خالد اليماني:
ما إن تهدأ قوى الشحن الطائفي في الهند، وتعود أجواء السلم المدني وتبرز علامات النهوض الحضاري، حتى تجد المنتفعين من المتطرفين يعاودون إذكاء النيران الطائفية في ماكينة الصراع السياسي في الدولة التي طالما كان نجاح حكمها مرتبطاً بالحفاظ على التوازن الدقيق بين الهندوس والمسلمين والحد من الخطاب الطائفي المتشدد.
ففي الهند يعيش 154 مليون نسمة من الهنود المسلمين، بما يساوي 13 في المئة من مجمل سكان البلد الآسيوي، وهم جزء فاعل في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وامتداد لحالة تثاقف ثري بين شبه الجزيرة الهندية وشبه الجزيرة العربية على وجه الخصوص، والعالم العربي والإسلامي بشكل أعم.
لقد كان الشحن الطائفي في الهند، وما زال، سبباً في تدمير جمال الفضاء الفريد للتعددية الثقافية الهندية، ومن بين أكبر الشواهد على خطر ازدراء الأديان والشحن الطائفي ذلك الحادث المؤلم في تاريخ الهند الحديث الذي جرى في 30 يناير (كانون الثاني) 1958، حينما قتل الإرهابي الهندوسي ناثورام غودسي، هندوسياً آخر هو المهاتما غاندي، الأب الروحي للهند الحديثة، بتهمة خيانة الهندوس ودفاعه عن حقوق المسلمين.
وللمصادفة التاريخية، فإن الإرهابي غودسي كان من الأعضاء الفاعلين في "منظمة راشتريا سوايا مسيفاك" الهندوسية المتطرفة، والمنبع الأيديولوجي لـ"حزب بهاراتيا جاناتا" الحاكم الذي يقوده اليوم رئيس الوزراء ناريندرا مودي.
لقد كانت رسالة غاندي الأخيرة إلى الأمة الهندية التي أثارت غيض المتطرفين الهندوس، تتلخص في ضرورة التسامح بين الطوائف، ولطالما كرر في لقاءاته المختلفة مع المسلمين إيمانه بوصية مؤسس دولة المغول الإسلامية في الهند ظهير الدين بابر، لابنه الملك جلال الدين أكبر، بعدم الانسياق وراء الخلافات الطائفية والعرقية في الهند، حفاظاً على وحدة الدولة.
فكان الملك جلال الدين أكبر نموذج لتأسيس المصالحة الشاملة بين الأعراق والأديان المختلفة في الهند، حتى جاءت بريطانيا واعتمدت استراتيجية "فرق تسد"، لتعمّق الصراع الطائفي المرير الذي ناضل غاندي ورفاقه في "حزب المؤتمر الوطني" الهندي لهزيمته عبر ثورة اللاعنف التي ميزت نضالهم من أجل استقلال الهند.
التطرف يعبث بالهند
قاد "حزب المؤتمر الوطني" الهندي مكونات المجتمع وطوائفه من أجل الاستقلال عن بريطانيا، منذ مطلع القرن العشرين، وتمكن من الفوز في الانتخابات العامة لـ15 دورة منذ استقلال الهند، وحكم البلاد قرابة خمسين عاماً، حافظ فيها على روح التسامح بين المسلمين والهندوس، وفتحت الأبواب واسعة للتطور الشامل الذي شهدته الهند.
إلا أن "حزب المؤتمر الوطني" العريق انتشرت بين صفوفه المحسوبيات والفساد وبدت عليه ملامح الترهل الذي استغله الشعبويون واليمين المتطرف لتأجيج الصراعات الطائفية التي حولت الهند إلى مرجل للعنف والتخويف ضد المسلمين من قبل العصابات المتطرفة الهندوسية وصولاً إلى الفوز في الانتخابات العامة خلال العقد الماضي التي أوصلت مودي إلى قمة السلطة السياسية.
لقد أحدث وصول مودي ردود فعل قوية عند المسلمين الذين أبدوا تخوفهم من معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية، إذ سبقه تاريخه العنيف حينما كان رئيس وزراء ولاية كجرات في عام 2009 حينما صرخ في وجه المسلمين "إما باكستان أو قبرستان"، في خطاب عنصري لطرد مواطنيه الهنود المسلمين من وطنهم. فسجل انتهاكات حقوق الإنسان ضد المسلمين في هذه الولاية مقيّد لدى المنظمات الدولية ودماء مواطنيه المسلمين في عنقه. ويشير تقرير وزارة الخارجية الأميركية عن الحريات الدينية في العالم والصادر أخيراً إلى أن الهجمات على الأقلية المسلمة، بما في ذلك القتل والاعتداء والتخويف، استمرت في الهند خلال عام 2021، فيما دعت منظمة العفو الدولية في تقريرها الصادر أخيراً السلطات الهندية إلى ضمان عدم إفلات المتورطين في جرائم قتل المسلمين من العقاب لخطورتها باعتبارها جرائم كراهية.
وما زال التطرف في حكومة مودي يجد تعبيرات مختلفة في وأد المبادئ الهندية المقدسة التي جعلت الهند قبلة للتعايش والتسامح. ولطالما كان استخدام التطرف وخطاب الكراهية أحد أبرز أدوات الحزب الحاكم واتباعه لكسب أصوات انتخابية، عبر تهييج مشاعر المتطرفين الهندوس ضد المسلمين.
