خالد البري:
أحببنا الفن، والأدب، لأنه لفت أنظارنا إلى فروق ضئيلة لا تدركها تجاربُنا المحدودة. منحَنا من الخبرة سنوات غير منقوصة من أعمارنا، بل تزيدها كيفاً. أحببناه لأنه صاحبُنا في وحدتنا، في همومنا، في تساؤلاتنا وحيرتنا التي لم نشارك فيها غيرَنا، ولم ندر بها حتى من أنفسنا. صاحبنا في ليالي الشتاء مع الغطاء، وصاحبنا في التباهي بين الأصدقاء. رأينا منه قصة مدينتين على غير ما حكتها لنا كتب التاريخ. وتعاطفنا مع «البؤساء» الذين لم نلتقِ بهم زمنياً، ولا التقينا بهم فكرياً. رأينا الحب في الحرب، ورأينا الوفاء للنفس في خيانة الآخرين، ورأينا خيانة النفس في خيانة الآخرين. تعلمنا تعقيدات من المشاعر لم نكن لنعملها من أحاديث أصدقائنا ذوي التجارب الموازية، ولا أحاديث آبائنا ذوي التجارب المصفاة بالرقابة والحرص والحماية.
الآن صرت أعثر بصعوبة على فيلم «صديق» أو عمل أدبي «أخوي»، عمل يعاملني على قدم المساواة، يحكي معي ونحن «نقزقز لب» على كنبة واحدة، لا يجلسني على مقعد التلميذ ويحتل سبورة المعلم.
هذا مجرد عَرَض لمرض ضخم تغلغل إلى جوهر كل شيء في حياتنا المعاصرة، مرض الاحتياج إلى فجاجة سريعة. نمط يخلق وهماً بالشبع، وهماً بأنك حققت ما لم تحقق، وضمنت إنجاز ما لم تنجز، وأدركت ما لم تتحرك صوبه خطوة، ولا تحرك نحوك خطوة. بل ربما صرتما من بعض أبعد. ذلك أن الاقتراب من الهدف يستلزم الارتكاز على معطيات حقيقية. وليس على عرض الكثير من الفالصو لمجرد أن استخلاص الذهب صعب.
أدعي أن الفجاجة امتدت من السياسة إلى الثقافة والأدب والفن وليس العكس. من الحاجة الملحة كل أربع سنوات إلى خلق قضايا جديدة، كبرى، فجة، زاعقة، تخيف منتقديها كشبح في مدينة الملاهي. لا بد أن تبدو ضخمة بحيث تبرر التخلص من حزب واستقدام حزب. لا بد أن تسوّق بمبالغات ترضي بالمجان رغبة شرائحها المستهدفة، وهي في هذه الحالة مجموعات معينة من البشر. يجمع بينها اللون، أو الدين، أو أي هوية أخرى.
كلما زاد شعور الحرمان، بالحقيقة أو بالتضخيم، لدى تلك المجموعات، كان سهلاً جذبها إلى استهلاك المنتج التسويقي الفج... وكان أسهل إرضاؤها بمشهد مبالغ فيه. لن تختبر قريباً أثره في حياتها.
يحاط هذا الاستهداف التسويقي بمجموعة أخرى من «الدعاية الجانبية» تمنع العقلاء من أن يقولوا للشرائح المستهدفة إن هناك سبباً لذلك الحرمان موجود في سلوككم وثقافتكم الشائعة، لا بد أن تلتفتوا إليه أيضاً، بل من مصلحتكم أن تلتفتوا إليه. سيضعف هذا الهدف التسويقي الفج، ولكي تمنع ذلك لا بد أن تخلق تابوهات، ومحرمات، ومحظورات، يلغى تلقائياً من يحاول أن يتحداها.
