عمران سلمان:
في أزمة الرسوم الكاريكاتورية، وفي غيرها من الأزمات المشابهة، وحيثما تعلق الأمر بالعلاقة بين حرية التعبير وبين انتقاد الأديان أو معاداتها، يمكن للإنسان أن يلاحظ بوضوح الاختلاف العميق في التعاطي وفي ردة الفعل بين المجتمعات الغربية والمجتمعات المسلمة. وهو اختلاف يجد الكثير من مواطني المجتمعات الأخيرة بالذات صعوبة في فهمه أو تبريره.
ولو كان الأمر محصورا في الموقف من الإسلام وحده، لكان مفهوما، لكن المجتمعات الغربية تتساوى في مواقفها تقريبا من جميع الأديان والاعتقادات. فهي تسمح بالانتقاد وتعتبره حرية تعبير، مهما بولغ في ذلك. غير أنها في الوقت نفسه لا تتسامح مع الإساءة للبشر المعاصرين المنتسبين لهذا الدين أو ذاك. فالانتقاد هو من نصيب العقائد والأفكار أما البشر فهم محميون بقوة القانون.
في المقابل تفعل المجتمعات المسلمة العكس، فهي قد تتسامح مع الضرر الواقع على الأشخاص المؤمنين بهذا المعتقد أو ذاك، لكنها تبدي حساسية مفرطة تجاه المساس بالمعتقدات أو المقدسات. وبالنسبة لها لا توجد حرية تعبير أو اعتقاد حينما يتعلق الأمر بالدين.
لذلك يشيع استخدام مصطلحات مثل ازدراء الأديان أو المساس بالذات الإلهية وما شابه.
وقد يخيل للإنسان أن السبب في ذلك يعود إلى أن المجتمعات المسلمة أكثر تدينا أو أكثر تمسكا وإخلاصا للدين ومنافحة عنه من المجتمعات الغربية، لكن الواقع ليس على هذا النحو.
الحقيقة أن الأمر لا علاقة له بقوة الإيمان أو ضعفه، ولكن له علاقة بترتيب منظومة القيم والأولويات في المجتمع، وما إذا كان مصدرها دينيا أم مدنيا.
في العصور القديمة لم يكن ثمة فروق أو حدود واضحة بين الإنسان ككيان وبين ما يؤمن به أو ينتمي إليه، ولم تكن ثمة نتائج قانونية أو سياسية تترتب على التفريق في ذلك.
فانتماء الإنسان الديني مثلا كان يحدد موقعه وعلاقته بالدولة، التي كانت بدورها مؤسسة على فكرة الدين، أو المعتقد، ومنهما تستمد شرعيتها وتعريفها.
والانتماء، مثل عدم الانتماء، لم يكونا أمرين اختياريين، وإنما لهما وظيفتان محددتان من قبل المجتمع وكذلك المؤسسات النافذة فيه.
ولهذا السبب لم يكن ممكنا بالنسبة للأشخاص أن يروا في أنفسهم ذواتا منفصلة أو مستقلة عن الدين أو أن يروا في وجودهم قيمة بمعزل عن الانتماء الديني.
من هنا جاءت فكرة التماهي بين مصير الدين ومصير الإنسان، وأصبح انتقاد الدين أو المعتقدات ينظر له على أنه انتقاد للإنسان.
الحضارة الحديثة في المقابل طورت مفهوما مختلفا للعلاقة بين الإنسان ومعتقداته، بحيث بات ممكنا التمييز بين الاثنين. وهذا المفهوم يجد جذوره في فكرة المواطنة. فالمواطن أو الفرد (وليس المؤمن أو غير المؤمن) هو مناط التكليف في المجتمع المكون بدوره من مواطنين وأفراد ينتظمون في عقد اجتماعي مع الدولة، يتنازلون بموجبه لها عن جزء من حريتهم في مقابل توفير الحماية لهم.
وهذا العقد يعامل الإنسان بصفته الفردية وكونه مسؤولا عن نفسه مسؤولية كاملة من الناحية القانونية، الأمر الذي يبعد عنه الحاجة إلى اثبات الهوية الدينية أو غيرها من الهويات، كشرط للانتماء إلى الدولة.
لذلك فإن المواطنين اليوم في الدولة الحديثة هم في الحقيقة ليسوا مسلمين، أو مسيحيين، أو يهودا، أو ملحدين، أو غير ذلك، هم مجرد مواطنين. الانضواء في الدولة لا يتطلب أكثر من الموافقة على العقد الاجتماعي، واحترام القوانين والتشريعات النافدة فيها.
من هنا فإن الدولة الحديثة ميزت بين الإنسان وبين أفكاره ومعتقداته. فهي جعلت من الإنسان القيمة الأساسية، واعتبرت الأفكار والمعتقدات امتدادا للإنسان وليست قيمة منفصلة قائمة بذاتها.
وما دام الأمر كذلك فإنه لا يمكن إخضاع الإنسان للعقاب بسبب انتقاده لهذه المعتقدات أو الأفكار، فذلك يدخل في إطار حرية التعبير. كما لا يمكن الأخذ بالمزاعم التي تساوي بين انتقاد المعتقدات وانتقاد الإنسان، لأن الإنسان في نظر القانون والتشريعات مقدم على المعتقدات.
بل أنها لم تقف عند حد تجريم الأفعال المادية والمباشرة التي تمس بسلامة الإنسان، وإنما جرمت أيضا الأقوال أو الآراء التي تتخذ طابعا تحريضيا، والتي من الممكن أن تؤدي بوضوح إلى إيقاع الأذى بالإنسان.
على سبيل المثال، تجرم القوانين في الدول الغربية التشكيك في الهولوكوست مثلا أو معاداة السامية، وبالنسبة للكثير من المسلمين (وبعض غير المسلمين) فإن هذا الأمر ليس مفهوما، فهم يقولون إن الغربيين يتسامحون مع كل شيء، ولكن حين يصلون إلى هذه المسألة يجفلون وترتعد فرائصهم! فهل هم منافقون مثلا أم خائفون أم مبتزون؟
والجواب هو ليس هذا أو ذاك. الأمر ببساطة أن التشكيك في الهولوكوست لا يتعلق بفكرة أو اعتقاد أو دين، إنه يتعلق بملايين الضحايا من المواطنين اليهود الذي لقوا حتفهم على أيدي النازيين، وحين يشكك أحدهم في هذا الأمر فهو ببساطة يسيء للضحايا وللناجين منهم ويعفي الجناة من جريمتهم.
أيضا ثبت بالدليل الملموس أن معاداة السامية أو الشعارات المشابهة تتحول في الكثير من الأحيان إلى أعمال عنف وإيذاء بحق اليهود ومجتمعاتهم.
أما الدين اليهودي نفسه، فهو مثل غيره من الأديان يتعرض للانتقاد والسخرية في المجتمعات الغربية، وليست له حصانة من الناحية القانونية.
والحال أنه في الوقت الذي وضعت فيه الدولة المدنية الحديثة في صلب اهتمامها منع ازدراء الإنسان، لا يزال اهتمام الدولة الدينية منصبا على منع ازدراء الأديان، والنتيجة واضحة في الاتجاهين!