معارك حاسمة بين الإسلام وأوروبا - Articles
Latest Articles

معارك حاسمة بين الإسلام وأوروبا

معارك حاسمة بين الإسلام وأوروبا

محمد يسري:

 

لم يمر وقت طويل بعد تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، حتى تطلّع المسلمون لغزو الأقاليم المتاخمة لهم، فكانت بلاد الشام والعراق وفارس ومصر هي الميادين الأولى التي سعى فيها العرب لإثبات تفوقهم العسكري.

بدأت العلاقة بين الإسلام والغرب مع وقوع الصدام في بلاد الشام، عندما استطاعت دولة الخلافة أن تقضم جزءاً كبيراً من أملاك البيزنطيين في الشرق الأدنى.

وعلى مدار أربعة عشر قرناً، اندلعت عشرات المعارك بين المسلمين والغرب الأوروبي، بعض تلك المعارك صاحبته آثار ونتائج إستراتيجية وسياسية بالغة الخطورة، بحيث أصبح من العسير تحديد شكل العلاقات التاريخية بين الطرفين وبين فروع كل منهما، بمعزل عن دراسة تلك المعارك.

اليرموك... فتحت الطريق للمسلمين

من المعروف أن المسلمين بعد وفاة الرسول واجهوا انقلاباً داخل شبه الجزيرة العربية، وذلك عندما ارتدّت مجموعة كبيرة من القبائل معلنة رفضها الخضوع لسلطة دولة الخلافة.

بعد القضاء على هذا التمرد، تم توجيه الجيوش الإسلامية ناحية بلاد العراق والشام، وتمكن القادة المسلمون من تحقيق العديد من الانتصارات السريعة على الجبهتين.

في العام الخامس عشر من الهجرة، وبعد أربع سنوات على وفاة النبي محمد، اضطر المسلمون لجمع جيوشهم المقاتلة على الجبهة الشامية للدخول في معركة حاسمة مع الجيوش البيزنطية التي جمعها الإمبراطور هرقل من شتى أنحاء إمبراطوريته في محاولة أخيرة للحفاظ على أملاكه المسلوبة.

في الوقت الذي تتغافل فيه المصادر البيزنطية عن ذكر تفاصيل المعركة، فإن المصادر الإسلامية، ومنها على سبيل المثال "تاريخ الرسل والملوك" للطبري و"الكامل في التاريخ" لابن الأثير، تقدّر أعداد المسلمين في المعركة بما يقرب من 35 ألف مقاتل، بينما تحدد عدد البيزنطيين بما يزيد عن مئتي ألف جندي.

وبحسب الطبري وابن الأثير، استمرت الحرب بين الجانبين ستة أيام متواصلة، وانتهت بانتصار ساحق للمسلمين، كان الفضل فيه للخطة العسكرية المُحكمة التي وضعها القائد خالد بن الوليد.

وتتمثل أهمية المعركة في كونها أولى المعارك الكبرى التي وقعت بعد توحد العرب جميعاً إثر انتهاء حروب الردة، إذ شارك فيها العديد من القبائل العربية التي سبقت معارضتها للحكومة المركزية في المدينة.

وفي الوقت ذاته، شهدت المعركة اشتراك الكثير من رموز قريش التي لطالما عارضت الإسلام وناهضته في ما سبق، وعلى رأسهم أبو سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل.

في كتابه "سيف ومعقوف"، يوضح الكاتب الأمريكي ريموند إبراهيم الأهمية الاستراتيجية للانتصار الإسلامي في اليرموك، بقوله إن هذا الانتصار قد أعقبته انطلاقة حقيقية لمد السيطرة الإسلامية على معظم الأملاك البيزنطية في منطقة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، كما أسهمت المعركة بشكل موسع في تدفق الهجرات البشرية من شبه الجزيرة العربية إلى تلك الأراضي، لتتحول الهوية الدينية لبلاد الشام ومصر وبلاد المغرب مع الوقت من المسيحية إلى الإسلام، بالتزامن مع تحول ديموغرافي ثقافي تجاه العنصر العربي، وهي الآثار التي لا تزال حتى اللحظة الراهنة.

