حسن منيمنة:
على هامش التحدي الخطير للاستقرار الدولي والذي يشكله الاجتياح الروسي لأوكرانيا، وما ينذر به من احتمالات مواجهات عسكرية أوسع وأكثر دموية ودماراً، يلوح تحدٍ آخر قد يكون أخطر في تبعاته، وهو الذي يطال الأسس التي قام عليها النظام الدولي منذ أن خمدت الحرب العالمية الثانية.
ليس المقصود هنا إعادة تشكيل القوى العظمى، من الثنائية القطبية التي اتسم بها هذا النظام في مرحلته الأولى، إلى الأحادية القطبية القائمة اليوم، والتعددية التي ما فتئ البعض يترقب حتميتها بشغف، بل البنى الفكرية والمبدئية للنظام الدولي، والذي نشأ على أساس توافق ضمني وإن مرتبك بين أطراف متناقضة، حول إنسانية مشتركة، وحول قيم صنّفت بـ "العالمية"، وحول "حقوق الإنسان" التي جرت ترقيتها إلى مصاف الشرعة الدولية.
من السهل في هذا الصدد افتراض مواجهة ثنائية بين "الغرب" و"البقية"، حيث الغرب، في تسلسل تاريخي يعود به إلى اليونان القديمة مروراً بفلاسفة الأنوار وما قبلها وما بعدها، هو التواصل الحضاري الذي رفع مقام الإنسان على أساس الحرية والشخصية الذاتية الفردية.
فيما "البقية"، على اختلاف مسمياتها و"حضاراتها" التي لا تستحق تسمية الحضارة إلا من حيث التشبيه الشكلي، بقيت غارقة في التعميم والاستبداد، وتغييب اعتبار الإنسان كقيمة فردية.
هذا الاستسهال قد تكرر في العقود الماضية، مع اختلاف التقييم، في أوساط متعارضة بالكامل في أهدافها، من "الاستعلائيين البيض" الذين يطيب لهم نفي "الحضارة" عمّن لا يشمله نسبهم الحضاري السلالي المفترض، إلى الإسلاميين المتشددين، والذين يسعون من خلال هذا الفرز الثنائي إلى استئصال ما يتعارض مع قناعتهم على أنه غربي، طارئ ودخيل.
ولكنه استسهال تسطيحي عند اعتباره على أساس المعطيات التاريخية الوقائعية.
أولاً، لأن الأَعْلام المنتَخبين، من فلاسفة اليونان إلى فلاسفة الأنوار، لم تكن لهم الغلبة في الحضور الفكري على مدى كل التاريخ "الغربي" أو حتى جلّه، مهما كان خط التلفيق المعتمد له، أي مهما كان اختيار الأمكنة والأزمنة التاريخية المشمولة به.
ثانياً، لأنه حتى في المواقع المكانية والزمانية التي كان لهؤلاء الأعلام الحضور المعتبر، لم يتفردوا في تقرير البنية الذهنية الحضارية، بل كان الأمر على الدوام سجالاً بين الطروحات الأصلية العائدة لهم والمشتقة منها من جهة، وبين طروحات موازية، مختلفة حتى في أصول المعرفة المعتمدة لديها، كالدين مثلاً، أو معارضة إلى حد النقض.
ثالثاً، لأن طروحاتهم كانت قابلة لإنتاج اشتقاقات متعارضة في نتائجها العملية. أي أن الحرية والعدالة والمساواة هي تشكيلة واضحة في نسبها إلى الأعلام المنتخبين، ولكنها ليست الوحيدة، بل الاستعباد العرقي والاستعمار الإلغائي والاستعلاء الفئوي هي كذلك أفكار مبنية على مقولات كبار هؤلاء المنتخبين من أفلاطون إلى نيتشه ومن يتعداهما.
رابعاً، لأن انتشار أفكارهم في المجتمعات الغربية جاء مؤيداً بتمكّن اقتصادي وبنيوي إن لم يكن نتيجة مباشرة لهذا التمكّن، في حين أن الأسباب الموضوعية لتحقيق القدرة الاقتصادية كانت غائبة في الأماكن التي وسمها بعض الغرب بالتخلف.
