موسى عبد المجيد:
لم تغفل ذاكرتي عن ذاك المشهد اليومي الراسخ في مخيّلتي منذ الطفولة؛ فور انقضاء صلاة المغرب من كلّ يوم، ينصرف المصلّون إلى منازلهم وأشغالهم، وبعد دقائق معدودة يعجّ المسجد بالضوضاء والصراخ جرّاء لهو الأطفال، وفي غفلةٍ يسود المكانَ الهدوءُ بعد نهوض عددٍ من الشبان الذي يرتّبون حلقات تحفيظ القرآن الكريم، وهكذا نكون أمام مشهدٍ يلخّص حكاية تلك الحلقات القرآنية التي تمهّد الطريق أمام حكايةٍ طويلة من التجنيد الفكري للأطفال، من قبل هؤلاء الشبان الذين تلقّوا تعليماتٍ دقيقةً وصارمة من الشيوخ الكبار، للعمل بجدٍّ على ترسيخ مفاهيم الحركات الإسلامية في قطاع غزة، تحت مسمّى الدين والمساجد التي تخضع لإدارة إحدى الحركتَين، حماس والجهاد الإسلامي.
ولطالما كان السؤال الذي يشغل بالي، هو لماذا هذا الاهتمام والحبّ لتلك الحلقات، على الرغم من تعلّقي الكبير بقراءة القرآن، ودراسة تعاليمه؟ ولكن لم تكن ببالي يوماً فكرة الالتحاق بتلك الحلقات القرآنية التي تضمّ ما يزيد عن 50 شبلاً، موزّعين على حلقاتٍ دائرية يترأسها شبان في مقتبل العمر، حتى باتت لدينا القدرة على تمييز انتمائهم السياسي، من دون طرح السؤال عليهم، لأن الطريقة سهلة: اخرج إلى الطريق، وانظر إلى أعلى المسجد، وستجد راياتٍ وأعلاماً تشير إلى الحركة التي تبسط يدها عليه، ويخضع لحكمها، لتخيّم الحيرة على أفكار المواطنين المجرّدين من الانتماءات الحزبية، متسائلين: هل باتت المساجد بيوتاً للحركات الإسلامية، ومعقلاً لها، وليست بيوتاً لله؟ ولقد مرّ عام تلو عامٍ، وحلقات التحفيظ تتنامى، وتتزايد أعداد المقبلين عليها تارةً، وتارةً أخرى تتناقص.
تكوّنت جملة من التساؤلات المحيّرة في مخيّلتي في سن الطفولة، حتى بلغت سن الـ15 عاماً، والتحقتُ بالمعهد الأزهري الديني، وبدأت بالإبحار في عالم الدين، ودراسة أصول الفقه، وتعالميه التي تكمن في ثناياها جملة من التفاصيل الجمالية التي تُسكِن في وجدان المرء حبّ الله، وحب تعاليم الدين الإسلامي. ولا أغفل عن علم التوحيد الذي يرشدنا بشكلٍ جليّ إلى حقيقة وجود الله، ووحدانيته، وربوبيته، وفي الجانب الآخر علم تفسير القرآن، ذلك العلم الواسع بأبوابه، وتفاصيله الدقيقة التي ترشدنا نحو المسار الحقيقي لتفاصيل كلّ حرفٍ محكَمٍ أُنزل في القرآن، وذلك جعلني أتعلّق بحبّ علوم الدين بشكلٍ أكبر. وذات يوم، أثير حوار عفويّ بيني وبين ابن عمي حول تفسير الآية القرآنية: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ"، من سورة إبراهيم، ليحتدم الجدال حول نقطة جوهرية جرّاء قوله إن المقصود بالشجرة الطيبة هي حركة المقاومة الإسلامية حماس. وبعد جدالٍ طويل، أخبرني بأن شيخه في المسجد هو من علّمهم ذلك ليثير الفضول شجيّتي. ذهبت للجلوس ضمن تلك الحلقات، وتزايد عدد زياراتي وجلساتي، وازداد تقرّبهم منّي، وكانت رغبتي هي معرفة ماذا يلقّنون الأطفال والأشبال الذين في عمرهم قبيل سنّ المراهقة. وذات يوم، دعانا الشاب الذي يدير الحلقة للحضور بعد صلاة العشاء، لانعقاد جلسةٍ دينية.
جلست بهدوء، وما زلت أذكر تفاصيل المشهد الذي احتدم خلاله شجار بيني وبين إمام القائمين على المسجد، وذلك بعد تفسير حديثٍ نبويٍّ شريف بطريقةٍ مغالطة لما أتى به تفسير العلماء الأئمة، مبادراً في مناقشته بأن المقصود بالحديث كذلك، وليس كما يشير بالاستدلال على تفسير النووي والأئمة، لتبدأ تعابير الغضب تسود معالمه، وقام بشتم الأئمة قائلاً: "هم شو فهمهم بواقع عصرنا؟ الدين يتغيّر ويتطوّر"، ليصدح صوتي معترضاً، ولتكون الصدمة التي جعلتني أتيقّن من أن كافة الجالسين قد غُيّبت أذهانهم عن التفكير، إذ إنّ مخالفة الشيخ والإمام من مخالفة الله، ولا يجوز لك مقاطعته، أو مخالفته الرأي. هممت بالنهوض للخروج، لأروي لوالدتي ما حصل، فبادرتها بالحديث، وكان ردّها: "ممنوع تروح المسجد إلّا يوم الجمعة. مش ناقصني". جملتها جعلت الأفكار تكتمل في مخيّلتي بشكلٍ جليّ، وذلك دفعني لاستذكار تلك العبارة التي سمعتها: "لا يصحّ أن يعلم والدك ما يحصل بيننا في المسجد".