وفي كتابه المهم "الإسلام في حرب"، يؤكد الكاتب الأمريكي المتخصص في تاريخ الحروب جورج نافزيكر على أهمية معركة اليرموك في تاريخ المنطقة، فيقول: "بالرغم من أن معركة اليرموك لا تحظى بشهرة كبيرة اليوم، فإنها واحدة من أكثر المعارك الحاسمة في تاريخ البشرية... ولو حققت قوات هرقل النصر، لكان العالم الحديث مختلفاً جداً وغير محدد المعالم".

بلاط الشهداء... هزيمة أوقفت التمدد الإسلامي المبكر نحو أوروبا

تعتبر معركة "تور بواتييه"، بحسب التسمية الغربية، أو معركة "بلاط الشهداء" كما تسميها المصادر الإسلامية، واحدة من أكثر المعارك التي وقعت بين الإسلام والغرب، شهرة وتأثيراً.

في تشرين الأول/ أكتوبر عام 732 (رمضان 114هـ)، وقعت المعركة بالقرب من مدينة بواتييه في وسط غرب فرنسا بين جيش المسلمين بقيادة والي الأندلس عبد الرحمن الغافقي من جهة، وجيش الفرنجة بقيادة شارل مارتل - الحاكم الفعلي للإمبراطورية الفرنجية - من جهة أخرى.

كان وصول المسلمين لتلك المنطقة في فرنسا أمراً طبيعياً بعدما أتموا فتح بلاد الأندلس، حيث تمثل حلم الغافقي بمدّ سيطرته على أوروبا الغربية كلها.

ورغم قلة المعلومات المتوافرة عن المعركة، اتفقت المصادر الغربية على الانتصار الساحق الذي حققته جيوش الفرنجة على المسلمين، إلى الحد الذي جعل تلك المصادر تطلق على شارل صفة مارتل، أي المطرقة.

ومن الغريب أن تلك المعركة، رغم أهميتها الفائقة، لم تحظ باهتمام كبير عند المؤرخين المسلمين، فنجد أن ابن عذارى وابن حيان والمقري قد ذكروها في مؤلفاتهم بشكل مقتضب، بينما تغافل العديد من المؤرخين الكبار الأوائل من أمثال الطبري والواقدي والبلاذري عن ذكرها تماماً.

وتمثلت أهمية المعركة في تثبيت حكم الأسرة الكارولنجية في بلاد الغال (فرنسا حالياً)، وهو ما مهد لظهور الإمبراطورية الرومانية المقدسة في عهد شارلمان، حفيد شارل مارتل، ومن جهة أخرى أنقذت تلك المعركة أوروبا من المد الإسلامي الذي كان من الممكن أن يصل لجميع الدول المجاورة.

وحاول المؤرخ الإنكليزي الذي عاش في القرن الثامن عشر إدوارد غيبون أن يُبيّن في كتابه "اضمحلال الامبراطورية الرومانية وسقوطها" الأهمية الكبرى لانتصار الفرنجة في المعركة، فقال إن "خط النصر امتد لألف ميل من صخرة جبل طارق إلى شاطئ اللوار، وقطع مسافة مساوية كان سيحمل المسلمين إلى حدود بولندا ومرتفعات اسكوتلندا"، مضيفاً "الراين ليس أكثر صعوبة من النيل أو الفرات، والأسطول العربي لربّما كان أبحر من دون معركة بحرية إلى مصب التايمز. ولربما كان تفسير القرآن الآن يعلّم في مدارس أكسفورد، وتلاميذها قد يتظاهرون لتلقين الناس قداسة الوحي المحمدي وحقيقته".

