تأثير الأقباط على الحضارة - Articles
Latest Articles

تأثير الأقباط على الحضارة

تأثير الأقباط على الحضارة

مجدي خليل:

 

وصلني منذ أيام البحث القيم الذى كتبه الأستاذ الدكتور أمين مكرم عبيد بعنوان تأثير الأقباط على الحضارة، وكان قد نشره منذ عدة سنوات فى مجلة كوبتك اتشريش ريفيوالتي يشرف على تحريرها في أمريكا عالم الأبائيات الفاضل دكتور رودلف ينى (شفاه الله)، وقد ترجمها للعربية المهندس سمير مترى ونشرت في القاهرة فى 2009 في كتيب صغير بنصها الانجليزي والعربي.

والبحث يسلط الضوء بشكل سريع ومركز على دور الأقباط في إثراء الحضارة العالمية رغم جهل أبناء مصر بهذا الدور نتيجة التهميش المتعمد للحقبة القبطية في المجال التعليمي والثقافي والإعلامي في مصر، حتى أن الكاتب الفرنسي بيرونسيل هوجوز أطلق عليهم الشعب الذي تناساه التاريخ ووصفهم البروفيسور إدوارد وأكين بالأقلية المعزولة، فهذا التاريخ المنسي للأقباط يجعل من التاريخ المصري كائن مشوه يصعب فهم محتواه كاملا بدون الرجوع إلى تاريخ القبط الثري.

من الصعب بالطبع حصر تأثير الأقباط على الحضارة في بحث صغير لا يتجاوز ال40 صفحة من القطع الصغير، فقد نشرت الموسوعة القبطية التي أشرف عليها عالم التاريخ الراحل الفذ عزيز سوريال عطية 8 مجلدات من القطع الكبير، ومع هذا نجح الدكتور أمين مكرم عبيد في بحثه الصغير في تسليط الضوء بشكل ممتع على المحطات الرئيسية في مساهمات الأقباط في الحضارة العالمية.

على مستوى المسيحية العالمية نجح الأقباط في تأسيس النظام الكهنوتي بمراتبه المتسلسلة على يد البطريرك القبطي الثالث ديمتريوس الكرام، وهو النظام المعمول به حتى الان في العالم المسيحي كله،كما كان الأقباط نجوم المجامع المسكونية الرئيسية وصاغوا جل قراراتها ومنها قانون الإيمان النيقاوي الذي كتبه أثناسيوس الرسول وهو القانون الجامع المعترف به حاليا من كل مسيحيي العالم على مختلف مذاهبهم، وكانت الاسكندرية مركزا للتوهج العقلي للحضارة والفلسفة والمنطق والعلم والدراسات اللاهوتية، حتى أن المؤرخ باتريك في كتابه المسيحية المصرية التقليدية يقول لا توجد مدينة أثرت بعمق فى الديانة المسيحية سوى الإسكندرية.الإسكندرية كانت اول مدينة في العالم يتم فيها دراسة التوراة باللغة اليونانية وترجم العهد القديم فيها إلى اللغة اليونانية وهي الترجمة الشهيرة المعروفة بالترجمة السبعينية لأن الذين ترجموها 70 شيخا يهوديا، وأيضا هناك احتمال أن تكون رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين قد كتبت في مصر.وفي الإسكندرية تم إنشاء أول جامعة لاهوتية في العالم المسيحى عام 180 ميلادية وهي مدرسة الإسكندرية وفيها تم ربط الإيمان بالمنطق والفلسفة. ومن مصر خرج نظام الرهابنية والديرية المسيحي للعالم كله حتى أن القداس الايرلندي يذكر حتى الأن أسماء السبعة رهبان المصريين الذين نشرو الرهبنة هناك ومنها إلى كل اوروبا، ومن المعروف أن الاديرة هي التى حفظت التراث اليوناني والروماني في عصور الإنحطاط المسيحي حيث يرى كلارك أن الأديرة التي كانت موجودة في اوروبا كانت من اهم العوامل التي ساهمت في انقاذ الحضارة الغربية من الاضمحلال، ويقول توماس كاهيل في كتابه الشهير كيف أنقذ الايرالنديون الحضارة أن الايرلنديين استطاعوا الحفاظ على الحضارة الاوروبية كلها من خلال أديرتهم واعترف كاهيل بفضل المصريين في وضع بذور الرهبانية في ايرالندا والغرب، حتى أن مستشار شارلمان الراهب الكوين والمحرك للنهضة الكارولينية اطلق على رهبان ايرالندا واسكتلندا أبناء مصر.

