نادية مبروك:
لم تكن شيماء الحسن* قد بلغت الثالثة عشر من عمرها بعد، عندما بدأت مأساتها. فما أن فاض رحمها للمرة الأولى، حتى وجدت نفسها زوجة لأحد مقاتلي داعش بأمر من أسرتها، لتنتقل الطفلة، من دون إرادتها، من مضارب قبيلتها بشمال سيناء إلى أحد بؤر تنظيم الدولة الإسلامية. ولم تكد تمر عليها أشهر قليلة، حتى قُتِل من زُوِّجت له قسراً خلال مواجهة مع قوات الجيش المصري، لتجد نفسها بعد انتهاء فترة عدتها زوجة لآخر قُتل أيضا، ليتم تزويجها لثالث.
مأساة شيماء لم تتوقف عند مبادلتها على غير إرادتها بين أيدي مقاتلي التنظيم وهي بعد في سنوات الطفولة، بل تعاظمت تلك المأساة عندما أصبحت أماً من أحد أزواجها قبل أن تبلغ الخامسة عشرة.
وحين استطاعت الهروب، اضطرت إلى ترك أطفالها وراءها، وعندما نجحت في الوصول إلى القاهرة بعيداً عن سطوة أهلها الذين قد يعيدونها إلى أيدي التنظيم، لم تجد النجاة التي تمنتها، بل تلقفتها أيدي السلطات المصرية لتلقي بها إلى أحد أماكن الاحتجاز، قيد الحبس الاحتياطي بتهم تتعلق بالانضمام إلى جماعة إرهابية.
عامان مرا على شيماء قيد الاحتجاز، حرمت خلالهما من الزيارات أو التواصل مع العالم الخارجي إلا من خلال محاميها، لم تتلق الطفلة التي لم تبلغ الثامنة عشرة بعد أية مساعدة نفسية ولم تخضع إلى أية برامج تأهيل، وتعيش في كل لحظة مع أشباح المرات التي اغتصبت فيها على يد "أزواجها" وأطياف أبنائها الذين لا تعلم عنهم شيئاً.
حكاية شيماء ليست منقولة عن المسلسل الرمضاني "بطلوع الروح" المعروض حالياً عبر عدة فضائيات ومنصات بث عربية، بل هي حكاية واقعية، تسجلها ملفات القضايا التي تتابعها مؤسسة "بلادي" المتخصصة في تقديم المساعدة القانونية للأطفال والنساء، والتي رصدت عشرات الملفات لفتيات مصريات صغيرات السن، أكرهن على الانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية في شمال سيناء وليبيا وغيرها من مناطق نفوذ التنظيم، ويتعرضن للحبس أو السجن بتهمة الانضمام إلى جماعة إرهابية إذا ما نجحن في الهرب. فقد جعلت منهن المخاوف الأمنية هدفاً لتحقيقات وحبس يطول.
اللافت أنه عند انتهاء تلك التحقيقات والتأكد من براءتهن، فإنهن لا يحظين بالحماية حيث يتم إعادتهن إلى شمال سيناء، الأمر الذي يهدد حياتهن، سواء على يد بقايا التنظيمات الإرهابية أو على يد أسرهن.
في الوقت، تكرم الدولة المصرية نساء استطعن الهروب من براثن التنظيم، إلا أن من يحظين بالتكريم هن من غير حاملات الجنسية المصرية، أمثال الأيزيدية نادية مراد التي التقت الرئيس عبد الفتاح السيسي، وكانت ضيفة لأحد مؤتمرات الشباب.
المحامية هالة دومة التي تتولى ملف قضية شيماء ضمن قضايا شبيهة لفتيات أخريات مررن بالظروف نفسها، تقول لرصيف22: "هناك حالات عديدة مشابهة لحالة شيماء، سواء كان القبض عليهن واحتجازهن بسبب زواجهن القسري من أحد مقاتلي داعش، أو حتى بسبب انضمام أحد أفراد أسرهن للتنظيم".
