أحمد عبد الحليم:
منذ تأسيسها عام 1928، تعرّضت جماعة الإخوان المسلمين إلى الكثير من المِحَن، إثر صدامها مع الأنظمة المصرية الحاكمة، من قَبل قيام الجمهورية، ولا سيما بعد قيامها. اختلفت قوة الصدام من مرةٍ إلى أخرى، واختلف عدد سنوات المِحَن. لكن المُلاحظ أن جماعة الإخوان تبقى قائمة تنظيمياً.
وإنْ كانت الجماعة هشّة، نجد أنها، مهما حاولت الأنظمة القضاء عليها ومَحوها، وبالرغم من قوة البطش تجاهها، تستطيع في كلَّ مرّة تجميع واستقطاب أفرادٍ جُدد لها فور إتاحة هامش/ مُتنفس للعمل.
يرجع هذا إلى عدة أسباب، منها قوة التنظيم الهرمي، وعلاقات الجماعة الخارجية مع القوى الدولية المساعدة والمؤيدة لبقائها، فضلاً عن قوة العلاقات الاجتماعية لأفرادها مثل القرابة والعمل. لكن، هنالك أيضاً بعد تربوي وروحي، يساهم في توظيف الجماعة مظلوميّتها -الحقيقية- في بقاء أفراد التنظيم.
تاريخ المِحَن
منذ بداية ثلاثينيات القرن الماضي، سرعان ما توغلت الجماعة في الأوساط الاجتماعية المصرية المُختلفة، لتأخذ مكانةً سياسيةً واجتماعية هامة، مثلها مثل حزب الوفد الليبرالي واليسار المصري، فبدأت الحكومات في أخذها بعين الاعتبار، بما أنها جماعة دعوية ذا بُعد سياسي.
كانت أولى مِحَن الجماعة مع حكومة الملك، بقيادة رئيس الوزراء محمود النقراشي أواخر الأربعينيات، حين قامت حكومته بحلّ الجماعة وأوقفت أنشطتها، لتردّ الجماعة باغتيال النقراشي في كانون الأول/ ديسمبر من عام 1948، وفي شباط/ فبراير من العام التالي، اغتيل مؤسسها حسن البنا.
ومع قيام الجمهورية المصرية، بقيادة حركة الضباط الأحرار التي كانت الجماعة شريكاً لها وداعماً مُنسجماً وأساسياً في حركتها، انتقلت الجماعة إلى مِحنة جديدة بانتهاء هذه الشراكة، حين قامت السلطة بقيادة جمال عبد الناصر منذ عام 1954 إلى أواخر عام 1970 بمعاداة الجماعة، وذلك من خلال حلّها، والزج بأعضائها في السجون، بالإضافة إلى تعذيب أجهزة الأمن والمخابرات الناصرية للآلاف من أفرادها، ما أدى إلى مقتل العشرات منهم داخل السجون، فضلاً عن أحكام الإعدام بحق البعض منهم، كان أشهرها تلك التي نُفّذت بحق سيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل وآخرين عام 1966.
بموت عبد الناصر، خرجت الجماعة رويداً رويداً من مِحنتها. جاء نظام أنور السادات بانفراجة للإسلاميين، وفي القلب منهم الإخوان، وصولاً إلى شروع بعض الجماعات الإسلامية في عمليات مُسلحة، أدَّت واحدة منها إلى قتل رأس الدولة، أي السادات عام 1981.
مع بداية الثمانينيات، وبالرغم من دخول تلك الجماعات وعلى رأسها الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد الإسلامي في حرب صفرية مع نظام حسني مبارك، استطاعت جماعة الإخوان إقناع ذلك النظام بأنّها ابتعدت بقياداتها الجديدة عن أي نهجٍ للعُنف. وبالفعل، انتهجت مسارها الإصلاحي بالمشاركة المجتمعية والسياسية من خلال دخول النقابات والمجالس النيابية، وما أخذت من بطش نظام مبارك إلّا القليل الذي يكمُن في اعتقال بعض القياداتٍ لعدة أَشهُر وتزوير نتائج الانتخابات البرلمانية، وغير ذلك من ممارسات هينة مقارنةً مع ما لحق بالإسلاميين الجهاديين.
