د. عماد بوظو:
خلال الأسابيع الماضية وقعت حادثتان تفصل بينهما آلاف الكيلومترات لكن رابطاً مشتركاً كان يجمعهما، أول هذه الحوادث كان مقتل أيمن الظواهري آخر قادة تنظيم القاعدة في كابل، والذي بمقتله تمّ طَي صفحة منظّمات الإرهاب الإسلامي العالمية التي كان عدد أفرادها قبل بضعة سنوات فقط عشرات آلاف المقاتلين الذين بسَطوا سيطرتهم على مساحات واسعة من عدّة دول، بينما لم يتبقّ اليوم تحت سيطرة هذه التنظيمات سوى جيوب صغيرة معزولة في مناطق هامشية من العالم لا يهتم بها أحد، وحتى تحوّلت هذه التنظيمات إلى إيديولوجيا إرهابية ليس لها ذراع تنفيذية، وكانت الحادثة الثانية قيام شاب لبناني بمحاولة اغتيال الكاتب البريطاني سَلمان رُشدي في نيويورك، ممّا أعاد تسليط الضوء على ظاهرة الذئاب المنفردة التي برزت خلال السنوات الماضية وكأنها بديل عن منظمات الإرهاب الإسلامي التي انتهت أيامها.
والذئب المُنفرد حسب التعريف هو شخص يرتكب أعمال عنف لوحده دون مساعدة من أحد ودون أن يتلقّى أوامر من منظومة قيادة، منهم من يفعل ذلك لدوافع دينية أو سياسية وآخرون لأسباب اجتماعية وهناك من يرتكب جريمته فقط نتيجة إصابته باضطرابات نفسيّة، ولذلك قالت صحيفة واشنطن بوست أن هناك نوعين من هذه الذئاب هما الشرّير والمجنون.
وانتشرت هذه الظاهرة بين المسلمين الغاضبين ولكن عند التدقيق فيها يتبيّن أن هذه الذئاب لم تكن مُنفردة تماماً، بل ترتبط بخيوط فكريّة مع تنظيمات الإرهاب الإسلامي، وتأكيداً على ذلك أصدرت هذه التنظيمات كتيّبات فيها توجيهات لهؤلاء، مثل كتيّب "إستراتيجية الذئب المنفرد" لأبو أنس الأندلسي الذي نُشر عام 2015، وتتضمّن هذه الكتيّبات تعليمات محدّدة للذئب المنفرد منها التنكّر وعدم إظهار أي شيء يدل على خلفيته الإسلامية ابتداء من حلاقة ذقنه إلى ارتداء الملابس الغربية بنفس الطريقة الشائعة في المجتمعات الموجود فيها والاندماج ضمن المجتمع المحلي وانتهاء بتجنّب الصلاة في المساجد.
كما وفّرت شبكة الإنترنت ووسائل التواصُل الاجتماعي الوسط المثالي لاصطياد مشاريع الإرهابيين هؤلاء، لأنها أمّنت لهم مجتمع افتراضي يعيشون فيه ويتبادلون عبره المعلومات والخبرات مع أمثالهم دون وجود تواصل أو معرفة شخصيّة بينهم، ويُعتبر المهاجرون غير المندمجين في مجتمعاتهم الجديدة الهدف السهل لهذه التنظيمات، ولذلك خصّصت المواقع الجهادية برامج في اللغات الرئيسية التي يتكلم بها المسلمون حول العالم هدفها تجنيد المهاجرين.
وأشارت إحصائيات السنوات الماضية إلى أن نسبة كبيرة من الذين تم تجنيدهم كانوا يُعانون من اضطرابات نفسية واجتماعية أكثر من نظرائهم أعضاء المنظمات الإرهابية التقليدية، كما أن بعضهم أتى من أوساط غير متديّنة وكان يتعاطى الكحول أو المخدرات أو كان على علاقة مع فتيات، ومنهم من كانت لديه سجلّات إجرامية، كما أن نصفهم يُعاني من العزلة الاجتماعية.
وبما أنهم كانوا متروكين لوحدهم لابتكار وسائلهم الخاصّة اعتمادا على إمكانياتهم المتواضعة، فقد كانت عمليّاتهم الإرهابية فقيرة في الموارد واللوجستيّات وكان أكثرها شيوعاً عمليّات الطعن بالأسلحة البيضاء لأهداف سهلة لا تتمتّع بأي حماية، أو دَهس مُشاة لا على التعيين بالسيارة، ورُغم أنه لم يكن لهذه العمليات أيّة جدوى أو قيمة لكنّ التنظيمات الإسلامية كانت ترحّب بها وتتعامل معها وكأنها انتصارات، لأنه لم يتبقّ لها سوى هذا النوع من العمليات الذي تستخدمه لرفع الروح المعنويّة لما تبقّى من جمهورها ولإثبات أنها مازالت على قيد الحياة.
