حسن حنفي
يظن البعض أن تهجير أقباط العريش إلى الإسماعيلية وغيرها من مدن القناة عمل طيب، لأنه يحمى أرواحهم من تهديد التكفيريين. وخطورة مثل هذا العمل هى بداية التهجير الداخلى لسكان سيناء حتى يتم تفريغها لمشاريع أخرى مجاورة. وفى نفس الوقت يتم فيه الحديث عن تعمير سيناء وتنميتها بحيث تضم خمسة ملايين مواطن من الوادى المزدحم بالسكان!
وتهجير أقباط العريش يتعارض مع تعمير سيناء. وبعدها يتم تهجير أهل النوبة إلى الأبد بحجة السد العالى، وتهجير أهالى حلايب وشلاتين بحجة التهديد بقتل السكان، ثم تهجير سكان سيوة فى الصحراء الغربية بحجة الدفاع عن حدود مصر الغربية من الدواعش، ثم تهجير أقباط الصعيد حتى لا يكونوا أغلبية تمثل خطورة على الأقلية غير القبطية. فقد أتى الإسلام من الشمال ولم تتم أسلمة الجنوب إلا تدريجيا وليس كليا.
وبالتالى تقع مصر فى الفخ الذى وقع فيه العراق بتهجير مسيحيى العراق خوفا من اضطهاد الشيعة أو السنة لهم حتى يتكون عراق طائفى جديد بين الشيعة والسنة، وعرقى بين العرب والأكراد والأرمن. والقتل المتبادل بين بدو سيناء وقوات الأمن، الشرطة والجيش أخذا بالثأر، وكأن سيناء قد انقسمت إلى قبيلتين، كل منهما يحاول الأخذ بالثأر من الأخرى. وأصبحت سيناء أرضا لا يمكن دخولها إلا بعد تصريح من الأمن فى حين يدخلها الإسرائيليون حتى شرم الشيخ بلا تصريح أو تأشيرة دخول، فتحول الصديق إلى عدو، والعدو إلى صديق، وقد كان موشى ديان وغيره من قادة إسرائيل وقت الاحتلال يجلس مع بدو سيناء يحاورهم ويستجيب لمطالبهم كى يستميلهم نفسياً ثم اقتصاديا وأخيراً سياسياً. وقد ظل الرباط بين سيناء والوادى ضعيفاً على مدى التاريخ. منها أتت غزوات الهكسوس لمصر، وفتح العرب لمصر، واحتلال قناة السويس بعد التأميم فى 1956. وفى الشمال يأتى تقصير المياه الإقليمية لحرمان مصر من غاز البحر، فنظرا لوحدة مصر عبر التاريخ يأتى إيقاعها فى مخطط التفتيت الطائفى والجغرافى. ولا نملك مواجهته إلا بالقوة، وليس بالمصالحة الوطنية بين قلب مصر وأطرافها. وكان أول شىء قام به الملك مينا فى مصر القديمة هو التوحيد بين القطرين، ولبس تاج موحد. ومنذ ذلك الوقت مصر وطن واحد وشعب واحد، بالرغم مما يقال عن الصعيدى وخصائصه مثل التصلب فى الرأى، والتعصب، والعنف، والبحراوى الأكثر انفتاحا، وتعلما، وتحضرا. ويظهر ذلك فى الأغانى الشعبية، مدح أهل الإسكندرية والتخوف من أهل أسوان.
وقد يتم التفتيت بإرادة الحكام مثل اتفاقية رسم الحدود والتنازل عن جزيرتى تيران وصنافير. فبعد تفتيت فضاءات مصر فى الستينيات، سوريا والعراق فى الشمال، وليبيا فى الغرب، واليمن فى الجنوب، تم قص ريش الطائر فى الشمال والغرب، وذيله فى الجنوب. فلم يعد الطائر قادرا على الطيران. وظل جاثما على الأرض. والآن يتم اصطياد القلب نفسه حتى يتم تفريغ المنطقة من الطائر القوى الذى يحميها. وتبقى فارغة. ولا تملؤها إلا إسرائيل وأمريكا فى عصرها الجديد. فتكسب إسرائيل الحرب بلا حرب. وتبقى هى الدولة الطائفية القومية بعد أن تفتت الطوائف والقوميات حولها. يخطبون ودها.
ويفرح الجميع بالاستيطان الجديد، توطين أقباط العريش على ضفاف القناة، بدعوى الحماية. وهم فى هذه الحالة معرضون مثل باقى المصريين للخطر فى حالة نشوب الحرب بين مصر وإسرائيل. ويكونون أول ضحايا احتلال قناة السويس من جديد. والأفضل الاستشهاد فى المكان. فالأرض أرض المصريين بلا تفرقة بين دين ودين. وإلا فلماذا نعيب على النظام الجديد فى أمريكا نية طرد العرب بلا تفرقة بين مسلم وقبطى، كما نعيب على أوروبا الحد من سياسة الهجرة إليها؟ ونحن لسنا فى عصر الهجرة من مكة إلى المدينة، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. فلا هجرة بعد الفتح، بعد أن عادت سيناء إلى مصر بعد نصر أكتوبر 1973. ويؤيد الغرب سياسة التهجير بدعوى حماية مسيحيى الشرق من عنف المسلمين، سنة وشيعة، ودفاعا عن الأقلية ضد الأغلبية كما كان الدفاع عن الأروام الأرثوذكس بحجة استعمار مصر بعد محمد على.. بينما الحقيقة كانت الخوف من قوتها، وإحياء الإمبراطورية العثمانية من جديد، ابتداء من مصر بعد تركيا، الرجل المريض.
