محمد يسري:
من المعروف أن طقوس الطلاق قد تمتعت بأهمية كبرى في الثقافة الإسلامية الجمعية، وذلك لما ينبني عليها من أحكام وشرائع. المدونات الحديثية نبهت عن ذلك المعنى في الكثير من الروايات المنسوبة للرسول، ومن ذلك ما ورد في سنن أبي داود "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة".
بدورها، احتفظت المصادر التاريخية بالعديد من القصص التي ربطت بين الطلاق والسلطة، تلك التي بينت التماهي الكبير بين الفقهي والسياسي في تاريخ الإسلام. وفي حين تحظى بعض تلك القصص بالموثوقية التاريخية، فإن البعض الآخر منها يقترب من مجال الحكايات الشعبية التي يزيد فيها الخيال عن الواقع.
فتوى مالك: الثورة وطلاق المكره
وصل العباسيون للسلطة في سنة 132هـ، بعد فترة طويلة من الكفاح المسلح الذي خاضوا غماره ضد الأمويين. في 136هـ، تولى أبو جعفر المنصور الخلافة عقب وفاة أخيه السفاح، وتمكن من توطيد دعائم الدولة بعدما بنى مدينة بغداد وقضى على الثورات التي اشتعلت ضده.
أحد أهم تلك الثورات كانت تلك التي قام بها العلويون في سنة 145هـ، تحت قيادة محمد النفس الزكية، والتي تمكنوا -أي العلويون- فيها من إحكام سيطرتهم على المدينة المنورة. في تلك الظروف العصيبة، وقف الكثير من فقهاء المدينة مع النفس الزكية، وكان منهم الإمام مالك بن أنس الأصبحي (المتوفى 179هـ). مالك أعلن عن دعمه للثورة، وقال: إن النفس الزكية أحق بالحكم من المنصور. ولما رأى أن الكثير من الناس يرفضون المشاركة في الثورة خشيةَ أن يكون في ذلك نقض للبيعة التي أدوها من قبل للمنصور، فإنه -أي مالك- عمل على الوصول لحلّ فقهي للمسألة، فقال إن البيعة بالإكراه لا تصح ولا تنعقد، وأختار الطلاق تحديداً ليصبح نموذجاً لتطبيق ذلك الرأي، عندما روج للقول بأن طلاق المُكره لا يقع.
العباسيون الذين تمكنوا من وأد الثورة وقتل النفس الزكية في رمضان سنة 145هـ، عرفوا ما يكمن من خطر على سلطتهم في فتوى مالك، وفهموا أن الفتوى حملت معنى باطنياً مستتراً، ولذلك أمروا مالك بالتوقف عن هذا القول، ولما خالفهم قاموا بتعذيبه والتشهير به، وفي ذلك يقول أبو نُعيم الأصبهاني (المتوفى 430هـ) في كتابه "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء": "أن مالكاً لمّا ضُرب حُلق وحُمل على بعير! فقيل له: نادِ على نفسك. فقال: ألا مَن عرَفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي، وأنا أقول: طلاق المكره ليس بشيء".
"أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة": فتوى الليث بن سعد لهارون الرشيد
يحكي أبو نُعيم الأصبهاني في كتابه "حلية الأولياء" واحدةً من القصص الشهيرة المرتبطة بمسألة الطلاق، والتي جرت وقائعها بين الخليفة العباسي الأشهر هارون الرشيد والفقيه الليث بن سعد.
بحسب المصادر التاريخية الإسلامية، فإن أصول الليث بن سعد (المتوفى 175هـ)، تعود إلى بلاد فارس، وهو واحد من كبار الفقهاء الذين عُرفوا في زمن الرشيد، وكان يعيش في مصر الذي ولد فيها عام 94هـ.
يذكر الأصبهاني في كتابه أن الرشيد قد تشاجر يوماً مع زوجته زبيدة، فقال لها: "أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة"، وبعد أن عاد إلى رشده فكر في ما قال، فعرف أنه قد وقع في إشكال عظيم، ولذلك أرسل مستقدماً كبار الفقهاء الموجودين في بغداد، كما بعث لفقهاء الأمصار أن يحضروا إليه في أقرب فرصة.
