رشيد الخيّون:
كانت الفلسفة نقمة على أصحابها، في أكثر القرون، شرقاً وغرباً. يتهم قارئ الفلسفة بالزَّندقة، وتُحصى عليه الأنفاس، فكيف بالفيلسوف! إن زل في شبهة دينية رُجم أو أحرق مِن قِبل عامة النَّاس، أو تقتله السُّلطة تقرباً لقلوب هؤلاء، وكثيراً ما تُحرق كُتب أصحاب الفلسفة (المقري، نفح الطِّيب).
حتى إلى فترة قريبة كان العديد مِن الدول تمنع تدريس الفلسفة، خصوصاً أوان فورة «الصَّحوة» الدِّينيَّة، وإن سمحت بها فلتكريس ضلال الفلاسفة. ظلت الفلسفة ملعونةً، مع أنها كسائر العلوم، تبحث في قضايا الوجود، وترد على تساؤلات الإنسان عنها، ولأنها تتطلب النَّظر حرمها الفقهاء، وكفروا مَن طالعَ كتبها، وإنْ كان مِن باب الفضول، وقصة الفقيه ابن عقيل الحنبلي(ت:513هجرية) معروفة(ابن الجوزي، المنتظم). كذلك الحال مع ابن رشد(ت: 595 هجريَّة)، سُجن بسبب الفلسفة واضطر إلى جحد ما كتبه(نفح الطَّيب).
استخدمت عناوين بليغة لإقصاء الفلسفة وشيطنة الفلاسفة، ويأتي كتابا أبي حامد الغزالي(ت: 505هجريَّة): «مقاصد الفلاسفة» و«تهافت الفلاسفة» بالمقدمة منها، ففي الأخير وصمهم بالغباء والحُمق، وهو القائل في تصنيفه: «فلما رأيت هذا العِرق مِن الحماقة نابضاً على هؤلاء الأغبياء، انتدبتً لتحرير هذا الكتاب».
لكن ما لا يخطر على البال أن يُصنف فيهم كتاب عنوانه «مصارعة الفلاسفة»، لمحمد بن عبد الكريم الشَّهرستاني(ت: 548هـ)، وللعناوين دلالتها، فـ«التَّهافت» يعني ضعفَ الخصم وخيبته، بينما تعني «المصارعة» قوته. فإذا أشار الغزالي إلى الفلاسفة بالحمقى، اعترف لهم الشَّهرستاني بالعقل والحِجة، موجهاً جدله مع مقالات أحد الكبار فيهم، وهو ابن سينا(ت: 428هجريَّة). فقال معترفاً: «المبرز في علوم الحِكمة، وعلامة الدَّهر في الفلسفة... ولا يلحقه لاحق وإن ركض الجواد»(مصارعة الفلاسفة).
كان مصنفا التَّهافت والمصارعة إمامين في مذهبهما الشَّافعي وعقيدتهما الأشعريَّة، والاثنان درسا في المدرسة النظامية، وكان مِن تقليدها لا تقبل مدرساً إلا أن يكون شافعياً وأشعريَّاً. حاز الأول لقب «حجة الإسلام»، والثَّاني عُرف ب«طراز الشّريعة». استخف الغزالي، في تهافته، بخصمه واستضعفه، بينما عظمه الشَّهرستاني: «فأردتُ أن أصارعه مصارعة الأبطال، وأنازله منازلة الرجال». لم يسرع إلى التكفير والتفسيق، «وشرطت على نفسي إلا أفاوضه بغير صنعته».
قيض للغزالي أنّ يرد عليه ابنَ رشد، بعد أكثر مِن مائة عام، في «تهافت التَّهافت»، كما قُيض للشهرستاني نصير الدين الطّوسي(ت: 672هجريَّة) يرد عليه بعد الفترة نفسها، في «مصارع المصارع»، طُبع الكتاب ملحقاً بـ «مصارعة الفلاسفة». كَفَر الغزالي الفلاسفة، وبعدها كُفْر وأُحرق كتابه «إحياء علوم الدِّين»، وأُحرقت كتب ابن رُشد، وقبلهما أُحرقت كُتب ابن سينا وعدّ مِن الزَّنادقة بعد وفاته. إنه تاريخ مِن «المصارعة» و«التَّهافت» بين الفلاسفة والفقهاء، لم ينجُ منها أحد، لكنّ لا الفقه ألغى الفلسفة، ولا الفلسفة ألغت الفقه، كلُّ علمٍ له مريدوه، مهما شبت النيران في الكتب وحولتها إلى رماد. وهذا الفقيه الظَّاهريّ ابن حزم(ت: 456هجريَّة)، قال عندما حُرقت كتبه بأشبيليَّة: «إن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي/ تضمنه القرطاس بل هو في صدري»(ابن الخطيب، الإحاطة). لقد طالت تهمة التفلسف الفقهاء أنفسهم، لرأي أو لقراءة كتاب(عيدان، شؤم الفلسفة).
أقول: تعني الفلسفة حُبَّ الحِكمة والنَّظر واستيعاب التَّقدم العلمي، وإقصاؤها مِن التعليم والثَّقافة، يعني الحِرمان مِن أغنى مناهل المعرفة الإنسانيَّة، على الرَّغم مِن تاريخ العداء بينها وبين الفقه.