فهل يجوز لمصر وهى أمام خطر التفتيت أن تعادى عناصر القوة حولها فى تركيا وإيران، تركيا الخطر الماضى، وإيران خطر المستقبل؟ وهل تستطيع مصر أن تستمر فى سياسة الخصام الوطنى مع أبناء الوطن الواحد حتى لو كانوا مخالفين النظام فى الرأى؟ ألا تستطيع مصر أن تكوّن ثلاثيا: مصر- تركيا- إيران يملأ الفراغ. ويقضى على عناصر التفتيت فيها كما كونت فى الستينيات ثلاثى عدم الانحياز مع يوغوسلافيا والهند بدلا من أن ترى مجموعة أوروبا الشرقية والهند مصلحتها مع إسرائيل؟ وهل بسبب وجود بعض عناصر المعارضة السياسية فى تركيا وإيران نخاصم الدولتين الكبيرتين بسبب بضعة مئات من المهاجرين؟ لقد تحول العدو إلى صديق وهو إسرائيل. وتحول الصديق إلى عدو مثل تركيا وإيران بل وبعض الأشقاء العرب. وأصبح العدو هو الإرهاب. نتوجه إليه ونقاومه بالقوة المسلحة وليس بالتفاهم والحوار. وخلقنا عدوا من داخلنا مثل داعش الذى شعر بضعف الدولة الوطنية فانقض عليها. ونسينا فلسطين. وزاد الاستيطان. ويزيد كل يوم. ومن أجل الدفاع عن النظام ضحينا بشعوب بأكملها كما حدث فى سوريا واليمن. ومن العرب من يدافع عن نظام الأسد ويضحى بالشعب السورى مثل مصر. ومنهم من يدافع عن الشعب السورى ويضحى بالأسد مهما قيل فى ضرورته لحفظ وحدة الشعب السورى، وخوفا من الوقوع فى مزيد من التفتيت.
لا أمل فى إيقاف مخطط التفتيت فى مصر، وإيقاف نشأتها بين الجوع فى الداخل والهجوم عليها من الخارج إلا بالمصالحة الداخلية وتكوين ائتلاف وطنى من كل القوى السياسية، إسلاميين وناصريين وليبراليين وماركسيين. فقوة الداخل قبل قوة الخارج. وهذا ما فعله صلاح الدين فى مصر قبل التوجه إلى الشام ضد هجمات الصليبيين. قضى على عناصر الضعف فى مصر مثل الصوفية الذين يتزهدون ويتعبدون تاركين الجهاد فى سبيل الله، وتحويل الطرق الصوفية إلى كتائب من المجاهدين.
ثانيا، أن تعود مصر إلى مركزيتها فى الوطن العربى عن طريق تأمين جناحها الشمالى الشرقى فى سوريا والعراق، وهى الجبهة المساندة لمصر فى أى عدوان إسرائيلى عليها، ومساعدة مصر لها فى أى عدوان إسرائيلى عليها. فليس من المعقول أن يُدعى إلى مؤتمر الآستانة روسيا وأمريكا وإيران وتركيا. ولا تدعى فيه وتحضره دولة عربية واحدة مثل مصر وكأن سوريا لا تعنى العرب إلا فى استقبال مهجريها. كما تسترد مصر جناحها الغربى فى ليبيا وهى عمق استراتيجى واقتصادى لمصر لبعدها الجغرافى وثروتها النفطية.
ثالثا، تأمين البحر الأحمر من الجنوب بحيث يصبح بحيرة عربية من الشمال، مصر والأردن، ومن الجنوب، اليمن بدلا من كونه الآن بحيرة إسرائيلية أمريكية، إسرائيلية من خليج العقبة، وأمريكيا من باب المندب. وتصبح مصر محاصرة من الشمال والجنوب.
والقوتان الكبيرتان، روسيا والولايات المتحدة، كل منهما يخطب ود القوى كما هو الحال مع إيران وتركيا. أما الضعيف الذى يستجدى يمينا ويسارا الغذاء والسلاح فلا يخطب وده أحد بما فى ذلك مصر والسعودية اللتين كانت تعتمد عليهما أمريكا فى تنفيذ سياستها فى الشرق الأوسط.
تهجير أقباط سيناء إلى مدن القناة مظهر من مظاهر الضعف. فترك المدينة والمكان هو ترك للتاريخ والزمان. لقد اشتق اسم مصر باليونانية Aegyptus من كلمة «قبط» وهم السكان الأصليون لمصر، خلفاء الفراعنة. فليس من المعقول أن يُهجر الأقباط من العريش إلى مدن القناة. ونعتبر ذلك فتحا مبينا. وهم سكان مصر الأصليون. وإذا أصبح الشعب العربى كله من المهجرين من العراق وسوريا ومصر، فمن يبقى؟