بابكر فيصل:
في تصريح مثير بداية هذا الشهر، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إنه "كان هناك استعمار قبل الاستعمار الفرنسي للجزائر"، في إشارة لفترة الحكم العثماني بين عامي 1514 و1830، واصفا إياه بالاستعمار "المنسي"، كما تساءل مستنكرا: "هل كان هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي"؟
قوبل تصريح ماكرون باستنكار واسع على مختلف الأصعدة في الجزائر، بلغ حد استدعاء السفير من باريس، وأصدرت الرئاسة الجزائرية بيانا شجبت فيه التصريح قائلة إنه "يمثل مساسا غير مقبول بذاكرة 5 ملايين و630 ألف شهيد، ضحوا بأنفسهم عبر مقاومة شجاعة ضد الاستعمار الفرنسي بين عامي 1830 و1962".
من جانبه، قال القيادي بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، عضو مجلس أمناء الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين، علي محمد الصلابي، في رد على تصريح ماكرون: "لم يكن الوجود العثماني في الجزائر وجود تغلغل قومي، أو غزوا عسكريا غاشما لتحقيق أغراض ومصالح دولية سواء أكانت عسكرية، أو سياسية، أو اقتصادية.. بل كان وجود خلافة إسلامية مجيدة، وإمبراطورية عظيمة، قد التفت حولها -آنذاك- الدول والحضارات وكونت في ظلها راية واحدة، هي راية الإسلام، الحامية وليست المعتدية، والبانية وليست الهادمة".
حديث الصلابي يعكس رؤية جماعة الإخوان المسلمين لموضوع الخلافة، التي تمثل المحطة قبل الأخيرة من المحطات الست التي وضعها المرشد المؤسس حسن البنا لكيفية انتقال الجماعة من واقع الاستضعاف إلى قوة التمكين، حيث تبدأ بالفرد، ثم الأسرة، ثم المجتمع، ثم الدولة، ثم الخلافة الإسلامية، وأخيراً أستاذية العالم.
وبعيدا عن تجربة الخلافة العثمانية في الجزائر، التي لا يعلم كاتب هذه السطور عنها الكثير، فإن هذا المقال سيلقي الضوء على الوجود العثماني في السودان، الذي استمر في الفترة من عام 1821 حتى عام 1885.
الخلافة الإسلامية لم تكن سوى شكل من أشكال الحكم التاريخي الذي ساد في العصور الوسطى. وعدا شذرات مشرقة في حكم الخلفاء الراشدين، وخلافة عمر بن عبد العزيز، والمهتدي العباسي، كان تاريخ الخلافة هو تاريخ الاستبداد والملك العضود والدماء والدموع، الذي لم يعرف أساليب للتداول على الحكم سوى أسلوبي الغلبة والتوريث حتى انتهائه عام 1924 .
ومن ناحية أخرى، فإن العديد من الشعوب التي خضعت لسيطرة تلك الخلافة لم تر فيها سوى حكم غزاة مستعمرين جاءوا لنهب ثروات بلادهم وسرقة مواردها. ومن بين هذه الشعوب، الشعب السوداني الذي قاوم قهر الغزاة الأتراك ببسالة وشراسة حتى استطاع دحرهم وطردهم من البلاد بواسطة الثورة المهدية عام 1885.
لم يكن غرض الغزو التركي للسودان نشر الإسلام، بل كان هدفه الواضح والمعلن جلب العبيد والذهب، إذ برعت الإدارة في إرسال الغزوات للحصول على الرقيق وأصبحت لتجارة العبيد أسواق مزدهرة، وكأي قوة استعمارية دأب الأتراك على نهب ثروات السودان الحيوانية من الجمال والأبقار وريش النعام والعاج إضافة للمحاصيل الزراعية، وأرهقوا كاهل السكان بالضرائب الباهظة التي يتم إرسالها لمصر وللباب العالي.
ارتكب الغزاة الأتراك جرائم وحشية في حق المواطنين السودانيين العُزَّل، خصوصاً المجازر المروعة التي قام بها محمد بك الدفتردار، وعُرفت في التاريخ باسم "حملات الدفتردار الانتقامية"، التي راح ضحيتها حوالي 30 ألف شخص من قبيلة الجعليين في ولاية نهر النيل الحالية، فضلا عن المئات من ضحايا القبائل الأخرى.
وكان رد الفعل السوداني على الحكم التركي هو قيام حركة دينية تجديدية "المهدية" عملت على تجميع وحشد أهل البلد خلف راياتها القاصدة لإخراج المحتل التركي، مستخدمة جميع الأدوات التي تبعث الشعور والحس الوطني وتؤدي لجمع الصف والكلمة في مواجهة الغزاة الأتراك.
وقال قائد الثورة المهدية، الإمام محمد أحمد المهدي، في أحد منشوراته التي حرض فيها السودانيين على الثورة ضد الاحتلال التركي: "إن الترك قد وضعوا الجزية في رقابكم مع سائر المسلمين.. وكانوا يسحبون رجالكم ويسجنونهم في القيود، ويأسرون نساءكم وأولادكم ويقتلون النفس التي حرم الله بغير حقها وكل ذلك لأجل الجزية التي لم يأمر بها الله ولا رسوله، فلم يرحموا صغيركم ولم يوقروا كبيركم".
قد وعى السودانيون أن ثورتهم ليست ضد خلافة تمثل الدين الإسلامي، بل هي وقوف في وجه استعمار يتلبس بلبوس الدين، وهو الأمر الذي استوعبه قائد الثورة جيدا مما جعله يطالب الجماهير بضرورة تمييز أنفسهم عن الغزاة الأتراك في كل شيء يتعلق بسلوكهم وملبسهم وطرائق عيشهم، فها هو يخاطب الشعب في أحد منشوراته بالقول: "كل ما يؤدي إلى التشبه بالترك أتركوه، كما قال تعالى في حديث قدسي: قل لعبادي المتوجهين إليَّ لا يدخلون مداخل أعدائي ولا يلبسون ملابس أعدائي فيكونوا هم أعدائي كما هم أعدائي.. فكل الذي يكون من علاماتهم ولباستهم فاتركوه".
بناءً على الحقائق التاريخية أعلاه، فإن وصف علي الصلابي للوجود العثماني في الجزائر بأنه "خلافة إسلامية مجيدة"، وأنه لم يكن "غزو عسكري غاشم لتحقيق أغراض ومصالح دولية" لا ينطبق على وجود ذات الحكم في السودان، حيث اتصف بالبطش والطغيان والاضطهاد وسلب خيرات البلاد.
وتؤكد حقائق التاريخ أن تصدي السودانيين للغزو التركي لم يأت بتحريض من قوى خارجية كما يدعي أصحاب نظرية المؤامرة، بل جاء نتيجة للعسف والظلم الشديد الذي وقع عليهم، وهذا هو الحال في العديد من الدول العربية التي خضعت لسيطرة الأتراك العثمانيين، وبالتالي فإن رفض الخلافة التركية كان نابعا من الداخل، ولم يفرض من الخارج.