وراثة الانتهاك
أما عبير اسماعيل* فآثار زواجها القسري لم تتوقف عندها، بل امتدت لأمها وطفلتها أيضا، حيث زوجها أبوها لأحد مقاتلي داعش في سيناء قبل أعوام، من دون موافقة الأم التي استطاعت لاحقاً تهريب ابنتها والهروب معها من الشيخ زويد إلى المناطق التي يسيطر عليها الجيش المصري في العريش بعيداً عن أيدي مقاتلي التنظيم.
ظنت الأم وابنتها أنهما نالتا الأمان أخيراً، لكن اكتشاف حمل الفتاة كان نذيراً بفصل جديد من المأساة، إذ جرى رصدها أثناء متابعتها حملها في عيادة أحد الأطباء في العريش، وألقي القبض عليها وأمها بتهم الانضمام إلى جماعة إرهابية. وعندما وضعت الفتاة طفلتها، أودعت الرضيعة بعد شهرين فقط في أحد دور الرعاية في محافظة أخرى بعيداً عن الأم والجدة.
الحرب على الإرهاب
شهدت محافظة شمال سيناء منذ العام 2012 عدة عمليات مسلحة استهدفت مدنيين وعسكريين، في مواجهات واعتداءات قام بها تنظيم "جماعة أنصار بيت المقدس"، ونجحت الجماعة خلال أشهر في فرض الرعب على مناطق واسعة من شمال سيناء، ما استدعى تغييراً في الترتيبات الأمنية المتفق عليها بموجب اتفاقية السلام بين مصر والجانب الإسرائيلي، بما يتيح تواجداً أوسع لقوات الجيش المصري في سيناء بغرض مكافحة الإرهاب.
وأعلنت مصر عدة عمليات للقضاء على تواجد التنظيم في المحافظة الحدودية، إلا أن التنظيم اتخذ خطوة إضافية سعى من خلالها إلى تعزيز نفوذه وبث المزيد من الخوف في نفوس المدنيين في سيناء، عندما أعلن في 2014 عن تغيير اسمه من أنصار بيت المقدس إلى "تنظيم الدولة الإسلامية في شمال سيناء" وحمل اسم "ولاية سيناء".
ومنذ ذلك الوقت، تزايدت حالات تزويج فتيات بعض القبائل إلى مقاتلي التنظيم، إما خضوعاً للتهديدات أو قضاء للمصالح.
إلا أن إعلان القوات المسلحة المصرية العملية "ٍسيناء 2018" في فبراير/ شباط 2018، والعمليات العسكرية التي تلتها، قلل كثيراً من سيطرة التنظيم، وفي المقابل، تزايدت حالات هروب الفتيات من بين أيدي مقاتلي التنظيم الآخذ نفوذهم في التراجع.
لسن كلهن ضحايا
تتفق المحامية هالة دومة التي تتولى قضايا عدد من هؤلاء الفتيات أن للسلطات المصرية كل الحق في التحوط من هؤلاء الفتيات اللائي قضين أشهراً أو سنوات في كنف التنظيم، فبعضهن لديهن معلومات مهمة، أو تشربن أفكار التنظيم وبتن على استعداد لتطبيقها، لكن مثل هؤلاء هن جزء من كل، وهناك فتيات أكرهن على هذا الوضع ويمثل استمرار حبسهن وحرمانهن من فرص التأهيل وإعادة الانخراط في المجتمع ظلماً لهن.
تقول دومة "كثيرات من هؤلاء الفتيات هن ضحايا للعادات والقيم التي تجعلهن بلا اختيار فيما يتصل بمصائرهن، هن لا يخترن الزواج من مقاتلي التنظيم ولا الحياة تحت سيطرته ولا محاربة الدولة المصرية".