وفي دراسته "معركة بلاط الشهداء (تور ــ بواتييه) نظرة جديدة"، أشار أستاذ التاريخ الوسيط في جامعة إيماكولاتا في مدينة نيويورك وليام واتسن إلى جانب آخر مهم نتج عن انتصار الفرنجة، وهو أن "المعركة جاءت بعنصر جديد إلى ساحة الصراع، ألا وهو الجيش الفرنجي الذي بدأ حملةً هجومية ضد القواعد الإسلامية جنوباً بعد سنوات قليلة من انتصار شارل في المعركة".

ملاذكرد... انتصار السلاجقة الذي تسبب في قدوم الحروب الصليبية

في أواسط القرن الخامس الهجري، استطاع السلاجقة الأتراك أن يفرضوا سلطانهم على الخلافة العباسية، فأضحى السلطان السلجوقي طغرلبك صاحب السلطة الحقيقية في بغداد، بينما احتفظ الخليفة العباسي القائم بأمر الله بنفوذه الروحي.

وصول السلاجقة إلى السلطة دفع بهم إلى خط المواجهة مع الإمبراطورية البيزنطية، حيث بدأت المناوشات الحربية بين القوتين في التخوم والمناطق الحدودية الفاصلة بينهما، وخصوصاً في مناطق آسيا الصغرى وتركيا الحالية.

وفي آب/ أغسطس عام 1071، وقعت إحدى أهم المعارك بين السلاجقة والأتراك في منطقة ملاذكرد في محافظة موش التركية حالياً.

حصل ذلك عندما زحف الإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع ديوجينيس بجيوش تقدرها المصادر الإسلامية، ومنها ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ"، بمئتي ألف مقاتل من الروم والروس والكرج والأرمن والخزر والفرنجة والبلغاريين بهدف القضاء المبرم على القوة السلجوقية.

حاول السلطان السلجوقي ألب أرسلان أن يعقد هدنة معه، ولما خابت مساعيه، حشد جيشاً من أربعين ألف مقاتل تركي، وتلاقى الغريمان في موقعة دامية انتهت بانتصار حاسم للمسلمين ووقوع الإمبراطور في الأسر.

وساهمت المعركة بشكل واضح في إحداث تغييرات سياسية مهمة في معادلة القوى في المنطقة، سواء على المدى القصير أو على المدى البعيد.

ويذكر عبد النعيم محمد حسنين في كتابه "إيران والعراق في العصر السلجوقي" أن وقوع الإمبراطور رومانوس في الأسر كان سبباً رئيساً في عزله من الحكم في بيزنطة، واختيار حكام جدد لا يميلون للتوسع على الجبهة الشرقية، وهو ما ترتب عليه ازدياد التوغل التركي في المناطق الحدودية القريبة من القسطنطينية وتكثيف هجرات القبائل السلجوقية الرعوية إلى آسيا الصغرى.

سيستفيد العثمانيون مستقبلاً من هذه الخطوة على الوجه الأمثل في فرض سلطتهم ونفوذهم في منطقة الأناضول بأسرها، مما سيعتبر تمهيداً لفتح القسطنطينية عام 1453.

التأثير الأهم للمعركة كان باعتبارها، عقب انتصار المسلمين فيها، أحد الأسباب المباشرة في استدعاء الحملات الصليبية إلى المشرق الإسلامي.

وبحسب ما يذكر جوزيف نسيم يوسف في كتابه "العرب والروم واللاتين في الحرب الصليبية الاولى"، فإن أباطرة بيزنطة بعد المعركة هرعوا إلى إرسال الرسائل إلى باباوات روما وإلى السادة الإقطاعيين في أوروبا، طالبين منهم يد المعونة والمساعدة ضد الأتراك المسلمين.

