حسن سنديان:
"من هو هذا الغبي الذي حرر الخبر؟"، بهذه الكلمات الغاضبة علّق مدير القسم العربي في وكالة تسنيم الدولية للأنباء، حول سياسة الخبر الذي حررته آنذاك، في مكتب سوريا، عن طالبان، وبدء المفاوضات مع الحكومة الأفغانية عام 2018. كان المقال يسرد تفاصيل الحركة المتطرفة، وإفرازها للجهاد من النصرة، وغيرها من الحركات الإسلامية المتشددة التي قاتلت في سوريا والعراق.
بدأت الاتصالات عبر "السكايب" تنهال من إيران، وتكلم آنذاك مدير القسم العربي، وقال لي: "ما فعلته غباء، لا نريد ضرب حركة طالبان، أو استهدافها"، مضيفاً: "احذف الخبر الآن، هذه ليست سياستنا". لوهلة، ظننت أن الخبر تعدى حدود المحظور في إيران، وربما تم فهم السياسة الإيرانية، أي "الثورة"، بطريقة خطأ مني.
أردت أن أعرف ما هو خطئي، ولماذا هذا التوبيخ من مدير القسم العربي؟ "ما هو خطئي؟ فطالبان متطرفة عموماً، ومن البديهي مكافحتها دولياً، فهي كداعش، بغض النظر عن الاختلاف الفقهي بينهما". ارتفع صوت مدير القسم العربي، ولكن هذه المرة ظهرت على لغته العربية اللكنة الفارسية، قائلاً: "افهم... نحن وطالبان نتفق في السياسية والتوجه، ثمة تراتبية دينية بيننا، وغيرها من السياسيات". هنا أردت أن أسأل سؤالاً واحداً كي أنهي الحديث: "كيف ذلك؟ يعني تقصد القول إن ولاية الفقيه، والتدين في إيران، تماماً مثل "مبايعة الأمير" في طالبان؟" يجيب: "نعم على غرار ذلك. ولكن تختلف القضية. عندما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران أتعلم على ماذا قامت؟ أتعلم كيف قامت؟ قامت على الشريعة الإسلامية، وفي حال ألقى الحرس الثوري القبض على أحد المستمعين للأغاني، كانوا يجلدونه آنذاك على طول شريط الكاسيت الذي بحوزته".
بكل بساطة، كان هذا الحديث، بالنسبة إلي، دليلاً كافياً على وجه الشبه بين تراتبية أمير المؤمنين في طالبان من جهة، والمرشد الأعلى في إيران علي الخامنئي من جهة أخرى، من حيث السلطة، والحكم الديني، والولاء، ليتضح اليوم مصير العلاقة بين طالبان وإيران، بعد غموض دام سنواتٍ كثيرة، تخللته خلافات ظهرت في الإعلام، إذ تتهم طالبان إيران بتصدير الفكر الشيعي إلى داخل الحركة، بينما ترى إيران أن الحركة تهدد الأقلية الشيعية في أفغانستان.
ولاية الفقيه والإمارة الإسلامية
في الحسينيات الشيعية، كان الشيوخ يطلبون منا اتّباع "إمام زماننا"، ويرددون قول: "من مات ولم يعرف إمام زمانه، مات ميتة الجاهلية". أردت تفسير هذا القول، لأنه كان بالنسبة إلي غامضاً. وكنت أعتقد أنني سأموت من دون أن يعلم بي أحد، وستنبذني طائفتي. سألت أحد الشيوخ، فلخص باختصار: "يجب أن تتّبع أحد العلماء في عصرنا الحالي"، ونصحني بالخامنئي "ولي الفقيه"، إمام زماننا الحالي. بدت الصور تتضح اليوم أكثر فأكثر. في أغلب الحسينيات، كان حديث رجال الدين من ولاية الفقيه، عن العدو الأكبر أمريكا، و"داعش"، والنصرة، وإسرائيل، ولكن لم أسمع في يوم من الأيام عن العدو طالبان، الذي يفرز نظاماً يشبه ولاية الفقيه في إيران، ولكن باستخدام مصطلح أمير المؤمنين، أي في يومنا هذا ولاية فقيه، لكن سنية.