بعد خلع نظام مبارك، تمكَّن الإخوان المسلمون وحلفاؤهم من أغلبية مقاعد البرلمان وكرسي الرئاسة، لكن، هذا التمكّن لم يُكمل صعوده، إذ أسقطه الانقلاب العسكري في تموز/ يوليو من عام 2013، لتدخل الجماعة نفق المِحنة مرّة أُخرى، مِحنة لم ترها مثلها من قبل، أشدُ من محنة الحقبة الناصرية من حيث قمعها. فقد زُجّ بعشرات الآلاف من قادتها وأعضائها في السجون، ونُفّذت إعدامات بحق العشرات، وصودرت أموال، وفُضت اعتصامات واحتجاجات بالقوة المُفرطة، وشوّهت الجماعة إعلاميّاً بأقسى التهم والنعوت، كما حُلّت وأُدرجتْ قانونياً كجماعةٍ محظورة.
الابتلاء هو الطريق إلى الله
بعد كلّ مِحنة، تخرج الجماعة مُلملمة شتاتها التنظيمي والمنهجي، وتبدأ في صحوتها مرةً أُخرى إلى أن تدخل في أزمةٍ جديدة. حتى الآن، ما زالت الجماعة تثير دهشة الكثيرين ببقائها، وإنْ كان هشّاً، بل نصحها كثيرون بحلّ نفسها، تجنباً لمزيد من البطش، والسعي نحو مساومة النظام الحاكم في مصر من أجل تخفيف القمع عليها، والسماح لها بعودة أفرادها إلى المجال الحياتي من جديد.
هذا الصمود المُتكرر له عدة عوامل أساسية من ضمنها صلابة التنظيم لدى الإخوان المسلمين، فالجماعة تتمتّع بتنظيم هرميّ صلب، طالما انتقده الكثيرون، بحجّة أنّه يحدّ من حرية الإبداع والرأي داخل الجماعة، ويقمع الأصوات الشابة والإصلاحية والمُفكرة، وهذا كان سبباً رئيسياً في انشقاق بعض قياداتها وشبابها، مثل عبد المنعم أبو الفتوح، محمد القصاص، أنس السلطان وغيرهم.
أيضاً، يوجد سبب روحيّ آخر يُفسّر صمود وبقاء وعدم انشقاق الكثيرين من الأفراد العاديين داخل الجماعة، مهما تعرضوا للبطش الشديد، وهو تلقين منهجية/سردية المِحنة بواسطة قيادات الجماعة، لا سيما التربوية، لهؤلاء الأفراد، وذلك من خلال بضع مُمارسات تتمثل في استدعاء نماذج تاريخيّة، خاصةً من قصص القرآن والسيرة النبوية، وإسقاطها على واقع الجماعة الحالي، لِترتكز في أذهان الأفراد الصورة النهائية، بأن ما يحدث هو قدر الله لعباده الصالحين المُدافعين عن دينه.
تسقط الجماعة على نفسها ما حدث للمُسلمين في غزوة أُحد من هزيمة، بسبب تعنت البعض في تنفيذ خطة الرسول، وولَعهم بحصد الغنائم وترك جبهة المعركة.
كذلك تعمل دروس الجماعة التربوية على أن تُسقط على نفسها ما حدث للمُسلمين في غزوة الأحزاب (غزوة الخندق) في العام الخامس من الهجرة، عندما اجتمعت القبائل العربية على غزو المدينة، وحاصرت الرسول وصحابته، فحفروا خندقاً للاحتماء، وصبروا على الجوع والعطش والحصار، ودعوا الله حتى آتاهم بنصره وتفتت شمل الأحزاب، ونَجَّا الرسول وجيشه من شرَّ هزيمة. هكذا تصوّر معركتها مع نظام ما بعد 3 تموز/ يوليو 2013، محاولةً بث روح الصبر لدى أفرادها على السجن والتعذيب، كما صبر الصحابة الأوّلون على حصار الأحزاب.