وكانت استجابة البابا أوربان الثاني في المجمع الديني المنعقد في كليرمونت عام 1095، والذي دعا فيه لإرسال الحملات الصليبية إلى بلاد الشام والأناضول، هي رد الفعل الذي انتظرته القسطنطينية، لتبدأ بذلك مرحلة الحروب الصليبية التي امتدت نحو مئتي عام.

عسقلان وحطين... معارك بيت المقدس

كانت لدعوة البابا أوربان الثاني، أبلغ الأثر في حشد الآلاف من الفلاحين والعمال الأوروبيين الذين اتجهوا صوب المشرق الإسلامي، آملين "تحرير مدينة الرب المقدسة من أيدي الكفار المسلمين الذين يحتلونها".

تلك الحملة التي تسميها المصادر التاريخية بالحملة الشعبية، هُزمت وتم القضاء عليها بواسطة السلاجقة الذين لم يجدوا صعوبة في الانتصار على خصمهم غير المدرب، لكن سرعان ما وصلت الحملة الصليبية الأولى التي اشترك فيها الآلاف من المقاتلين المدربين بقيادة مجموعة من الأمراء الإقطاعيين.

وعام 1099، استطاع الصليبيون أن يهزموا السلاجقة في أكثر من معركة، ثم حققوا هدفهم الرئيس بالاستيلاء على بيت المقدس، وهو الأمر الذي أدخل الدولة الفاطمية إلى ساحة المعركة، لكونها صاحبة السيادة على فلسطين في ذلك الوقت.

وبحسب ما يذكر جيمس واترسون في كتابه المهم "سيوف مقدسة: الجهاد في الأراضي المقدسة"، فإن الوزير الفاطمي الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي قاد جيشاً قوامه عشرين ألف جندي لتحرير بيت المقدس، ولكن الصليبيين الأكثر خبرة ومهارة قطعوا على الجيش الفاطمي الطريق في عسقلان، واستطاعوا أن ينزلوا بهم هزيمة فادحة بقتل وأسر نحو عشرة آلاف جندي.

وتُعدّ هذه المعركة، رغم عدم شهرتها، المحاولة الإسلامية الأولى لاستعادة المدينة المقدسة من يد الصليبيين، ويمكن ربط عدم شهرتها بكونها محاولة شيعية فاطمية، وهذا ما استلزم إسقاطها من المدونة التاريخية السنية، وتهميشها حتى يظهر الجهاد الإسلامي في فلسطين وكأنه جهاد سني محض.

وظهرت أبرز نتائج معركة عسقلان في تدعيم القوة الصليبية في المشرق، بحيث كانت فاتحة لاستمرار الحملات الصليبية على بلاد الشام، وتدفق عشرات الآلاف من الأوروبيين إليها.

ورغم تعدد المعارك التي أعقبت عسقلان بين المسلمين والصليبيين، فإن المعركة الأكثر شهرة وتأثيراً في سلسلة الحروب الصليبية، كانت معركة حطين عام 1187 (583 هـ)،

عقب وصول الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى السلطة في مصر وقضائه على الدولة الفاطمية عام 1171 (567 هـ) ، بدأ في تنفيذ أولى خطوات مشروعه الطموح الذي يستهدف جمع مصر والشام في دولة واحدة، فعمل على استخلاص المدن الشامية من أيدي ورثة أستاذه نور الدين محمود.

خلال تلك الفترة، كانت علاقة صلاح الدين بمملكة بيت المقدس متوترة، ففي بعض الأحيان كانت تسود روح السلم والمهادنة، بينما تجري في أحيان أخرى بعض المعارك والمناوشات التي يتبادل فيها الطرفان النصر والهزيمة.

حالة اللاسلم واللاحرب سرعان ما انتهت بعد وصول غي دي لوزينيان إلى كرسي الحكم في بيت المقدس، فالملك الجديد أيد بعض الأمراء المتشددين في أعمالهم العنيفة ضد التجار المسلمين العزل.

