عاما على إعدام سيد قطب:
"في مثل هذا اليوم من 50 عاما، فوجئ المهندس التركي نجم الدين أربكان باحتفالات في ألمانيا، سأل عن سببها، فأجابوه تم اليوم إعدام إرهابي في مصر اسمه سيد قطب، فسأل عن كتبه وأحضرها جميعا وقرأها، فاقتنع بالفكر وتبنى الفكرة، وكانت بداية ولادة الحركة الإسلامية في تركيا، وأصبح تلاميذه رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان والحزب الحاكم".
وهكذا تستمر صناعة الأسطورة بذات المحتوى مع اختلاف الأشخاص
الحرة