ماهر جبره:
القهوة حرام، الطباعة حرام، تشريح الجثث لتعلم الطب حرام، استخدام الصنبور (حنفية المياه) حرام، قيادة المرأة للسيارة حرام، تجريم ختان الإناث حرام، التبرع بالأعضاء حرام!
كل هذه أمثلة تاريخية على ممارسات كانت حراما وأصبحت حلالا مع الوقت وتقدم العلم وتغلب المصلحة البشرية على الفتاوى والفقه المتشددين. نعم فربما تندهش من بعض الأمثلة، ولكن القراءة المتأنية للتاريخ ستثبت لك هذا النمط. الأمر أشبه بدورة حياة للفكرة الجديدة.
فمع ظهور هذه الأشياء أو الأفكار كان سيف التحريم، وأحيانا التجريم أيضا، يلاحق من يحاول تنفيذها لسنين وفي الأغلب لعقود وأحيانا لقرون، إلى أن تفرضها الحاجة البشرية وتقدم مجتمعات الآخرين من حولنا وتخلفنا عنها، ليتم بعد ذلك تحليلها وتقديم تفسيرات شرعية شبه مناقضة للتفسيرات السابقة التي حرمتها.
القهوة مثلا تم تحريمها في بداية ظهورها في الحجاز ومصر، فقد تم التعامل معها فقهيا من خلال تشبيهها بالخمر، على اعتبار انهما تغيران المزاج، وبالتالي تم تحريمها. ثم تطور الأمر إلى تجريم بيعها وشرائها وحتى شربها. إلى أن فرض الواقع نفسه واستمر الناس في شربها رغم تحريمها. ولكن في أحد الأيام، تسببت خطبة حماسية عن تحريمها في غضب الناس، ثم تطور الأمر إلى شجار ودم بين أعداء القهوة وأنصارها، مما نتج عنه مقتل البعض من أنصار شرب القهوة، وخروج الوضع عن السيطرة. ولكن بعد تعيين مفت جديد في إسطنبول انتهت الأزمة بإجازة شربها وبيعها.
الأمر نفسه تكرر مع قضية تشريح الجثث لتعلم مهنة الطب، حيث واجه كلوت بك الطبيب الفرنسي، الذي أسس الطب الحديث في مصر في عهد محمد علي، مقاومة شديدة من بعض شيوخ الأزهر. بل وصل الأمر إلى محاولة اغتياله من قِبل أحد طلبة مدرسة الطب التي أنشأها في 1827 في منطقة أبو زعبل. لأن التشريح وقتها كان يُنظر إليه على أنه حرام باعتباره اعتداء على حرمة الميت. ولولا مثابرة الرجل في محاولاته لإقناع الشيوخ بضرورة علم التشريح، ولولا ضغوط مارسها الوالي محمد علي باشا الكبير ودعم الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر وقتها للأمر، لربما تأخر دخول الطب لمصر لعقود أخرى.
أما المثل الأشهر وهو الطباعة، فالأمر تأخر كثيرا، حيث حرّمت الخلافة العثمانية الطباعة لما يقرب من 3 قرون. ثلاثة قرون أوروبا تطبع وتنشر المعرفة ونحن محرومون منها بدعوى أن الطباعة من الممكن أن تؤدي إلى تحريف القرآن وطباعته، أو تحريف الكتب الشرعية، وبالتالي فهي حرام ولا تجوز. ثلاثة قرون سبقنا العالم فيها ونحن نرذل المعرفة بكل مجالاتها ظنا منا أننا بذلك نحافظ على الدين.
في كل هذه الأمثلة، كان هناك نمط ثابت يتكرر باستمرار. وهو أن الممارسة أو الفكرة الجديدة حرام، ببساطة بسبب محاولة قياس الممارسة الجديدة على فقه قديم لا يستوعبها ولا يدركها. فقه قدمه الأوائل في أزمنة لم يكن لديهم واحد على ألف من أدوات المعرفة التي نمتلكها اليوم. فعلى قدر وعيهم ومحدودية المعرفة في زمانهم، قدموا ما استطاعوا من اجتهاد. ولكن الزمن يتغير وأدوات المعرفة تتطور، وقياس الأفكار الجديدة بمقاييس قرون مضت، هو في رأيي، لب أزمة منطقتنا في كثير من الأحيان.