وبحسب ما يذكر واترسون في كتابه المذكور آنفاً، فإن صبر صلاح الدين على تلك الأفعال الإجرامية نفذ بعدما تعرض حاكم الكرك والشوبك الفارس رينولد دي شاتيون، وهو نفسه الذي تسميه المصادر العربية بأرناط، لقافلة من الحجيج المسلمين فقتل عدداً كبيراً من أفرادها.

لعب تأييد دي لوزينيان لرناط في تصرفاته العبثية، ورفض تسليمه لصلاح الدين، دوراً في تعجيل وقوع الحرب بين الصليبيين والأيوبيين المتعطشين للثأر.

وكما يذكر إريك دورتشميد في كتابه "دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ"، فإن الحل الأفضل للصليبيين كان يتمثل في التحصن في بيت المقدس، والاستفادة من أسوارها العالية، ولكنهم بدلاً من ذلك اختاروا أن يلاقوا الجيوش الأيوبية في معركة مفتوحة، رغم معرفتهم بتفوق المسلمين العددي عليهم، وهو ما وقع في حطين، وأسفر عن هزيمة فادحة للصليبيين ومقتل عدد كبير من قواتهم، بالإضافة إلى وقوع بعض قادتهم أسرى لدى المسلمين.

ومن أهم نتائج المعركة أنها فتحت الطريق أمام صلاح الدين للوصول إلى بيت المقدس، وهو الأمر الذي أظهره بمظهر البطل في جميع جنبات العالم الإسلامي، كما ساهم في تسريع عجلة توحيد البلاد الشامية تحت قيادته.

أما بالنسبة إلى الصليبيين، فقد أثرت تلك الهزيمة كثيراً في الدول الأوروبية الكبرى، وهذا ما أسفر عن إرسال الحملة الصليبية الثالثة التي انضوت تحت لوائها مجموعة من أقوى ملوك العالم المسيحي الكاثوليكي.

بالإضافة إلى ما سبق، ساعد انتصار صلاح الدين في معركة حطين، والمعاملة السمحة التي عامل بها الأسرى والمهزومين في التركيز على شخصيته في الثقافة الغربية الشعبية، فأضحى واحداً من النماذج الإسلامية النادرة التي يُنظر إليها بتبجيل واحترام في العالم الكاثوليكي.

معركة العُقاب... تمهيد لطرد المسلمين من الأندلس

في تموز/ يوليو عام 711 (رمضان 92 هـ)، انتصر المسلمون على القوط في موقعة وادي لكة أو وادي برباط، لينفتح لهم الطريق نحو غزو شبه الجزيرة الأيبيرية، ولتبدأ فترة الحكم الإسلامي في الأندلس.

على مدار نحو ثمانية قرون، خاض الإسبان والبرتغاليون حروباً مريرة ضد المسلمين، وهي تلك التي عُرفت باسم حروب الاسترداد، وتبادل الطرفان فيها النصر والهزيمة مراراً.

واستمدت الدول الإسلامية التي قامت في الأندلس شرعيتها السياسية من واقع الحرب ضد مسيحيي الشمال الذين توزعوا في دول نافارا وقشتالة وليون وأراجون.

في عهد الدولة الأموية في الأندلس، خاض عبد الرحمن الداخل الحرب ضد إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة شارلمان، واستطاع أن يرده خائباً إلى فرنسا، أما في عهد حفيده عبد الرحمن الناصر، فذكر محمد عبد الله عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس" أخباراً وتفاصيل انتصار الأمويين في معارك مهمة مثل خونكيرا وقشتالة، قبل أن يتعرضوا لهزيمة مدوية في الخندق عام 327هـ.

المنصور بن أبي عامر أيضاً تمكن في ما بعد من إنزال هزائم ساحقة بممالك الشمال النصرانية، إلا أن الآية انقلبت، بعد تفتت مملكته وقيام ملوك الطوائف، وتحقق للإسبان التفوق العسكري على المسلمين.