لا تستطيع ولو كنت أسود أن توجه خطاباً مختلفاً إلى المجتمع الأسود، حتى بعد نصف قرن من إقرار الحريات المدنية. ستلتقط كتائب الدعاية حدثاً أو مظلمة وستقنع العالم بأنها التمثيل الحقيقي لوضع هذا المجتمع، وستطلق عليك ألقاباً سلبية. والمقابل السياسي أن تجيش هذا المجتمع نحو انتخاب تيار بعينه، تيار لن يقدم لهم ما يحسن أوضاعهم جوهرياً؛ لأن جوهر دعايته مقولة «أنتم زي الفل» والآخرون هم السبب. ليس عليكم أن تفعلوا شيئاً أفضل مما تفعلون، بل على الآخرين، من الأوسكار حتى برامج المسابقات، أن يمنحوكم حصيلة أكبر في الجوائز.
والكلام نفسه يسري على المجتمع المسلم في الدول الغربية. وهو مجتمع يتعامل مع سياسات الهوية بشكل غريب. قيادات هذا المجتمع التي لها صلات واضحة مثبتة بتنظيمات سياسية إسلامجية فهمت ثقافة الفجاجة التسويقية تلك في موضوع سياسات الهوية، وفهمت المساومة السياسية المصاحبة لها، والتي يمكن بها أن تستفيد منها استفادة مباشرة، لصالح رغبات التنظيمات، وليس لصالح المسلمين العاديين، فعمدت إلى استصدار قوانين تحمي أفكارها من الانتقاد، بدعوى أن المسلمين طائفة مضطهدة، وحالياً يُمرر الكونغرس قانوناً لمكافحة «الإسلاموفوبيا».
لكن، لاحظوا، تفعل ذلك وتنظيماتها تروّج للعكس تماماً تجاه الأقليات في الدول المسلمة، فتصبح أفكار التنظيم محمية من الانتقاد في الدول الغربية بموجب قوانين الإسلاموفوبيا، ومحمية من الانتقاد في الدول المسلمة بحكم الضغط الجماهيري. المحصلة، مكسب أكيد للتنظيمات السياسية الدينية، ومكسب انتخابي للحزب الذي ساومها على ذلك، لكن خسارة كبرى للمسلمين سيشعرون بها في نقطتين أساسيتين.
أولاً: انتقاد ما يتطرف من الأفكار الإسلامية يسهم في تجفيف التغذية الفكرية للإرهاب، والمسلمون الضحية الأولى له. ويسهم في تقليل قيود تنغيص الحياة التي كبلت بها الجماعات السياسية الإسلامية حياتهم اليومية العادية، علينا أن نحمي الضحايا لا المتطرفين.
ثانياً: قانون كهذا يفوّت على المجتمعات المسلمة ما تحتاج إليه فعلاً، المواطنة، التعود على الخضوع لنفس القوانين التي تسري على أبناء العقائد الأخرى، آخر ما يحتاج له المسلمون النظر إلى أنفسهم في كل مكان على أنهم جماعة تحظى بمعاملة تمييزية، هناك لأنها «مضطهدة»، وهنا لأنها «أغلبية». لو احتجنا إلى قوانين حماية من الانتقاد فأولى بها حماية أقليات الشرق الأوسط، من أجل استعادة التنوع الأساسي لهذه المنطقة الثرية بحضاراتها التاريخية، وخلق بيئة مرحبة تحلو الحياة فيها.
ثم إن اليهود احتاجوا في فترة إلى قوانين «مكافحة معاداة السامية» لأنهم كانوا ضحية أفكار تشيطن أفعالهم اليومية العادية، أما الإسلام فديانة كبرى يدين بها خُمس العالم، يقارن بالمسيحية. هل هناك قوانين «كريستيانو فوبيا»؟ غياب قوانين «الكريستيانو فوبيا» جعل المسيحية أقوى، وسمح لمجتمعاتها بالتطور مع العصر. الإسلامجية يضرون المجتمعات المسلمة ليكسبوا حماية لأفكارهم وتنظيماتهم على حساب حياة المسلمين ومستقبل أبنائهم.
الشرق الأوسط