وقد ساهمت الكنيسة القبطية في نشر المسيحية في بلاد النوبة والسودان واثيوبيا وليبيا والمدن الخمس الغربية واليمن والهند وسيلان وفي اوروبا وحتى ايرلندا، وقصة الكتيبة الطيبية (نسبة إلى طيبة بالاقصر) والتي كانت تتكون من 6600 جندي بقيادة الفارس موريس وقد استشهد اكثريتهم فى سويسرا نتيجة رفض التبخير للاوثان، وتعد الكتبية الطيبية وقائدهم الشهيد القديس موريس من أشهر المعالم الدينية في اوروبا وهناك اكثر من 650 مكان باسم القديس موريس وخاصة في سويسرا وفرنسا، وهناك مدن بأسمه واسماء زملاءه الشهداء مثل سان موريس اون فاليه، وسان موريتز. والقديسة فيرينا والتى كانت تعمل ممرضة مصاحبة للكتيبة الطيبية ساهمت في نشر المسيحية في سويسرا وعلمت السكان هناك كيفية الاهتمام بصحتهم ونظافتهم الشخصية وكانت تعتني بالمرضى المصابين بالبرص، وتنتشر صورها في كافة ارجاء سويسرا وهي تحمل ابريقا ومشطا.

أما ما دفعته المسيحية المصرية من شهداء فهو يحتاج إلى مجلدات لكتابة أسماء هؤلاء الشهداء فقط الذين دفعوا حياتهم من آجل الإيمان المسيحي منذ دخول المسيحية لمصر وحتى كتابة هذه السطور.

فى مجال الفلسفة هضمت الإسكندرية ثلاثة حضارات فى بوتقة واحدة وهى الفرعونية وامتداداتها القبطية واليونانية والرومانية، وأسست مدرسة الإسكندرية اللاهوتية مبدأ أن الحقيقة هي الباب الفكري للمعرفة، وبزغ اكليمندس واوريجانيوس، وبعد الغزو العربي نقلوا للمسلمين الفلسفة والفلك والأدب والرياضيات والمعمار والترجمات، وبرزت أسماء ابو اسحق ابن العسال وابو شاكر بن الراهب وأبو بركات بن كبر الذين اصدروا ثلاثة مجلدات فلسفية بالقبطية والعربية، وكذلك الاب بطرس السدمنتي الذى كلفه أحد الأئمة المسلمين بكتابة كتاب عن التعريفات فكتب مجموعته الشهيرة في المنطق المعروفة بأسم ديكتافوسفوروم وكتب ايضا كتاب عن الأخلاق بعنوان تهذيب النفس ،والصافي أبو الفضيل المعروف بدقته التاريخية ومن أعظم المدافعين عن اللغة العربية. كما يبدو أن الأقباط هم أول من اخترعوا كتابة وتدوين المخطوطات وهي الخطوة التمهيدية لصناعة الكتب في العصر الحديث، وقد برع الأقباط في زخرفة المخطوطات بالذهب والفضة والألوان الزاهية التي اقتبسوها من الفراعنة. وقد تعلم المسلمون من الأقباط المهارات الخاصة بزخرفة ونحت الخشب وتطعيمه بالأبانوس والأحجار الكريمة وفن الاربيسك، وتقول لورانس ألبرت أن الأقباط تخصصوا في الأعمال الخشبية والنحت وتفوقوا فيها حتى بعد الغزو العربى.

اما الموسيقى القبطية فكانت الملهم للكثير من الإبداعات الموسيقية الغربية والحافظ للتراث الموسيقى الفرعوني. يقول عالم المصريات الدكتور درايتون أن المفتاح لمعرفة سر الموسيقى الفرعونية هو الاستماع إلى موسيقى الكنيسة القبطية المستخدمة حتى الان،وقد وصف عالم الموسيقى الانجليزى من جامعة اوكسفورد نيولاند سميث الموسيقى القبطية بأنها من عجائب الدنيا السبع ولا تستطيع البشرية تجاهلها، وعلى الموسيقيين الغربيين أن يستغلوا موسيقى القداس القبطى كجسر للربط بين الموسيقى الغربية والشرقية. ويشرح راغب مفتاح كيف عاشت الموسيقى الفرعونية من خلال حفظ الحانها بفضل غير المبصرين الذين حفظوا الكثير من هذه الالحان بدقة، أما الموسيقار محمد عبد الوهاب فقد افضى لوالد الباحث بأنه تأثر كثيرا بألحان الكنيسة القبطية في موسيقاه.

الجدير بالذكر أن مكتبة الكونجرس الشهيرة افتتحت الشهر الماضى قسما خاصا للموسيقى والالحان القبطية التى جمعها الآرخن الفاضل الراحل راغب مفتاح.

