رفيق خوري:
خطر التطرف قديم ومتجدد وجديد. وأخطر ما في التطرف أنه يقدم نفسه كخلاص من الانحلال والضعف. يستخدم الإرهاب كهدف أكثر منه كوسيلة، ويعيش على الخرافات ونظريات "المؤامرة" التي لا تنتهي. والأخطر هو أن التيارات المتطرفة قديماً وحديثاً ليست محصورة في قارة، ولا في بلد، ولا في دين، ولا في يمين، ولا في يسار، ولا في إثنية وعرق.
تيار التطرف اليميني الشديد يضرب أميركا وأوروبا في مرحلة ما بعد الحداثة. وتيار التطرف الديني يضرب العالم كله، وليس فقط العوالم العربية والإسلامية والهندوسية والبوذية. اليمين المتطرف في أميركا يلعب أوراق "تفوق العرق الأبيض" والتمييز العنصري، يستعيد أيام "المكارثية"، يقود موجة حملت الديماغوجي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض وأبقته زعيماً للحزب الجمهوري بعد خسارة الانتخابات الرئاسية، وظلت ترى في الحزب الديمقراطي خطراً على أميركا وبؤرة لتيار معتدل تصفه بأنه "شيوعي"، وهو لم يتردد في "احتلال" الغوغاء لمبنى الكابيتول "قلعة الديمقراطية" في واشنطن قبل عام لمنع إعلان النتائج الانتخابية.
اليمين المتطرف في أوروبا أعاد إحياء النازية في ألمانيا وصار القوة الثالثة هي البوندستاغ (البرلمان). وهو جعل حزب مارين لوبن المتشدد في فرنسا يبدو معتدلاً أمام المرشح الرئاسي زمور.
أما في المجر وبولونيا، فإنه في قمة السلطة. وليس أمراً قليل الدلالات أن التطرف اليميني مزدهر في البلدان التي كانت محكومة باليسار الشيوعي قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. التيار اليميني في بطرسبرغ يدرب أعضاء الحزب النازي الجديد في ألمانيا. وليس ذلك مجرد رد على موجة اللاجئين ضمن رهاب "الإسلاموفوبيا" بل تتأصل في المجتمعات ولو لم يكن هناك لجوء.
روبرت كاغان يفاخر في كتاب "الجنة والقوة" بأن "أميركا وحش له ضمير" في حين أن أوروبا "متسامحة لأنها ضعيفة". "أميركا صارت تاريخية. وأوروبا خرجت من التاريخ. الأميركيون من المريخ والأوروبيون من الزهرة".
والترجمة العملية لذلك أن اليمين هو القوة، وكلما تعاظمت القوة ازداد التشدد اليميني في السلطة والمجتمع. والفيلسوف الروسي إيفان إيلين يعترف بأن "الديمقراطية غير ممكنة في روسيا. الممكن هو وطنية حازمة، ديكتاتورية ليبرالية". أي سلطوية تنتج أرضاً خصبة للتطرف اليميني.
التطرف الديني في الشرق الأوسط والشرق الأقصى قائم على تأويل منحرف للفقه. كان هذا التأويل وراء نشوء الإخوان المسلمين، وظهور "القاعدة" و"داعش" وبقية تيارات الإسلام السياسي. والعناصر المتطرفة ليست فقط في الأوساط المهمشة والفقيرة والأمية، بل أيضاً في الطبقة الوسطى وحتى العليا والجامعات.
كادرات "القاعدة" و"داعش" أطباء ومهندسون وكتّاب. ولا أحد يعرف إلى أي حد يصح تحليل الخبير الفرنسي جيل كيبل في كتاب "النبي والجائحة" وخلاصته: "الإسلام السياسي خسر شعبيته. الصراع الأصولي السني - الشيعي تراجع إلى المواقع الخلفية، والصراع اليوم بين الإسلام السياسي وخصومه. والشعار: من أسلمة الحداثة إلى تحديث الإسلام".
فما حدث في بغداد أخيراً أعطى مؤشراً خطيراً إلى ازدياد الانغلاق في عاصمة الرشيد. إذ أقدمت الفصائل المسلحة المرتبطة بطهران ودعمها رئيس الوزراء سابقاً نوري المالكي، على منع الحفلات الغنائية، بحجة أن الغناء مناف "للأخلاق والدين"، وأن الحفل الذي غنى فيه المطرب محمد رمضان "جزء من مخطط صهيوني لتدمير العالم العربي".
وهذا بالطبع عكس ما يحدث في السعودية ودبي وأبو ظبي ومعظم دول الخليج، من دون الحديث عن لبنان وسوريا ومصر وسواها، وهو الانفتاح على الفن والسينما والمعارض والمسارح واعتبار "سياسة الترفيه" حاجة أساسية للمجتمع.
والمخيف هو ما أفادت به إحصاءات اليونسكو أخيراً، التي كشفت "أن إسهام العالم العربي في إنتاج الكتاب دون 0,9 في المئة من الإنتاج العالمي، في حين أن إسهام أوروبا 50 في المئة". إذ إن العالم العربي الذي عدد سكانه أكبر من عدد سكان أميركا "ينتج في العام 5 آلاف كتاب، مقابل 300 ألف كتاب في أميركا".
وما يضيف إلى الخوف هو ضعف الثقافة في العالم كله، بحيث "لم تعد معرفة التاريخ والجغرافيا حيوية لمن يأخذ المعلومات بكبسة زر عبر الإنترنت"، كما قال الدكتور هنري كيسينجر في كتاب "نظام عالمي".
لكن من الوهم مقاومة التطور وما تفرضه الحياة. فليس التطرف اليميني والديني سوى محاولة محكومة بالفشل، وإن نجحت مؤقتاً، في سد الطريق على التقدم. ولن تتمكن "ثقافة الموت" من التغلب على "ثقافة الحياة".