ومع أن كثيراً من هذه الجرائم كانت تشكّل إلهاماً لإرهابي آخر لتنفيذ جريمة مُماثلة في ما يسمّى الهجمات المقلّدة، ولكن إحصائيات السنوات الأخيرة أظهرت انخفاض عمليات الإرهاب الإسلامي بما فيها عمليات الذئاب المنفردة بشكل كبير في الولايات المتحدة وأوروبا.
وتعتمد جرائم الذئاب المنفردة في وجودها على خطاب الكراهيّة الذي يتولّى الترويج له مجموعة من المراكز الإسلامية ووسائل الإعلام التي يتداخل عندها خطاب الكراهية ذو الخلفية الدينية مع خطاب كراهية آخر له خلفية سياسية، والترويج لهذا النوع من الخطابات ليس عفوياً أو مرتجلاً كما يُحاول ان يبدو، بل هو في الحقيقة عملية مدروسة لها قواعد محدّدة تهدف إلى تحويل مواطن عادي تدريجيّاً إلى إنسان غاضب ومشروع قنبلة جهاديّة.
وتقوم هذه العملية أوّلاً على تصيّد أي خبر من أي مكان في العالم يُمكن استخدامه للادعاء بأن المُسلمين يتعرّضون للاضطهاد لتقوم بنشره مراراً وتكراراً، ثم إظهار الحوادث التي تقع مع المسلمين عبرَ العالم وكأنها جزء من مخطّط واسع يستهدفهم، وهذا طبعاً يتطلّب الترويج لنظريّة المؤامرة التي تقول إن أطرافا دولية قويّة ومتنفّذة تقف وراء كل ضرر يلحق بالمسلمين في أي مكان من العالم ويربطون هذه الأطراف غالباً بدول الغرب.
أما الناحية الأخرى التي تروّج لها هذه المحطّات فهي إقناع هذا المُسلم بأنّ الغرب ضعيف ويعيش أسوأ أيامه، ولذلك تقوم بتضخيم أي أزمة يُعاني منها أو أي احتجاجات يشهدها ونشرها تحت عناوين طنّانة وفارغة وبعيدة عن الواقع من نوع "أُفول الغرب" أو "سُقوط الحضارة الغربية" أو "لماذا أصبح انهيار الولايات المتحدة أمراً لا مفرّ منه" لأنه بذلك يسهُل إيهام الشاب المُستهدف بأنّ تضحيته بحياته في عمليّة إرهابية مهما كانت صغيرة ستُحدث أثراً كبيراً، وسيترتّب عليها نتائج مهمّة تقود إلى النصر ولو بعد حين، وبعد ذلك توهمه بأن التاريخ سيخلّد اسمه بعد هذه العملية بعكس الواقع المُشاهد وهو نسيان هؤلاء الأفراد بعد بضعة أيام من مقتلهم حتّى من قبل أقرب الناس إليهم.
وعلى نفس الطريقة، ولكن بأسلوب أكثر وضوحاً تسير مواقع التواصل الاجتماعي المُرتبطة بالتنظيمات الإسلامية وتسجيلات اليوتيوب التي يقوم بها أفراد يدّعون أنهم مستقلّين عن أي تنظيم سياسي إسلامي مع أن كل كلمة يقولونها تتطابق حرفيّاً مع الخط السياسي لهذه التنظيمات.
ومع أن أغلب القوانين المُعاصرة تنصّ على حظر أي دعوة إلى الكراهية القومية أو الدينية أو تحرّض على التمييز والعداوة والعنف، ومع أن شركة فيسبوك وتويتر وغوغل قد وافقت على مدوّنة ضبط السُلوك التي تمنع مُهاجمة الأشخاص على أساس عرقي أو ديني، ولكنّ ذلك لا يشمل منع نشر الأخبار التي تتحدّث عن اضطهاد مزعوم يتعرّض له مُسلمون في مكان ما من العالم، مع أن الهدف الوحيد لنشر مثل هذه الادعاءات الكاذبة هو الترويج للكراهية ضد الطرف المُتّهم باضطهاد المسلمين.
ولذلك من الصعب إيقاف عمليات الذئاب المنفردة نهائياً دُون منع عمليات التحريض وخطاب الكراهية بطريقة فعّالة، والطلب من مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب مراقبة المُحتوى من خلال خبراء يُتقنون اللغات التي يتحدث فيها المحرّضون على الكراهية والعنف وكثير من هؤلاء يعيش في دول الغرب ويستفيدون من مناخ الحرية المتاح فيها، وإغلاق منابرهم ومحاسبتهم قانونياً عن كل جريمة كراهية تحدُث نتيجة تحريضهم، وكذلك مواجهة الدول التي تروّج مراكزها الدينية وإعلامها لخطاب الكراهية بشكل جدّي، لأن الذئاب المنفردة ترتكب جرائمها بإيحاء مباشر من خطاب الكراهية والتطرّف الذي تروج له مراكز إسلامية كانت تطرح نفسها كمركز للوسطيّة والاعتدال بالتعاون مع قنوات إعلامية كبيرة تموّلها دُول تدّعي أنها مُتحالفة مع الغرب.