كذلك تُسقط الجماعة على واقعها آيات قرآنية كثيرة توضح صبر المؤمنين على البلاء، وتعممها على تجربتها، مع أن نزولها كان إثر حادثةٍ بعينها تعرّض لها هؤلاء المؤمنون. ومن ذلك الآية التي نزلت أثناء حصار المؤمنين "يوم الخندق": {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، إذ تستخدمها الجماعة بهدف تلقين مفهوم الصبر لمناصريها، وإقناعهم بأن نصر الله قريب لا محالة، واضعةً دلالات معاصرة لها مثل ربطها بخروج معتقليها من السجن، أو عودتها إلى الحكم.
آيةٌ أخرى تشهد استخداماً مشابهاً، هي: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13]، إذ تشبّه الجماعة مَن تركها ولم يدافع عن شرعيتها في الحكم، أو انشق عنها نتيجةً لممارساتها بأنّه تخلف عن الحرب، معتبرةً أن معركتها هي معركة بين المؤمنين وبين مَن يحاربون الدين، ومستبعدةً السياسة من القصة كُلّها.
تُقابَل سردية الإخوان هذه بوجهتي نظر متضادتين تماماً: الأولى هي التبنّي لها؛ أما الأُخرى فتعترض عليها وتسائلها وتنتقد تلك الإسقاطات، وتطالب بمراجعة أخطاء الجماعة في سياساتها وتعاملاتها التي أدّت إلى المحنة، بل وتطالب بالمُحاسبة عن الممارسات السياسية والمنهجية لقيادة الجماعة. وكثيراً ما تواجه القيادات هذا النقد إما بالصمت، أو باتهام المنتقدين بالعمل على شقّ الصف، وتشوّه إيمانياتهم، ومن ثمَّ يتم الهجوم عليهم في الفضاء المتواجدين فيه، حتى وإنْ كان السجن. وعادةً، يردّ هؤلاء المعارضون بالنقاشات والسجالات التي تنتهي إما بالصمت تجنباً لجدال لن يُثمر تغييراً حقيقاً أو بالانشقاق عن الجماعة والعمل ضمن هامش فكري ومنهجي آخر، سواء مُستقل أو تابع لتنظيم آخر.
تستند الجماعة إلى المُطيعين الخاضعين لسرديتها التي ترفع لواء المظلومية، ككتلة صلبة داخل الجماعة تقوّي مخزونها البشري وتساعدها على لملمة ذاتها كَتنظيم مرّة أُخرى، ما يؤدي في النهاية إلى عدم مراجعة ممارساتها الحركية والمنهجية الخاطئة، وما يُفرز جموداً وانعزالاً عما يحدث في الواقع السياسي والحركي والمنهجي.
وهذا ما يحدث في وقتنا الحالي بين جبهتيّ محمود حسين، الأمين العام للجماعة، وإبراهيم منير، القائم بأعمال المرشد، إذ لم يعترف الأول بنتائج انتخابات تقول شهاداتٍ قيادية من داخل الجماعة إنّها أجريت مؤخراً، ونحّت ستّ قياداتٍ من مجلس شورى الإخوان وعلى رأسهم محمود حسين، فضلاً عن إحالة البعض إلى التحقيق، ليصدر بعدها قرار تلاه المتحدث الرسمي باسم الجماعة طلعت فهمي، بتنحيّة المكلّف بأعمال المرشد إبراهيم منير، في فصل صراعي سلطويّ ضيّق، يُضاف إلى ثقافة ضئيلة وممارساتٍ خاطئة لا تساعد الجماعة على النهوض مرة أُخرى، نحو تكوين إطار ذي بعدٍ مفاهيمي أكثر وضوحا وملاءمةً للأحداث والمُتغيرات.