وواجهت دومة نفسها تعنتاً بسبب دفاعها عن حقوقهن القانونية "في بداية متابعتي لمثل هذه الحالات، كنت أسمع من العاملين في السلك القضائي أو الشرطي أنني ‘محامية الدواعش’، واستغرق الأمر مني وزملائي عاماً على الأقل لتغيير تلك النظرة لدى المتعاملين معنا في السلك الأمني وجهات التحقيق، لإقناعهم أنه ليست كل هؤلاء الفتيات من المعتنقات لفكر داعش، رغم وضعهن في نفس القضايا مع مقاتلين من داعش بالفعل".
وأوضحت دومة أن الزيارات في الأغلب من المحامين وتكون قصيرة للغاية، وقد يتم عرض المتهمة على النيابة أو قاضي التجديدات دون أن يستطيع المحامي رؤيتها أو التواصل معها، مشيرة إلى أنها تعرف القدر اليسير من قصص النساء التي تدافع عنهن لأنها لا تستطيع التواصل مع أغلبهن بسبب التضييق.
وتتفهم دومة ضرورة التحقيق مع العائدات من مناطق داعش وزوجات مقاتليها، "لم تكن جميعهن مجبرات، بعضهن سافرن بإرادتهن سواء عن اقتناع أو بعد عملية غسيل للأدمغة، لكنهن كلهن تعرضن للتعنيف، لا سيما التعنيف الجنسي، والأولى أن يخضعن إلى برامج تأهيل نفسية واجتماعية بدلاً من تركهن في السجن، ويمكن أن يتم تخصيص دار رعاية اجتماعية عالية التأمين تخضع لسلطة مشتركة بين وزارتي الداخلية والتضامن، لإيوائهن وتأهيلهن، خاصة وأن العديد منهن أمهات معهن أطفالهن، على أن يتم التحري عنهن وتقييمهن نفسياً واجتماعياً"، مشيرة إلى ضرورة خضوعهن إلى تأهيل نفسي قبل الإفراج عنهن.
في سوريا أيضاً
في يناير/ كانون الثاني 2020، قام الإعلامي المصري نشأت الديهي بجولة داخل مخيم الهول بسوريا، وهو مخيم يضم 73 ألف امرأة وطفل من عناصر داعش، بينهن مصريات، قلن أنهن سافرن إلي سوريا للانضمام لداعش بمحض إرادتهن، وأنهن غير راغبات في العودة إلى مصر حتى لا يتعرضن للملاحقة القضائية.
كان من بين نساء داعش اللاتي حاورهن الديهي، سميحة وهي مدرسة مصرية انتقلت إلى سوريا عبر تركيا في 2015 مع زوجها وعدد من أبنائها، وكان قرار الانتقال جماعياً، اتفقت عليه هي وزوجها وأبناؤها، بررته باستنادها إلى حديث منسوب للنبي يقول بعودة الخلافة في آخر الزمان، مشيرة إلى أن انتقالها لسوريا للانضمام لداعش كان نتيجة إيمانها بفكر "الخليفة أبو بكر البغدادي".
من جانبها قالت الصحفية المصرية عبير عبد الستار مؤلفة كتاب "نساء في مخدع داعش" أنها لم تقابل حالات لنساء مصريات تم تهريبهن قسراً من سيناء إلي سوريا، مشيرة إلى أن هذا ممكن الحدوث في سيناء نفسها أثناء سيطرة التنظيم عليها، إلا أن التهريب إلى سوريا كان يجري عبر السفر إلى تركيا أو التهريب إلى ليبيا أو السودان والسفر عبرهما، إلا أنها لا تستطيع أن تجزم أيضا بعدم وجود حالات إجبار على السفر لسوريا.
وأضافت عبد الستار لرصيف22، أن أغلب من سافرن إلى سوريا "سافرن بإرادتهن وقناعتهن"، إلا أنه "مقارنة بالعديد من الدول المجاورة، كانت مصر هي الأقل في عدد النساء اللاتي سافرن، كما لم يتولين مناصب في التنظيم".