طالبان التي لطالما كتمت سرها إيران، في طائفتنا "الشيعة"، تشبه نظام ولي الفقيه فيها، الذي يقوم على هرم السلطة، حيث "المرشد" له الصلاحيات التامة. يقابله اليوم في طالبان، الملا هيبة الله أخوند زاده. ونظام مجلس الشورى، وصيانة الدستور الإيراني، يشبه التراتبية في طالبان، من حيث مركز الشورى المركزي، في اتخاذ القرار حين تشكَّل حكومة طالبان.
هذا الشيخ الذي شرح لي مبدأ ولاية الفقيه، ومبايعة الخامنئي، دعاني لأحضر بعض دروس الفقه في طائفتنا، والعلاقة بين الولاية والمهدوية، التي تعطي الإذن لولي الفقيه بتولي زمام أمور الأمة، نيابةً عن المهدي في زمن الغيبة، ومنحه صلاحيات كان يمتلكها النبي محمد، والمهدي، في تأسيس الدولة، وتولي إدارتها، مع الامتداد في الولاية إلى خارج إيران. الأمر المشابه لطالبان في إقامة إمارة إسلامية، ولكن على المذهب الحنفي. لوهلة سألت نفسي: هل أنا متطرف شيعي؟
شريط الكاسيت وسقوط كابل
الانسحاب الأمريكي بوتيرة متسارعة من أفغانستان، فاجأ الجميع، على غرار ما حدث مع الخميني عام 1979، ليصل إلى طهران بطائرة فرنسية تقله من منفاه في باريس في "نوفل لو شاتو". خطوة صدمت الجميع آنذاك، إذ كانت البلاد تشهد فوضى واحتجاجات، بسبب شرائط الكاسيت التي كان يرسلها الخميني من منفاه في باريس، وتضمنت خطباً دينية عن "الصحوة الإسلامية"، التي أطاحت بحكم الشاه بهلوي، بعد مغادرته البلاد بذريعة طلب العلاج، في مشهد مشابه لما حصل مع الرئيس الأفغاني أشرف غني، مفاجئاً الجميع بهروبه قبل سيطرة طالبان على البلاد بكاملها.
يرى العالم اليوم، في أفغانستان، مشهداً مشابهاً لما حصل في إيران عام 1979، حين وصل الخميني إلى طهران، ببزوغ نجم هيبة الله أخوند زاده، الأمير الجديد لطالبان، بعد 27 عاماً مرت على نشأة الحركة المتطرفة، التي انطلقت من المدارس الدينية، ومبايعة الأمير، وسقوط الجيش الأفغاني، بدخول الحركة إلى العاصمة كابل بوجهها اللطيف، وتوزيع الضمانات المجانية على جيرانها، والغرب.
إيران اليوم لا تمانع التعامل مع طالبان، فبعض القادة في الحرس الثوري الإيراني رحبوا بدخول الحركة إلى العاصمة الأفغانية، معتبرين ذلك نصراً للشعب على الغطرسة الأمريكية، في انتظار تقاسم التركة مع طالبان، بعد سماح الحركة للشيعة الأفغان بإحياء مراسم عاشوراء. وأمرت مقاتليها بتوفير الحماية للحسينيات، والمواكب العاشورائية، عقب زيارة قيادي من الحركة يدعى أمير خان أحد مجالس العزاء الحسيني، الخميس الماضي، قائلاً إن "طالبان لا تعارض التشيع، ولا تنتهج منهج داعش"...
على ما يبدو، فإن هذه التطمينات من طالبان لإيران، ليست إلا بداية حلف جديد في المنقطة، بولاية فقيه سنية -شيعية، تحت ذريعة محاربة "العدو الأكبر"، أمريكا وإسرائيل، عبر صياغة جديدة لتمدد نفوذ إيران أكثر في المنطقة.