اما المعمار القبطي فكل المعمار الموجود في العالم الإسلامي هو من وحى المعمار القبطي والفارسي وخاصة القباب ومحراب المساجد، وتؤكد ذلك لورانس ألبرت حيث تقول أن المعمار القبطي أثر على شكل المساجد وزينتها، وأن شكل المحراب هو مأخوذ فى الأصل من الأقباط،أما ويل ديوران فى كتابه عصر الأيمان فيشير إلى أن الأقباط ساهموا في بناء مسجد المدينة مما دعا المسلمين للاحتجاج من أن جامع النبى بناه الكفار. وصمم الأقباط جامع بن طولون الشهير بالقاهرة الذى صممه إبن الكاتب الفرغاني وأيضا جامع السلطان حسن بالقاهرة، وهو تحفة معمارية زارها الرئيس اوباما في زيارته الخاصة للقاهرة فى يونيه الماضي ومعه هيلاري كلينتون بإعتباره من أعظم الأثار الإسلامية وهو لا يعلم أن مصممه كان قبطيا.

أما النسيج القبطى فهو حكاية لوحده فقد قام ديوران بمقارنة النسيج القبطي في بداية عصر المسيحية بمصانع جوبلين الشهيرة بفرنسا بعد أكثر من خمسة عشر قرنا ورغم ذلك كانت المقارنة في صالح النسيج القبطي، حتى أن لورانس ألبرت تقول أن الحياكة والنسيج هي أختراع قبطي.

وقد ساهم الأقباط في بناء الاساطيل البحرية العربية بعد الغزو العربى، ويقول ج.ف. حوراني في كتابه عن الملاحة عند العرب أستغل العرب الأقباط في بناء السفن بمدينة الإسكندرية حيث اتخذوها مقرا لأسطولهم البحري، وأن العرب اعتمدوا بشكل أساسي على القباطنة الأقباط لعدم خبرتهم في أمور البحر،ويقرر المؤرخ المسلم الطبري أن انتصار العرب على الاسطول البيزنطي عام 715 ميلادية كان بفضل تكامل البحارة الأقباط والمحاربين المسلمين حملة السيوف.

وقد قدم الأقباط للعالم أول موتور يعمل بالبخار اخترعه رجل عبقري يدعى هيرو،كما أن الذي قام بتدريب ابن النفيس هو طبيب قبطي، وكان المرجع الطبي الذى كتبه يوحنا النقاوي من أهم المراجع الطبية عند العرب، كم أن أول عمل علمي طبي مكتوب بالعربية هو لقبطي أيضا لمؤلفه اهرون السكندري،كما أن المفضل ابن الماجد الذى كتب كتابا بعنوان كيف نروي ظمأنا للمعرفة الطبية كان قبطيا.

تحية خالصة للأستاذ الكبير أمين مكرم عبيد زميل كلية الجراحين الملكية والامريكية والباحث بجامعة هارفارد سابقا، والذي حمل تواضع جده العظيم نجيب محفوظ باشا مؤسس  علم أمراض النساء والولادة في مصر وأخلاقه المسيحية الحقيقية، وتحية خاصة لمرقس سميكة باشا الذي جمع الكثير من تراث القبط في المتحف القبطى الذى أسسه فى القاهرة عام 1908، وتحية خاصة للعالم المصري الكبير عزيز سوريال عطية الذى جمع اكثر من 200 عالم متخصص في القبطيات حول العالم لينشروا بعد ذلك الموسوعة القبطية العظيمة فى 8 مجلدات، وتحية خاصة للأرخن الراحل الفاضل راغب مفتاح الذي أفنى عمره فى جمع الكثير من الموسيقى القبطية ودونها في نوت موسيقية بالتعاون مع الجامعة الأمريكية بالقاهرة،وتحية خاصة للوزير الراحل ميريت بطرس غالي مؤسس جمعية الأثار القبطية بالقاهرة، وتحية خاصة للعالم المصري الدكتور سعد ميخائيل سعد مؤسس وراعي قسم القبطيات بجامعة كليرمونت بكاليفورنيا،وتحية خاصة للمؤتمر الدولى للقبطيات والذى يعقد في أحدى المدن الكبرى فى العالم كل أربع سنوات، وتحية خاصة لجمعية القديس شنودة بكاليفورنيا والتي تعقد مؤتمرا سنويا علميا عن الدراسات القبطية بجامعة جنوب كاليفورنيا لمناقشة أحدث الابحاث فى الدراسات القبطية، وتحية خاصة للدكتور أشرف صادق بباريس الذى ينشر دورية محترمة عن الدراسات القبطية بأسم عالم الأقباط،وتحية خاصة لعالم الدراسات القبطية المعروف الدكتور جودت جبرة الذى يتنقل بين امريكا واستراليا ومصر لتدريس القبطيات، وتحية خاصة لكل من يساهم فى الحفاظ على تراث شعبه القبطي المصري الفرعوني.

نشرت للمرة الأولى فى 7 ديسمبر 2009 في موقع إيلاف

Related

Share

Rating

1.00 ( 1 reviews)

Post a Comment

Category
Author
More Options
  • Recent
  • Popular
  • Tag
Tags