وخامساً، لأن ومضات الفكر الذي يحاكي المقولات المشهودة اليوم لهؤلاء المنتخبين لم تكن منتفية خارج الخط الحضاري الغربي المفترض، في المجال الإسلامي (والذي يشارك "الغرب" في نسبه اليوناني، وإن توافق الجانبان الإسلامي والغربي كل لدواعيه الخاصة على إنكار هذه الحقيقة)، كما في الإطارين الحضاريين الهندي والصيني.
بل إن الصراع حول "القيم العالمية" ليس مواجهة سرمدية بين "شرق وغرب"، وإن اكتسى هذا الطابع في خطاب المستسهلين، بل هو صراع داخل المجتمعات والثقافات بمجملها، دون أن يكون الزعم المعارض هنا أن كافة هذه المجتمعات تشهر توزيعاً متقارباً بين الدافعين نحو الالتزام بالقيم العالمية والمصرّين على الطعن بها وإدانتها.
ولا شك أن اعتبار القيم العالمية في المحيطين الإسلامي والعربي متراجع بالمقارنة مع غيرهما، لأسباب بعضها آني، مثل تفاصيل الواقع الاقتصادي وعواقب آخر الفصول التاريخية، وبعضها الآخر طويل الأمد، مثل الافتقاد المادي لما يساهم في بروز طبقة وسطى بإمكانيات تقارع الشريحة الحاكمة، وما يقارب الاستقرار في توفّر طروحات غيبية ناجحة في التعويض المعنوي عن العجز في تبديل الواقع المنهك.
ورغم أن هذا التراجع ليس نهائياً ولا كاملاً، فإنه قد أخرج بالفعل أحد أشد الاعتراضات على القيم العالمية، وإن جاءت مفتقدة للبرنامج وللأفق، أي الطروحات الإسلامية المتشددة، الرافضة للعالمية والمصرّة على مقولة الدارين (دار الإسلام ودار الكفر)، والمعتمدة على الإيمان كأساس للولاء والمحبة والاختلاف في الدين كأساس للبراء والبغض.
أقصى التشدد، الداعي إلى مطابقة العقيدة بالأفعال، أي بمحاربة الكفار والمشركين والمرتدين وقتلهم، لم يتجاوز الهامش، على أنه من شأن الإسلاميين المتشددين أن يسعدوا بالإنجاز في ترهيب العديد في المجتمعات حيث للإسلام حضور وإن كان محدودا، عن اعتبار نظم عقائدية أخرى، بما في ذلك الإطار الفكري الذي كاد أن يتكرّس في المنظومة الدولية، أي القيم العالمية.
وعند الهامش الآخر، رغم أن الطروحات الاستعلائية المبنية على تفوق العرق الأبيض، حضارياً وتاريخياً وعلمياً واقتصادياً وسياسياً، قد عانت خلال القرن العشرين من انكسارات متتالية، من تداعي اعتبار الاستعمار مهمة حضارية، إلى سقوط تخصيص الدول المقام الأول للعرق الأبيض في أستراليا وإفريقيا الجنوبية والولايات المتحدة وغيرها، وصولاً طبعاً إلى انحدار المشروع الاستعلائي الألماني، الزاعم للتصحيح التاريخي، إلى فعل الإبادة الجلية، فإن جوهر المقولة الاستعلائية لم يتبدد، لا في الطرح السياسي، وإن جرى تهميشه، ولا في المتداول الاجتماعي، وإن أمسى أكثر خجلاً وتدليساً.
غير أن العقود الأخيرة جاءت بتطورين خطيرين، أحدهما إعادة صياغة الاستعلاء الأبيض بصيغة قومية دفاعية أمام خطر "الاستبدال الكبير"، ليس فقط كظاهرة تاريخية تلقائية، بل كمشروع غزو مستتر، عرقي وثقافي وديني، ما جعل الطرح قابلاً للاعتماد الصريح والناجع لدى توجهات وأحزاب قومية في مختلف الدول الغربية.