وعام 1086 (479 هـ)، استطاع أمير المرابطين يوسف بن تاشفين المتحالف مع ملوك الطوائف أن يحقق انتصاراً هائلاً على ملك قشتالة وليون ألفونسو السادس في موقعة الزلاقة، بينما تمكن الخليفة الموحدي يعقوب المنصور، عام 1195 (591هـ)، من توجيه ضربة شديدة لممالك الشمال عقب انتصاره على ألفونسو الثامن في معركة الأرك.

تغيّر الوضع العسكري في الأندلس بشكل كبير بعد معركة الأرك، وعام 1212 (609هـ)، وجد الخليفة الموحدي الناصر لدين الله نفسه مجبراً على إظهار قوته للإسبان الذين حققوا بعض الانتصارات المتوالية على قواته، ولذلك تحرك بجيوشه المغربية إلى الأندلس.

ويذكر المؤرخ الألماني يوسف أشباخ في كتابه "تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين" أن عدد مقاتلي الجيش الإسلامي الذين اصطحبهم الخليفة الموحدي معه إلى الأندلس بلغ نحو نصف مليون مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي يقاتل في الأندلس عبر تاريخها.

وكان الناصر قد اتخذ من قلعة شلبطرة هدفاً لحملته، فتوجه إليها وحاصرها ثمانية أشهر، وأخيراً استطاع الموحدون إجبار حامية القلعة على الاستسلام، ولكن في مقابل ذلك كانت حالة الجيش الموحدي بالغة السوء. يصفها ابن أبي زرع الفاسي، في كتابه "روض القرطاس"، بقوله: "دخل فصل الشتاء، واشتد البرد وقلت العلوفات، وفنيت أزواد الناس، ونفذت نفقاتهم، وكلت عزائمهم، وفسدت نياتهم التي قصدوا بها للجهاد، وقنط الناس من المقام".

ورداً على سقوط القلعة، خرجت جيوش الإسبان المتحالفة مع باقي القوى الأوروبية، واصطدمت بالجيش الموحدي المُنهك، في موقعة العُقاب، حيث استطاعت أن تلحق به هزيمة مدوية، فقُتل الآلاف من المسلمين، وتم أسر جزء كبير منهم، وهرب الناصر إلى المغرب ولم يرجع إلى الأندلس مرة أخرى.

ولم تقتصر نتائج تلك الهزيمة على وضع نهاية للحكم الموحدي فقط، بل تعدت ذلك إلى تضييق الخناق على جميع المسلمين بالأندلس، فبعد هزيمة العُقاب التي وصفها ابن عذاري في كتابه البيان المغرب "بأنها السبب في هلاك الأندلس"، ترهلت السلطة الموحدية، وسرعان ما استولى بنو مرين على أملاكها في المغرب، بينما استولى الإسبان على حواضر الأندلس الكبرى بشكل متتابع، فدخلوا قرطبة عام 1236، ومرسية عام 1243، ثم ضموا إشبيلية عام 1248.

وحدها غرناطة حافظت على استقلالها السياسي بعدما تمكن محمد بن نصر بن الأحمر عام 1232 من ضم بعض مناطق جنوب الأندلس إلى سلطته، ومكث يحكم هو وأبناؤه تلك المساحة الضيقة 160 عاماً، استطاعوا في معظم فتراتها أن يمسكوا بالعصا من منتصفها، فأقاموا علاقات دبلوماسية هادئة مع كل من المرينيين والقشتاليين.

ظل الوضع على حاله حتى عام 1492 عندما دخل ملك قشتالة فرديناند مع زوجته إيزابيلا ملكة أراغون إلى غرناطة بعد أن سلمها إليهم أبو عبد الله الصغير آخر ملوك بني الأحمر، ليسقط بذلك حصن الإسلام الأخير في الأندلس.