بحسب الرواية فإن هارون الرشيد اجتمع بالفقهاء، وعرفهم بما جرى، وطلب منهم أن يقدموا له المشورة والحلّ، فعجزوا جميعاً وارتبكوا، ولما سُئل الليث بن سعد عن الحل، طلب من الرشيد أن يخلي مجلسه من جميع الحاضرين، وبعدها أخذ المصحف وفتحه، وقرأ الآية السادسة والأربعين من سورة الرحمن: "وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ"، وطلب من الرشيد أن يقرأها بتدبر، وأن يستحضر خشية الله في قلبه، واشتدّ في فعل ذلك حتى بكى الخليفة، وظهر عليه الخوف.
فلما رأى ذلك منه، سأله: "إنك يا أمير المؤمنين تخاف مقام الله؟ قال هارون: إني أخاف مقام الله. فقال: يا أمير المؤمنين، فهي جنتان، وليست بجنة واحدة كما ذكر الله تعالى في كتابه". وهكذا وجد الليث بن سعد المخرج للخليفة، وعندها فرح به الرشيد كثيراً، وأجزل له العطاء وعرض عليه أن يقطعه أرضاً واسعة، فرفض الليث وطلب أن يتولى أمرَ إدارة بعض الأعمال في مصر، وأن يأخذ غلاماً من الرقيق "فخرج -أي الليث بن سعد- من بين يدي أمير المؤمنين بجميع الجوائز والخلع والخادم، وأمرت زبيدة له بضعف ما أمر به الرشيد، فحُمل إليه، واستأذن في الرجوع إلى مصر، فحُمل مكرماً".
حيلة أبي يوسف: الرشيد والجارية
من القصص المشهورة التي ربطت بين السلطة والطلاق، قصة هارون الرشيد وجعفر البرمكي والجارية الحسناء. بحسب ما ورد في الكثير من المراجع، ومنها على سبيل المثال كتاب "نوادر الخلفاء" المشهور بـ"إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس"، لدياب الإتليدي (المتوفى في القرن الثاني عشر من الهجرة)، فإن هارون الرشيد كان معتاداً على السهر والسّمر مع صديقه جعفر البرمكي، وفي ليلة ما، لعبت الخمر برأسيْ الصديقين، وكان الخليفة قد سمع عن الجارية الحسناء التي اشتراها صاحبُه، فطلب منه أن يبيعها أو يهبها له، ورفض جعفر، وأصرّ كلٌّ منهما على موقفه، فحلف هارون "زبيدة طالق مني ثلاثاً إن لم تبعنيها أو تهبنيها"، وحلف جعفر "زوجتي طالق مني ثلاثاً إن بعتها أو وهبتها"، وبعد ساعة أفاق الرجلان من سكرة الخمر، وعرفا أنهما قد ارتكبا امراً عظيماً لأنّ تمسُّكَ أحدِهما بقسمِه كان يعني -بالتبعية- طلاق الآخر من زوجه.
بحسب القصة فإن الرشيد قد استدعى القاضي أبا يوسف لمجلسه، وأخبره بما جرى ليحلَّ هذا الإشكال، فلما سمع القاضي بالحكاية، قال: إن الحل سهل، وأمر جعفر "بعْ أميرَ المؤمنين نصفها، وهبْه نصفها تبرأ من يمينكما". الرشيد الذي هام بالجارية حباً، فرح بهذا الحل، وطلب من الفقيه أن يجد له حلاً يعفيه من انتظار مدة استبراء رحم الجارية، فطلب منه القاضي أن يستدعي أحد العبيد الأرقاء، وقال لهارون بعدها: "يا أمير المؤمنين، إئذنْ لي أن أزوجها منه، ثم يطلقها قبل الدخول، فيحُلّ وطؤها في الحال من غير استبراء".