وعلى الخلاف من التحدي "الإسلامي" والذي جرى إهماله على أنه فشل في استدراك "ركب الحضارة"، فإن "القومية البيضاء" لم تتخلَ عن السلسلة التاريخية والفكرية المعتمدة للحضارة الغربية، بل ذهبت إلى تبديل قراءة غايتها، وصولاً إلى إعادة اعتبار للعولمة والتعددية الثقافية، واللتين كان قد جرى تأطيرهما على أنهما تجسيد لفكر الأنوار والحداثة أي للقيم العالمية المتشكلة في الحاضنة الغربية. وبناءً عليه، أمسى النظر إلى التعددية والعولمة على أنهما ليستا المرحلة المتطورة من الارتقاء الحضاري، بل آفة داخل هذا الارتقاء من شأنها استنزافه أو القضاء عليه.
ضمن القراءة المحافظة المتجددة للقيم العالمية، ليس من شأن الأبواب المفتوحة، فكرياً واقتصادياً واجتماعياً، التعويض عن الإساءات الماضية، الاستعمار وغيره، وإتاحة المجال أمام التصحيح في الترقية الذاتية للأمم التي طالتها هذه الإساءات، بل هي وحسب ضرار ترتكبه الحضارة الغربية بحق ذاتها، من شأنه تذويب العرق الأبيض وتخفيض مستوى مجتمعاته، فيما مجتمعات المصدر، في أفريقيا وغيرها، تستنزف بدورها من طاقات بشرية، هي مؤذية في الغرب وفق تقييم القوميين "البيض" لها، فيما كان ربما بوسعها أن تكون مفيدة في بلادها الأصلية.
لا يمكن التقليل من عمق رسوخ هذه القراءة في المجتمعات "البيضاء" اليوم. من المجر، حيث الإقرار بها صراحة يتكرر مع كل انتخابات، إلى الولايات المتحدة حيث الإيماء باتجاهها قد ساهم بالأمس، وريما يساهم في الغد، في حظوظ مرشحين شعبويين، مروراً بفرنسا حيث نتائج الدورة الأولى من المنافسة الرئاسية تفيد بأن هذه القراءة تستحوذ على قرابة نصف السكان.
على أن ما أظهرته الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا هو بمثابة مرحلة تصعيد جديدة تنتقل من نقد "القيم العالمية" وفق القراءة القومية البيضاء، إلى نقضها وفق طرح مضاعف لا يقبل، كما تفعل القومية البيضاء، بالاحتفاظ بالحضارة الغربية المعولمة انتقائياً واستعلائياً، بل يعيد انتخاب فصول التداول الحضاري، رافعاً بعضها المهمل في القراءة الغربية، خافضاً بعض البارز، لوضع روسيا تحديداً، كوريثة للمسيح والقيصر، في قلب حضارة "أوراسية"، أي شاملة للأقاليم الشمالية من العالم القديم، قابلة للوئام مع الكتل الحضارية الصينية والإيرانية والتركية وحتى الإسلامية، على أساس التمايز، لا الاندماج، وانطلاقاً من الإقرار بالروح الذاتية الحضارية لكل منها، والقبول بالاختلاف عن بعد.
على أن الاعتماد الروسي للقناعة المناقضة للقيم الغربية وزعمها العالمي قد يكون فكرياً ونظرياً وحسب، لدى ألكسندر دوغين مثلاً، ولكنه تطبيقي وعملي لدى فلاديمير بوتين، في استباحته أوكرانيا، وقبوله بمقتل الآلاف في تنفيذ للرؤية الرافضة. اعتبارات الاجتياح تتجاوز طبعاً القناعة العقائدية، على أنه من التفريط عدم اعتبار دورها في صياغة قرار الحرب.
