رستم محمود:
في مثل هذه الأيام، قبل ثلاثة عقود، تلقت الشخصيات والقوى والتيارات المُتطلعة للتغيير السياسي أهم بشارة في مسيرة تطلعاتها. فتفكك وهزيمة الاتحاد السوفياتي، كمنظومة سياسية وقيمية وخطابية، لم يكن يعني إن أكبر كتلة عسكرية وسياسية -غير مبالية بالديمقراطية على الأقل، ومعادية لها على الأكثر- قد أُزيلت فحسب. بل كان ذلك يعني أن ديناميكية الصراع بين المعسكرين العالميين قد انهارت، حيث كانت تلك الفاعلية الصراعية مانعا شديد الجسارة في الوقوف في وجه أية إمكانية للنفاذ إلى أشكال من الحياة العامة الأكثر دمقرطة، في العلاقة بين الحاكمين والمحكومين.
في الكثير من مناطق العالم، لكن في منطقتنا بالذات، لم تكن الحرب الباردة مُجرد صراع عسكري وسياسي وقيمي بين منظومتين فحسب، بل كانت فضاء إرباك أكثر تعقيدا وتركيبا من ذلك بكثير، بحيث شيّدت وراكمت طوال أربعة عقود من حضورها إرثا مريعا في منطقتنا، وعلى رأسها إخراج منطقتنا من التاريخ.
فأثناء تلك السنوات، لم يكن عكس الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية يعني التشبه ومطابقة الدولة والمنظومات الغربية، كالانزياح لأشكال الحياة العامة الأكثر ليبرالية وخلق أنماط من العلاقة بين الحاكمين والمحكومين أكثر عدالة، عبر تكريس الديمقراطية التمثيلية. وطبعا لم يكن ذلك العكس يعني اقتصاداً أكثر شفافية وإنتاجاً أشد تداخلاً مع الكُل العالمي.
بل كان عكس المنظومة السوفياتية يعني أشياء أخرى تماما، مثل دعم القوى والمنظومات الغربية لأنظمة حُكم عسكرية وشمولية شديدة القمع والأبوية. فهذه الأخيرة، كان يكفيها معادة الاتحاد السوفياتي وفضاءه العالمي، لتنال قسطا وفيرا من الدعم غير المُعلن، مع غض نظر تام عما تفعله في فضاءه الداخلي، فقط لأنها تتمتع بطاقة حماية متأتية من مناهضتها للاتحاد السوفياتي. كذلك كان عكس الاتحاد السوفياتي يعني تمتين قيمٍ وأواصر بدائية تماما، قائمة على العشيرة والروابط الدموية والأنظمة السياسية القبلية. ثمة أمثلة لا تُحصى تدل على مثل تلك المخرجات، حيث كل مناهضة للسوفيات تؤدي للكثير من الأشياء، ليس من بينها التشابه والتطابق مع المنظومات السياسية والقيمية والاقتصادية الغربية قط.
على الدفة الأخرى، فإن عكس المعسكر الغربي لم يكن يعني مزيدا من المساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من خلال التشابه مع الاتحاد السوفياتي، ولا حتى تطويرا لنوعية التعليم وزيادة دور النقابات أو تعزيز سوية وأدوار مؤسسات الدولة في مختلف القطاعات.
بل كان عكس المعسكر الغربي خلال تلك السنوات يعني مزيدا من الأنظمة الشمولية العسكرليتارية، المتخمة بخطابات مصارعة الغرب ومناهضة ما أنتجه من قيم وعوالم، ويعني فوق ذلك قمعا لجميع التطلعات والتيارات والأدوات التي تملك ميولا نحو اشكال من الليبرالية، السياسية والثقافية والاقتصادية والمجتمعية على حد سواء.
لأربعة عقود كاملة، وبسبب ذلك الشرط، كانت الحرب الباردة مقصلة لأية تطلعات تغيرية، فالأحزاب والحكومات والشخصيات، وحتى الأناس الأكثر بساطة وهامشية في الحياة العامة، كانوا مدفوعين قسرا لأن يكونوا أعضاء في أي من الفضاءين، اللذان ببساطة لم يكونا يملكان أية فروق وقيم مضافة متمايزة بوضوح، بالذات فيما خص التغيير نحو بناء دول ومنظومات أقل جشعاً مما كانت عليه.
اليوم، وبعد ثلاثة عقود من تلك البشارة التي كانت، يبدو إن استعصاء مماثلا صار مُكرسا في الفضاء العام لبلداننا، حيث يأخذ الإسلام السياسي تفصيلاً المكانة التي كانت للحرب الباردة.