من هنا نستطيع أن نفهم سبب احتفاء الإسبان حتى اليوم بالانتصار الذي حققه أجدادهم في معركة العُقاب، حيث شكل الانتصار في هذه المعركة بداية النهاية للوجود الإسلامي في الأندلس كلها.

فتح القسطنطينية... العثمانيون على أبواب أوروبا الشرقية 

على الرغم من نجاح المسلمين في اجتياح الولايات الشامية واستخلاصها من أيدي الإمبراطورية البيزنطية، ظلت القسطنطينية، عاصمة البيزنطيين، بضعة قرون هدفاً عصياً على الجيوش الإسلامية.

بحسب ما ورد في الكثير من كتب الحديث، منها على سبيل المثال مسند أحمد بن حنبل، فإن النبي محمد قد بشر أصحابه بفتح عاصمة الروم، بقوله "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش".

تلك البشرى شجعت العديد من الخلفاء، تحديداً الأمويين، على إرسال الجيوش الإسلامية تباعاً نحو أسوار المدينة العريقة، ولكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل بسبب قوة التحصينات الدفاعية والظروف المناخية الصعبة المُجهضة لأي حصار طويل.

مع استيطان القبائل التركية القادمة من بلاد ما وراء النهر لآسيا الصغرى بعد معركة ملاذكرد، وقع التماس بين العثمانيين والبيزنطيين، وبدأ العثمانيون في توجيه أنظارهم غرباً إلى أوروبا، حيث مثلت لهم القسطنطينية الباب الواسع الذي سيقودهم إلى أوروبا الشرقية.

ورغم أن حلم فتح القسطنطينية كان قريباً جداً من السلطان بايزيد الأول، المعروف بيلدرم (الصاعقة)، فإن هزيمة جيوشه في معركة أنقرة عام 1402 أمام فيالق تيمورلنك عطّلت سقوط العاصمة البيزنطية نحو نصف القرن.

في عهد السلطان محمد الأول، وهو الذي عُرف بالفاتح، تم إعداد العدة لإتمام عملية الغزو.

يشرح المحامي محمد فريد بك، في كتابه "تاريخ الدولة العلية العثمانية"، الخطوات التي قام بها السلطان في سبيل إنجاح غزوته. ومما أورده أن الفاتح جمع نحو ربع مليون مقاتل وفكك عشرات السفن الحربية ونقلها عن طريق البر، وأعاد جمعها في منطقة القرن الذهبي لتجاوز السلسلة الحديدية الدفاعية التي أمّن بها البيزنطيون شواطئهم البحرية، بالإضافة إلى استقدام مهندس مجري خبير في صناعة المدافع الضخمة، وحضّه على صنع نحو أربعة عشر مدفعاً ضخماً تم نشرها حول أسوار المدينة.

من جهته، يظهر الكاتب الإنكليزي فيليب مانسيل، في كتابه "القسطنطينية: المدينة التي اشتهاها العالم"، الآثار المهمة التي نتجت عن فتح المعقل البيزنطي الأهم، فمن جهة استطاع العثمانيون وضع قدمهم في القارة الأوروبية، وتتابعت فتوحاتهم في بلغاريا وصربيا والبوسنة وألبانيا والمجر، وتمكنوا من نشر الإسلام وسط الكثير من أبناء تلك الشعوب، ومن جهة أخرى انتقل مركز الثقل الأرثوذكسي في العالم الغربي من القسطنطينية إلى روسيا، لتتقوقع الأرثوذكسية على نفسها وتترك للإسلام مجالاً واسعاً للانتشار والتمدد.

حصار فيينا... نقطة نهاية في مسيرة التوسع العثماني في أوروبا

لم تقتصر تأثيرات ولوج العثمانيين إلى أوروبا على تقدمهم في الجانب الشرقي منها، بل إن سلاطين بني عثمان مارسوا أدوارهم الجديدة على مسرح الحياة السياسية الأوروبية، فصاروا يشاركون في المعاهدات والعلاقات الدبلوماسية أحياناً، واندفعوا إلى الحرب والقتال في أحيان أخرى.