من هنا، يأتي التأكيد المستمر لعناصر بارزة في الحزب الحاكم من أن الهنود المسلمين ليس لهم الحق في العيش في الهند وأن موطنهم هو باكستان. وعملت حكومة مودي على طرد مسلمي ولاية آسام الهندية إلى بنغلاديش، والسكوت المغرض عن سلوك المتطرفين واعتداءاتهم المتكررة على الممتلكات الخاصة ودور العبادة، واستحضار معتقدات بائدة من قرون خلت حول حقوق هندوسية، وآخرها منع الحجاب في المراكز التعليمية في بعض الولايات الهندية.
التحريض الذي أطلقته المتحدثة الرسمية وآخرون في الآلة الإعلامية باسم حزب مودي، تصب في الإطار ذاته في انتكاسة للقيم التي حكمت الحياة السياسية الهندية خلال العقود الماضية، وتهدد أصداؤها المباشرة وغير المباشرة بمزيد من تفخيخ الحياة السياسية الهندية، بل إن هذه التصريحات لم تعد سلوكيات متطرفة داخلية تستهدف المواطنين الهنود المسلمين، وتجاوزتها لتشمل ازدراء دين عالمي ينتمي إليه قرابة ملياري نسمة أو ربع سكان الكرة الأرضية وثاني أكبر دين في العالم والأكثر انتشاراً.
العولمة في وجه التطرف
لقد أكدت مجمل البيانات الصادرة عن الدول الإسلامية على خطورة التصريحات المنفلتة للمتطرفين في الحكومة الهندية ورفض المساس بالرموز الدينية للأديان والمعتقدات كلها. وطالبت بعض البيانات بأهمية اعتذار رئيس الوزراء الهندي عن قضية الازدراء الديني.
وفي تقديري وتقدير كثير من المراقبين، فإن المسلمين ودولهم ليسوا بحاجة إلى اعتذار رئيس الوزراء الهندي، ولكنه هو بأمس الحاجة إلى هذا الاعتذار من مواطنيه. فمن جهة، هو بحاجة إلى الاعتذار من مواطنيه الهنود المسلمين للتأكيد على المبادئ السامية التي قامت عليها الهند الغاندية، والاعتذار يشكل رسالة لمواطنيه الهندوس سدنة التعايش السلمي في الهند، ولاتباع الديانات الأخرى، بأن الدولة المدنية هي سقفهم المشترك. وهي رسالة أخيراً إلى المتطرفين الهندوس، بأن عواقب اللعب بالنار وخيمة. فالفتنة ما زالت تحت السيطرة وإن فك عقالها ستحرق الهند ومودي.
وترتبط الهند بعلاقات تاريخية بالعالم العربي، وعلى وجه التحديد بالجزيرة العربية، حيث يعيش ويعمل الملايين من أبناء مختلف الطوائف الهندية ويمارسون معتقداتهم ويحظون بالاحترام والتقدير من جانب مواطني دول المنطقة. هذا بالإضافة إلى وشائج القربى العميقة التي تجمع شعوب المنطقة بشبه الجزيرة الهندية. وحجم التبادل التجاري بين دول الخليج والهند يفوق 90 مليار دولار سنوياً، مما يعكس حجم العلاقات العميقة والمنافع المتبادلة.
إن عالم اليوم يزداد تداخلاً وتكاملاً وتقف السعودية والهند ضمن كبرى الاقتصادات العالمية، ومن جهة أخرى فإن السعودية هي قائدة العمل الإسلامي وخطاب التسامح والوسطية. فقد تناولت رؤية المملكة 2030 العمق العربي والإسلامي للمملكة ومحور الربط بين القارات الثلاث التي تقع الهند في القلب منها، للتحول إلى قطب إقليمي عالمي، وتحتاج خطط التطوير التي تفرضها عملية الانتقال المتسارعة إلى فضاءات الثورة الصناعية الرابعة إلى مقدرات وعقول شعوب الدول المختلفة للانصهار في بوتقة الفعل الإنساني الخلاق. وتقف الجزيرة العربية في مركز هذه الورشة النهضوية والتغييرية العالمية التي ستنتقل بدولنا وشعوبنا إلى مستويات غير مسبوقة من التطور والتنمية. وهذه الورشة العملاقة التي تشهدها المنطقة بقيادة السعودية مرتبطة بتشبيك المصالح والمنافع بين دول الإقليم ودول الجوار الحيوي ومنها دولة الهند الصديقة.
إن ورشة الإبداع التي نسمع دوران ماكينتها المتسارع في كل دول المنطقة، تتطلب التحرك الفوري من قبل القيادة الهندية وكل القيادات الفاعلة في منطقتنا لوأد التطرف، ونبذ كل أشكاله، والتوقف الفوري عن إثارة النعرات الطائفية واستغلال الدين لأغراض سياسية تهدد بتدمير قيم التعايش والسلام والنماء. إن مستقبلنا المشترك وخير شعوبنا يتطلبان ذلك، فهل تدرك الهند معنى هذه الرسالة وتقطع الطريق على المشاريع الماضوية.
اندبيندت عربية