فبعد موجات التغيير التي طالت بلدان شرق أوربا وجنوب آسيا وبلدان أميركا اللاتينية منذ وقتئذ، ومع كل التغيرات التي طالت طبيعة الإنتاج والسوق الاقتصادية، وبالرغم من التطور الهائل في نوعية وسائل الاتصال، وبعد عشر سنوات من انتفاضات الربيع العربي، إلا أن التغيير نحو أنظمة ديمقراطية، ولو إلى حد ما، ليس أمرا بديهيا قط، وبسبب الانقسام حول الإسلام السياسي.
بوضوح، وبعد كل ذلك، تبدو الدمقرطة هامشا غير مفكر به، بالضبط مثلما كانت أثناء سنوات الحرب الباردة، ولصالح ما يبدو وكأنه أكثر إلحاحا ومركزية. فحاضرا، ثمة شرخ شاقولي يُحيط ويقود كل تفصيل من الحياة العامة في بلداننا؛ لكن بنفس شرط التشويه الذي كان خلال سنوات الحرب الباردة.
فالخيار أمام كل أحد في منطقتنا اليوم هو: أما الإسلام السياسي، الذي يعني بالضبط هيمنة شبكة من القوى الساعية لفرض منظومتها القيمية والسياسية والخطابية على الفضاء العام، وتاليا تشكيل كيانات سياسية على أساس الهوية الدينية، التي يُمكن أن تتسرب من الهيكل السياسي لهؤلاء الحاكمين الإسلاميين نحو القضاء والتعليم وكل الحياة العامة، وتاليا أن تخلق مجموعة من الديناميكيات المناهضة للقيم الديمقراطية جذريا، بالذات من خلال تقسيم المواطنين فعليا إلى طبقات من الأديان والطوائف والأقوام، وتهميش دور النساء وقمعهن، ومعها تحطيم كل القيم والقوانين والمكتسبات الثقافية والمجتمعية والروحية المدنية التي راكمتها مجتمعاتنا طوال قرن كامل.
سيفعل الإسلاميون كذلك، وإن كانوا طوال تلك المسارات يجنحون إلى "ديمقراطية إجرائية"، ترى في الديمقراطية مجرد صندوق انتخاب مؤقت، ومن دون أية قيم مطلقا.
هذه المناخات بالضبط، هي ما تؤدي فعليا لأن يتكرس كُل ما يناهض ويعاكس الديمقراطية كقيمة عُليا مُتطلع إليها في المحصلة.
لكن العكس أيضا يؤدي لنفس النتيجة. فمناهضة الإسلام السياسي لا تعني فعليا تكريس ما هو مناهض لمفرزات الإسلاميين تلكم.
فقوى مناهضة الإسلام السياسي هي تلك الساعية لتكريس مجموعة من الأنظمة المركزية، المُشبعة بروح وهيمنة قادة الجيش وشركائهم مع رجال الأعمال النافذين والطبقات الاجتماعية المدنية، الساعية لحفظ أنماط عيشها المدنية بأي ثمن كان. فوق ذلك، فإن مناهضي الإسلام السياسي إنما يتمتعون بدعم إقليمي شبيه بما يتلقاه الإسلاميون من بلدانٍ إقليمية أخرى. وحيث لا يملك مناهضو الإسلام السياسي من إغراء إلا الوعد بخلق "استقرار مديد"، هو فعلياً موات عمومي، مثلما كانت أحوال الحياة في دول المنظومة السوفياتية.
ولو كان الإسلام السياسي يستخدم ويعد بـ"ديمقراطية إجرائية"، فإن مناهضي الإسلام السياسي لا يُطالبون بأن تُعزز تلك الديمقراطية بترسانة من المعايير والقيم المُرفقة والحامية لها، بل بإلغائها جذريا، وفقط لتوطيد الاستقرار.
كان عقد التسعينات زاخرا باكتشافات هائلة لما أثرت به الحرب البادرة من فظائع على منطقتنا، من شموليات ومقابر جماعية، مرورا باهتراء التعليم وزيادة أعداد ومساحات العشوائيات، وأشياء كثيرة من مثل تلك، فإن أجيالا جديدة قادمة ستكتشف مستقبلاً كميات هائلة لتأثيرات التمركز حول "الإسلام السياسي" في منطقتنا، لأنها أولا ودائما تعني تهميش كل شيء في الحياة العامة لصالح الصراع حول هذه المواضيع، بالذات الأفكار الأكثر إلحاحاً في العالم الحديث، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وتحديث الاقتصادية والمساواة الجندرية.