في عهد السلطان العثماني العاشر سليمان القانوني (1520-1566)، تمكن العثمانيون من الوصول لأوج مجدهم وهيمنتهم العسكرية، وتطلع القانوني لفرض نفوذه على أوروبا الغربية، لكنه اصطدم بقوة عائلة الهابسبورغ التي تحكم ألمانيا والنمسا وإسبانيا، والتي كان سليلها شارل الخامس يحمل لقب إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة.

بحسب ما يذكر برنارد لويس في كتابه "الغرب والإسلام"، فإن القانوني انتهز فرصة صدام شارل مع ملك فرنسا فرنسوا الأول، ليعقد تحالفاً سياسياً عسكرياً مع الأخير.

وبحسب ما يذكر المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه "تاريخ الدولة العثمانية"، فإن القانوني المتطلع للاستيلاء على بلاد المجر، تحرك من عاصمته عام 1526، على رأس نحو مئة ألف من المقاتلين العثمانيين المزودين مئات المدافع الثقيلة.

بعد قرابة أربعة أشهر، وصل السلطان إلى وادي موهاكس الذي يقع في جنوب المجر، حيث التقت قواته بقوات ملك المجر لايوش الثاني التي قيل إنها وصلت لمئتي ألف مقاتل، وعقب معركة استمرت عدة ساعات، تحقق الانتصار الساحق للعثمانيين، وتمكنوا من ضم المجر لتصبح ولاية عثمانية جديدة في ممتلكاتهم الواسعة.

وعام 1529، أقدم القانوني على تنفيذ ضربته الجديدة، عندما أصدر أوامره بالتحرك نحو فيينا، فاخترق نحو 120 ألف مقاتل عثماني، مدعمين بثلاثمئة مدفع والعديد من أدوات الحصار، الشرق الأوروبي كله، وصولاً إلى مدينة فيينا التي حاصروها حصاراً قاسياً نحو شهر، غير أنهم اضطروا إلى فك الحصار بعد تساقط الأمطار الغزيرة والثلوج، وعقد الصلح بين شارلمان وفرانسوا بوساطة البابا.

في مقطع من فيلم وثائقي يتناول حصار فيينا، يذكر المؤرخ مايكل هوشدليينغز التأثير الناتج من فشل الحصار العثماني لعاصمة النمسا بقوله: "حصار فيينا لم يكن حدثاً نمساوياً... مع خسارة فيينا كان الهابسبورغيون سيخسرون منطقة مركزية، ثم موقعهم في أوروبا، وهو الأمر الذي بدا في مصلحة الفرنسيين الذين كانوا سيملأون الفراغ السياسي لو حدث ذلك".

معنى ذلك أن فشل العثمانيين في حصار فيينا كان نقطة فاصلة في تاريخ العلاقات الإسلامية –الغربية، فلو قُدر لهذا الحصار أن يستمر لكان من المتوقع أن تنقلب موازين القوى الأوروبية رأساً على عقب، وتتحول دول أوروبا الغربية برمتها إلى الوجهة الإسلامية، ويفرض العثمانيون هيمنتهم على أنحاء القارة البيضاء.

ومن المفارقات الغريبة أن وادي موهاكس الذي شهد انتصاراً عثمانياً ساحقاً في عهد القانوني شهد عام 1687 هزيمة مدوية للعثمانيين، عندما دُحرت قوات السلطان محمد الرابع أمام الجيوش النمساوية، وهي المعركة التي عُرفت باسم موهاكس الثانية، وكانت بداية انهيار القوة العثمانية في أوروبا.

رصيف 22

Related

Share

Rating

0 ( 0 reviews)

Post a Comment

Category
Author
More Options
  • Recent
  • Popular
  • Tag
Tags