تذكرت كل هذا وأنا أتابع النقاش الدائر على مواقع التواصل الاجتماعي الأيام الماضية في مصر بخصوص قضية التبرع بالأعضاء. فعلى الرغم من إقرار قانون ينظم المسألة سنة 2010، ولائحة تنفيذية له سنة 2017، وهو القانون الذي تأخر لعقود نظرا لانتشار أفكار دينية وفتاوى ضد فكرة التبرع بالأعضاء. رغم كل هذا، لايزال هناك آلاف المرضى في مصر الذين يعانون أشد المعاناة بسبب عدم قدرتهم على إجراء هذا النوع من العلميات، نظرا لغياب ثقافة التبرع بالأعضاء، الناجمة عن النظرة السلبية له من قِبل كثير من أفراد المجتمع، وعدم تفعيل القانون.
هذه النظرة المناهضة لثقافة التبرع بالأعضاء، تعود إلى فتاوى دينية كانت تحرمه إلى وقت قريب. والتي استندت على فكرة أن الجسد ملك لله، وأن الإنسان ليس إلا وليا عليه وبالتالي لا يجوز له التبرع بأي من أعضائه.
هذه الفكرة مع الوقت ومع تطور وانتشار عمليات نقل الأعضاء في العالم، بدأت تتغير. فالشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق، أفتى بأن التبرع جائز لأن الولي من حقه التصرف فيما ولاه الله عليه طالما ينقذ بذلك حياة إنسان آخر. كما أعلن أيضا شيخ الأزهر السابق الشيخ سيد طنطاوي عن تبرعه بالقرنية بعد وفاته، بل وأوصى قبل أن يموت بتبرعه بكافة أعضاء جسده، باعتبار أنها صدقة جارية وفعل إيثار، مستندا على الآية القرآنية الكريمة التي تقول "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا".
الحقيقة إنني لا أقصد في هذا المقال مناقشة الفقه أو الفتاوى وراء تحليل أو تحريم التبرع بالأعضاء. ففي تقديري أن الفكرة الدينية التي ترفض التبرع بالأعضاء عند معظم الناس ستتغير مع السنين، وخصوصا بعد مواقف الأزهر ودار الإفتاء العلنية المؤيدة لهذا الأمر باعتباره صدقة جارية.
ولكن السؤال الذي أريد طرحه في هذا المقال هو عن تكلفة فقه التحريم. فما يشغلني في هذه اللحظة هو كم من الوقت، على المرضى الذين يصارعون الزمن في انتظار العلاج أو الموت أن يضيعوه أكثر من ذلك، حتى ننتهي نحن من هذا الجدل؟ أو بلغة أخرى، كم مريض آخر عليه أن يموت بينما نصر نحن على فهم ضيق ومحدود للدين، يُحرّم الحياة ويرى في كل جديد بدعة وضلالة؟
أو لو سألنا أنفسنا السؤال بشكل عام، فكم علينا أن نتأخر عن باقي المجتمعات تحت مسميات ومبررات دينية. فماذا مثلا لو كانت الطباعة لم تُحرم في بلادنا، كيف كان سيؤثر ذلك على تطور العلوم لدينا، وهل كنا سنتنظر أغلب الاختراعات والاكتشافات من الخارج أم كنا سنشارك بشكل أكثر فعالية في انتاجها؟
وماذا لو كان رجال الدين لم يقاوموا فكرة تجريم ختان الإناث لعقود طويلة، كم امرأة أو رجل اليوم كانت سيعيشون حياة زوجية أفضل، وكم زواج انتهي بالطلاق نتيجة لمشاكل في العلاقة الحميمة كان من الممكن إنقاذه؟ لو قال الشيوخ من البداية هذا قرار الأطباء ولا دخل لنا به. وبشكل أعم، كيف كان سيكون شكل مجتمعاتنا لو تُركت لتتطور دون مقاومة فقه التحريم؟ وكم كلفنا هذا الفقه من تراجع وتأخر عن المجتمعات التي سبقتنا؟ أسئلة ربما حان الوقت لنتعامل معها بجدية.