اتّضحت الصورة الفعلية التي لطالما كانت تجول في ذهني حول حقيقة حبّ هؤلاء الأشبال والأطفال لحركتهم والتعلّق بها، حتى باتوا يدافعون عنها، ويرفضون أيّ شتيمة تطالها، على خلاف لو شتم أحدهم قريباً له، وكأنه لم يكن هنالك شيء، ليكون تأثير مفعول جلسات التجنيد الفكري، وغسيل المخ، التي تلقّوها خلال فترةٍ ممتدةٍ ولغاية مدروسة، تسير نحو تسخيرهم طوعاً للحركة، واتّباع التعاليم تحت مسمّى الدين، مستغلّين قلة وعي الأطفال في تفسير القرآن وتعاليمه بشكلٍ جليّ، وتفسير الأحاديث الشريفة، من خلال نسب الدين وتفسيره بطريقةٍ وأسلوبٍ ممنهجين يستطيعون من خلالهما إقناع الأطفال والأشبال بأن حركة حماس، أو الجهاد الإسلامي، على حدٍّ سواء، حركتان ربّانيتان، ومن يتّبعهما وينضمّ إليهما، فقد كسب الدنيا والآخرة، وأنهما كلمة الحق، وقد حثّ الدين على اتّباعهما ضمن جملةٍ من الأفكار الحركية المدروسة التي تُلقّن بطريقة ممنهجة من خلال الدروس والجلسات والمحفزات، من مخيماتٍ صيفية ووجبات طعام ونزهات.
وهنا نقف أمام العقيدة الفكرية التي ترسّخت لديهم. عاكسةً بشكلٍ جليّ حقيقة الواقع الداخلي للمواطنين، وطبيعة العلاقة المتبادلة في ما بينهم. إذ ظهرت التعصبية الفكرية بشكلٍ مقلق، ما دفع إلى أن يكره الأخ أخاه، ويحاربه في فكره وعقيدته، وتارةً يكفّره وينعته بنعوتٍ شتى. ولم يتوقف الأمر عند ذاك الحد، بل تجاوزه إلى أن ينعت الأبناء الذين تشرّبوا العقلية الفكرية الحزبية المتعصبة، آباءهم وأمهاتهم بمختلف النعوت، ومنهم من كفّر والديه، لعدم اتّباعهم نهج الدين الذي تشرّبه من حركة حماس، أو الجهاد الإسلامي، ويميل التعصب الأكبر إلى حماس التي تعلب دوراً أيديولوجياً في طرق غسيل الدماغ، واعلان الولاء والبراء للشيخ، لتصل المعصية والقطيعة إلى الوالدين على حساب طاعة الأوهام الحركية الفانية.
تجذّرت المشكلة القائمة، حتى بات التعصّب الفكري يتوغل في أنسجة المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة، وبات المجتمع ممزّقاً فكرياً واجتماعياً وعقائدياً، فكلّ يرى ذاته على صواب، ولكن غفلوا من أين أتت اللبنة الأولى لتنامي هذا التعصب الفكري الحزبي المقيت، والذي كان من تلك الحلقات القرآنية التي تصدح بآيات كتاب الله العزيز، ولكن في خفاياها تزرع أفكاراً ومنهجيةً تعصبية تخدم أجندة القيادة الحاكمة للحزب، وأفكارها، وتجييش أكبر عدد ممكن من الموالين والمناصرين للحركة، والتي تعدّهم عصب الحركة، والورقة الرابحة في الميدان السياسي، لما يظهره من قوة للحركة أمام مكوّنات المجتمع الكلي والمجتمع العربي والدولي بأن لديهم قاعدة جماهيرية واسعة.
ومع مضي الأعوام، وإدراكي تفاصيل الواقع المرير الذي يعيشه الشبان في رحاب المساجد بعد انقضاء الصلاة، والجلوس في حلقةٍ يترأسها ذاك الشيخ الذي تجنّد فكرياً مسبقاً على أيدي أساتذته، وأنهم يصبحون تحت أمر الشيخ، وهو من يسيّر أعمالهم وأيامهم، ويمضون تحت إمرته، وباتت تلك الحلقة هي المنزل والأسرة والملجأ، ما أفقدهم الثقة التي يستوجب حضورها طاعة لله ورسوله، والتي تكون قائمةً بين الابن والوالدين بشكلٍ جليّ، وطاعتهم في كل أمر. ولكن الواقع القائم غيّر كافة المفاهيم الدينية تحت مسمّى الدين، لأجل طموح وأطماع حركية ذاتية تلعب على وتيرة اندفاع الشباب، وحب المغامرة، نحو عالم مليء بالمخاطر، وكل ما هو ممنوع مسموح من دون قيود أو حدود.