الغرب، سياسياً وآنياً، ردّ على هذا التحدي بالاتحاد وبانتهاج ما يتوافق بالإجمال مع قيمه العالمية. غير أن الشروخ في هذا الالتزام تظهر في استبعاد الخطاب عن تضارب المصالح بين الولايات المتحدة حيث رغبة الثبات مرتفعة وثمن الثبات منخفض، وبين العديد من الحلفاء الأطلسيين، حيث المعادلة مقلوبة إذ الرغبة هزيلة والثمن باهظ. ورغم التوظيف الإعلامي المعادي لهذا التضارب، فإن احتواء الحقيقي منه يجري على أساس قراءات سياسية قيمية ومصلحية مترددة.
والسجل الغربي بالانزلاق نحو ما يتجاوز القيم العالمية واسع دون شك. والشواهد على ذلك كثيرة دون الحاجة إلى الوقوع في فخ اتهام الدول والمجتمعات والشعوب بالنفاق والمخادعة. أميركياً، لا يزول صدق السعي إلى الالتزام بالقيم العالمية، والذي يتجسد في الفعل اليومي، بمجرد الإشارة إلى أبو غريب وغوانتانامو والضحايا العَرَضيين للمسيرات، على فظاعة الخطأ أو الاستهتار أو السقطة في كل هذه الأحوال. غير أن هذا السجل ينذر بأن استفحال الأزمة في أوكرانيا قد يتسبب بظهور بعض ما يناقض القيم العالمية في الصف الغربي. ربما أن العقوبات التي تؤذي المواطن الروسي أكثر من المسؤولين في الكرملين هي إحدى هذه التجاوزات.
أي أن الغرب نفسه ليس بالضرورة النموذج الناصع في اعتماد القيم العالمية.
هذه القيم اليوم هي بالتالي عرضة على مستويات عدة للتشكيك بصدق عالميتها وصحة إنسانيتها. والتحديات التي تواجهها، داخلياً وخارجياً، بالقول وبالفعل كثيرة. ليست المرة الأولى، على مدى القرنين ونصف القرن من ظهور نجم هذه القيم ، والتي تواجه فيها تحديات تلامس جوهرها. على أن تضافرها بهذه الحالة يقارب مستوى الخطر الوجودي في السقوط من موقع التأطير الفكري للمنظومة الدولية.
يمكن لأصحاب الرأي الثابت أن يقرّروا لأنفسهم أن "القيم العالمية"، وإن كانت غربية النشأة كمنظومة متجانسة، هي مكسب إنساني عام، مهما تكاثرت محاولات الطعن بها.
هذا طبعاً حق بديهي لهم. على أنه لا مفرّ من الإقرار بالتراجع السجالي لهذه القيم في مواجهة التحديات الصارمة. وفي حين جرى احتواء الخطر الجهادي الإسلامي، والذي كان حدّه الأقصى عرقلة النظام العالمي لا استبداله، فإن خروج روسيا من الأساس الفكري لهذا النظام، والاستعداد الظاهر لدى كل من الصين والهند لمجاراة هذا الخروج، يجعل خطر أن تكون إنسانية القيم العالمية حالة إيمان نظري وليس تقريراً لواقع فعلي.
لم يلقَ الرئيس الأميركي، جو بايدن، عند انتخابه الكثير من التقدير في أوساط المفكرين السياسيين، باعتبار أن كل من سجله وخطابه باهت. ولكنه اليوم، تقع على عاتقه قبل أي شخص آخر، المسؤولية الجسيمة لإنقاذ المنظومة الدولية، من خلال تعزيز التحالفات وتمتين الشراكات وإعطاء الصداقات مستحقاتها، في مراعاة متواصلة للمبادئ والمصالح. وذلك في حين يضاف إلى مجموعة العوائق والصعوبات التي تعترضه، الموقف السجالي إلى حدّ التعطيل من معظم الجمهوريين.
لم يعتبر معظم الناخبين الذي أدلوا بصوتهم لصالح بايدن في الانتخابات الرئاسية عام ٢٠٢٠ أنهم يختارون رئيساً ذا مسؤوليات عالمية تاريخية. ولكن اليوم فإن من يثمّن منهم القيم العالمية كرصيد إنساني عام، يجد نفسه دون شك متمنياً أن يرتقي بايدن إلى هذا القدر من المسؤولية.