وأشارت عبد الستار أن مخيم الهول حالياً "يمثل بؤرة إرهاب قد تنفجر في أي وقت، وقد يصيب مصر منها الضرر لأن هناك مصريات معهن أبنائهن "الذين ولدوا داخل أراضي التنظيم، ويرفعون علم التنظيم، وبعد عدة سنوات سيكونون شباباً يحملوا فكر داعش"، مشددة على ضرورة "تصفية المخيم" بنقل كل امرأة إلى دولتها التي جاءت منها وخضوعها وأبنائها لبرنامج تأهيلي.
تجارب الدمج
تنقسم الهاربات من داعش إلى نوعين، النوع الأول، هن اللاتي تم اختطافهن أو سبيهن على غير إرادتهن، مثل الأيزيديات والمسيحيات. وانتهجت قوات التحالف الدولي المحارب لداعش أساليب التأهيل النفسي وإعادة الدمج لمن يمكن لها منهن العودة إلى مجتمعها.
وفي عام 2021، أصدر البرلمان العراقي قانون "الناجيات من داعش" وهو قانون يعترف بكافة الفظائع التي ارتكبت ضد النساء الأيزيديات والمسيحيات والشبك من جانب داعش، ويؤمن لهم حق طلب التعويض، بالإضافة إلى تأهيلهن النفسي والاجتماعي، إلا أن القانون لم يتطرق لمصائر أبنائهن المولودين نتيجة الاغتصاب.
أما النوع الثاني فهن الزوجات من المسلمات، وهؤلاء ينظر لهن في كافة الدول على أنهن منتميات لداعش ويطلق عليهن "عرائس داعش" ، حتى وأن أجبرن على ذلك، فترفض تونس والمغرب والولايات المتحدة وكثير من الدول الأوروبية استقبال مواطناتها من زوجات مقاتلي التنظيم، ويتواجدن الآن في مخيم الهول بسوريا مع أبنائهن، مما يهدد المنطقة كما تري عبد الستار.
التأهيل قبل التحقيق
انتهجت الدول الغربية التي انضمت مواطنات لها إلى تنظيم الدولة الإسلامية منهجين مختلفين للتعامل مع النساء اللائي غادرن التنظيم، بعض الدول رفضت استقبالهن وأبنائهن، وبعضها الآخر قرر إخضاعهن إلى برامج تأهيل تستهدف "نحو الفكر المتشدد" وإعادة دمجهن في المجتمع.
من بين الدول التي اختارت المنهج الثاني، كانت كندا التي وضعت برنامجاً تفصيلياً، نشرته وأتاحته للدول التي قد تستفيد من تلك التجربة. ويتضمن البرنامج خطوات تفصيلية للتعامل مع النساء والأطفال العائدين من بين أيدي التنظيم.
تعلق الدكتورة عايدة سيف الدولة، أستاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس، ومؤسسة مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف، أن ضحايا الصدمات الناتجة عن التعنيف أو الاختطاف أو الاعتداء الجنسي لا بد أن تجري التحقيقات معهن/ معهم، في حضور أخصائي نفسي، متخصص في التعامل مع الصدمات. "هذا في صالح التحقيق نفسه، وليس لصالح الضحية الخاضعة للتحقيق فقط، إذ أن الصدمات والكرب الناجم عنها يحدثان خللاً في الإدراك والذاكرة".
تلاحظ سيف الدولة من خبرتها الطويلة في الدعم النفسي لضحايا العنف أن هناك ارتباك في روايات وشهادات من تعرضوا للصدمات أو عاشوا تحت التهديد والخوف لفترات طويلة، "حين يطلب منهم سرد ما حدث مرة أخرى، لا تتفق روايتهم في كل مرة. ليس لمحاولة منهم تضليل العدالة، وإنما بسبب الصدمة".
وأضافت سيف الدولة لرصيف22: "كل حالة تختلف عن سابقتها، ولذلك لا بُد من التقييم النفسي لمعرفة احتياجات كل حالة، وبرنامج التأهيل المناسب لها".
---------------
(*) اسم مستعار بالتنسيق مع محامية الضحية.
رصيف 22