الإشكال لم ينحل بذلك، لأن العبد بعد أن تزوج الجارية، رفض أن يطلّقها، ولم يكترث للأموال التي عرضها عليه الخليفة في سبيل ذلك الأمر. عندها تدخل أبو يوسف للمرة الثالثة، فقال للرشيد: "يا أمير المؤمنين لا تجزع فإن الأمر هيّن. أعتق الجاريةَ، ثم ملّكْ هذا العبد للجارية. قال: أعتقتُها وملكته لها"، فلما وقع ذلك فرق القاضي بين الزوج وزوجته، لأن الأول قد صار مملوكاً للثانية، وبعدها أخذها الرشيد، وقال لأبي يوسف: "مثلك من يكون قاضياً في زماني"، ومنحه كميةً كبيرة من الذهب والجوائز. على الرغم من الشهرة الكبيرة التي حظيت بها تلك القصة، فإن الكثير من الشكوك تحيط بها، بما يرجح أنها لا تعدو على أن تكون حكاية شعبية ليس إلا.
فتوى ابن المطهر الحلي: عندما تحول المغول للتشيع
رغم تمكن المغول من غزو مساحات واسعة من أقاليم العالم الإسلامي في القرنين السادس والسابع الهجريين، إلا أن الهزائم المدوية التي تعرضوا لها على يد المماليك في معركتي عين جالوت وحمص على الترتيب، قد وضعت حداً لانتصاراتهم المتتالية.
بحسب ما هو معروف، فإن المغول بعد أن تعرضوا للهزيمة، أسسوا دولة قوية في العراق وإيران، وهي الدولة التي عرفت باسم الدولة الإيلخانية، والتي تحول سلاطينها للإسلام في بدايات القرن الثامن الهجري بالتزامن مع وصول غازان خان للسلطة.
بعد وفاة غازان خان، تولى الحكم أخوه محمد خُدابَنده، وتتفق المصادر التاريخية على أنه قد تحول للمذهب الشيعي الإمامي الاثني عشري، وأن هذا المذهب قد صار المذهب الرسمي للدولة كلها. الكثير من المصادر فسّرت هذا التحول المهم، بموقف يتعلق بطلاق خدابنده من زوجته. على سبيل المثال يذكر محمد باقر الخوانساري (المتوفى 1313هـ) في كتابه "روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات"، أن خُدابَنده قد حلف بالطلاق ثلاثاً على زوجته لما تشاجر معها ذات يوم، ولما ثاب إلى رشده ندم على ذلك، وأراد أن يرجع زوجته إلى عصمته، فجمع فقهاء المذاهب السنية الأربعة -الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة- وعرض عليهم الأمر، فقالوا له: إن زوجته قد صارت مطلقة منه، وأنه لا سبيل لرجوعها إليه، اللهم إلا أن تتزوج برجل آخر، وأن يطلقها هذا الرجل، فإن فعل، فإنه يحق له في تلك الحالة أن يتزوجها مرة أخرى.
بحسب ما يذكر فوزي آل سيف في كتابه "أعلام الإمامية"، فإن خُدابَنده قال للفقهاء: "لكم في كل مسألة أقوال فهل يوجد هنا اختلاف؟ فقالوا: لا، فقال أحد وزرائه: في الحلة عالم يفتي ببطلان هذا الطلاق، فقال العلماء: إن مذهبه باطل، ولا عقل له ولا لأصحابه، ولا يليق بالملك أن يبعث إلى مثله. فقال الملك: أمهلوا حتى يحضره ونرى كلامه".
بحسب القصة فإن خُدابنده استدعى الفقيه الشيعي المطهر بن يوسف الحلّي (المتوفى 726هـ)، فلما حضر أخبره أن الطلاق لم يقع من الأساس، وذلك لأنه لم يكن هناك شهود على الواقعة، ومن المعروف أن وجود الشهود من الأركان المعتبرة في الطلاق في الفقه الشيعي الإمامي الاثني عشري.
بحسب المصادر لعبت هذه الحادثة دوراً مهماً في مستقبل المذهب الشيعي في إيران، ولا سيما بعد أن عزم خدابنده على نشر التشيع بين رعاياه، واتضح ذلك في إعطائه صلاحيات واسعة للعلامة الحلّي، بحيث مارس جهوداً عظيمة في نشر المذهب في شتى أنحاء بلاد فارس.