عبد الهادي حريبة:
قبل أيامٍ، أعلن البابا تواضروس، بابا الكنيسة الأرثوذكسية في مصر، رفضه التام لفكرة "الدين الإبراهيمي"، فهي حسب قوله، فكرة أنتجها مصنع العالم، أي الغرب، ويرفضها معبد العالم، أي الشرق.
رفضُ البابا، يَعقبُ رفضاً بدا مفاجئاً في حينه، من جانب شيخ الأزهر، الإمام أحمد الطيب، الذي عدّ "الإبراهيمية" أضغاث أحلام، ودعوةً خطيرةً تهدف إلى مزج الديانات السماوية الثلاثة، الإسلام والمسيحية واليهودية، مزجاً يخلط بين احترام عقيدة الآخر، وبين الاعتراف بها.
لكن هذا الرفض، المبني على أسس عقدية إسلامية، أو لاهوتية مسيحية، لم يتطرق إلى ما تطرق إليه مجلس الإفتاء الفلسطيني، الذي زاد في تبيان أسباب رفضه للفكرة، ما تنطوي عليه من مخاطر سياسية.
فالمشروع الإبراهيمي يُمثّل توظيفاً سياسياً، يستفيد منه الاحتلال الإسرائيلي، لترسيخ حقّه المزعوم، وما يُعرف بـ"مسار إبراهيم" ليس إلا إعادة ترسيم لخريطة الشرق الأوسط، بما يتماهى مع خريطة إسرائيل الكبرى.
فضمن أكبر مخاطر مخطط الدين الإبراهيمي، إضفاء "قداسة" على طريق يُسمّى "مسار إبراهيم"، وهو الطريق الذي تذهب الروايات الدينية الثلاث، على الرغم من اختلافها –ومن دون استبعاد واحدة منها- إلى أن نبي الله إبراهيم سلكه هو وعائلته قبل أربعة آلاف عام، وهو المسار الذي يبدأ من حران في تركيا، ويمر بسوريا والعراق ومصر والأردن ولبنان والسعودية وإيران وفلسطين، وينتهي في مدينة الخليل حيث دُفن أبو الأنبياء.
هذا الرفض المتتالي، المبني على أسس دينية وسياسية، هو بمثابة إعلان فشل للدين الجديد، الذي دشّنته واشنطن منذ بداية الألفية، وبدأت خطواته على الأرض في العقد الثاني منها، وتحمست له إسرائيل، وتبنّته ورعت مخرجاته وأنفقت على ترويجه دولة الإمارات العربية.
على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، جاء أول إطلاق سياسي رسمي لما سُمّي بالإبراهيمية، حين وصف اتفاق التطبيع بين أبو ظبي وتل أبيب، عام 2020، بأنه "اتفاق إبراهيمي"، خلافاً لما جرت عليه العادة، بإطلاق أسماء مدن على مثل هذه الاتفاقات، عرفاناً بالدور الذي لعبته الدولة الوسيطة فيه.
الفكرة التي بدأت إرهاصاتها في تسعينيات القرن الماضي، يُقال إن الأصولي المصري، سيد نصير، المسجون لدى الولايات المتحدة، بتهمة قتل حاخام يهودي، كان أول من فكّر فيها، وأرسل مقترحاً بهذا المضمون، إلى مسؤولين أمريكيين، بينهم سيدة البيت الأبيض حينها، هيلاري كلينتون.
ثم ظهرت لاحقاً في أبحاث ودراسات داخل جامعتَي هارفارد فلوريدا، ومراكز بحثية كمؤسسة (راند)، فانتقلت بذلك من أروقة البحث إلى فضاء السياسة والإعلام.
وفي العام 2013، أقرّ وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، جون كيري، بالأرضية المشتركة بين الديانات الإبراهيمية، وبتأثير "الدين العالمي"، في مواجهة التهديدات التي تلوح في الأفق في الولايات المتحدة، معلناً إنشاء مكتب المبادرات المجتمعية، القائم على الإيمان، ويهدف إلى إشراك رجال الدين في العمل مع الدبلوماسيين.
ببساطةٍ، ترتكز الفكرة على استثمار قدسية نبي الله إبراهيم، ومحورية تأثيره في الديانات الثلاثة، الإسلام والمسيحية واليهودية، بجعل اسمه مرجعاً لدين جديد، قوامه القيم المشتركة بين هذه الديانات، وتقديمها في كتاب "إبراهيمي" مقدّس، يكون بديلاً عن كتب التوراة والإنجيل والقرآن، وتأسيس دور عبادة "إبراهيمية"، تضم المسجد والكنيسة والكنيس معاً. وفي العام الحالي، من المقرر أن تفتتح دولة الإمارات العربية، أول "بيت إبراهيمي" يُوضع للناس في جزيرة العرب!
أنشأت الإمارات كياناتٍ ومؤسساتٍ تكون رأس حربة للفكرة. وفي منتدى السلم، الذي عُقد في أبو ظبي، في كانون الأول/ ديسمبر 2019، أطلقت ما سمته "ميثاق حلف الفضول الجديد"، الذي وقَّعت عليه قيادات دينية يهودية ومسيحية وإسلامية، وعدّه رئيس المنتدى، الشيخ عبد الله بن بيه، ميثاقاً أصَّلته العائلة الإبراهيمية في أبو ظبي، ويمكن أن يُشكّل مرجعيةً دينيةً قوية.
كان يمكن للفكرة أن تكون محل جدل لاهوتي خالص، بين مؤيدين ورافضين، لكن خطرها السياسي هو ما استدعى الوقوف أمامها، وهو خطر تُؤكد عليه الباحثة هبة جمال الدين، في كتابها "الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي: المخطط الاستعماري للقرن الجديد"، إذ تذهب إلى أن الترويج لهذا المشترك الديني، يُمهّد لتغييب التناقض الوجودي بين المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني، والحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.
في هذا الإطار، تبدو المخاوف من موجة التطبيع العربي الأخيرة مع إسرائيل، في محلّها، فالموجة التي وقّعت فيها أربع دول عربية، هي الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، على اتفاقات "إبراهيمية" مع إسرائيل، ليست كسابقاتها، إذ إنها جزء من المشروع الجديد الذي يعطي لإسرائيل دوراً محورياً، ويجعلها شريكاً إستراتيجياً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً وثقافياً في المنطقة.
وفي المخطط الجديد أيضاً، تقع مدينة القدس ضمن أهم محاور التغيير، إذ يُراد لها أن تكون مدينةً "إبراهيميةً"، وهو ما تبدّى فعلاً حين حاولت منظمة الأونروا حذف عبارة "القدس عاصمة فلسطين"، من مقرراتها الدراسية للصفوف الابتدائية، لتستبدلها بعبارة "القدس مدينة إبراهيمية"، وهي المحاولة التي لاقت سخطاً من أهالي فلسطين، فتصدّوا لها، وأوقفوها.
فالفكرة في ظاهرها رحمات دينية، وفي باطنها عذابات سياسية، وتنفيذ لمخطط سياسي يجري فيه التطبيع مع إسرائيل، وفق رؤية ساعية لإنكار كل الأسباب الجوهرية للصراع معها، ونسفها، ما يجعلها مشروعاً استعمارياً جديداً، يُلاحقه الفشل.