خالد البري:
يمثل يوسف القرضاوي حالة خاصة من بين شيوخ الإسلام السياسي. يمكن وصفها، تهذيباً، بحالة «التكيف» بأي ثمن من أجل تمكين الجماعة. حالة تحويل الدين إلى «سكين سويسري»، أو إلى قبعة ساحر. الدين استخدم سياسياً عبر العصور لأغراض متعارضة، وهذا جزء من طبيعة التأويل. وربما يكون نقطة قوة أساسية. نعم، ولكن هذا حدث بسبب اختلاف الفرق والمذاهب والمنطلقات. أو - في جماعة مظلية كجماعة فلول العثمانيين - بسبب تعدد الأصوات، وتقديمها هذا الصوت مرة، وذاك مرة. أما أن يضطلع شخص واحد بمهمة التلون، فهذه علامة تجارية مميزة للقرضاوي.
امتلك القرضاوي من «حياء الوجه» قدراً متناهياً في الصغر إلى درجة الإعجاز. كان قادراً، في عصر يوتيوب الصوت والصورة، على مدح النظام السوري، ثم لعن النظام السوري. وقادراً على مد خطوط الود مع القذافي، ثم الدعوة الصريحة العلنية إلى قتله. حرض الشباب على التفجيرات الانتحارية، ثم تنصل من فتواه المصورة. حرض الشباب على مطاردة الأميركيين في جزيرة العرب، وحثهم أيضاً على حسن استقبال الأميركيين في جزيرة العرب. نادى بالولاء والبراء، ولكنه دعم «الناتو» في قصف ليبيا. سن لسانه على الدول التي تدشن علاقات مع إسرائيل، ومدح حكمة إردوغان إن فعل الفعل نفسه. دعا إلى تقارب السُنة والشيعة إن أراد دعم إيران ضد دولة جارة، وحرض على الشيعة في سوريا إن أراد خدمة دولة مضيفة. كان قادراً على خدمة سلطة، وعلى رمي سهامه على شيوخ آخرين يتهمهم بـ«خدمة السلطة». وكان قادراً مع كل هذا على ادعاء العلياء الأخلاقية.
«كاراكتر» لو قدَّمه عملٌ درامي لاتُهم القائمون على إنتاجه بالمبالغة، وبتجسيد رجل دين في صورة كاريكاتورية، تشبه مهرجاً، عابداً لرغبات ساسة ودول وجماعة، ونموذجاً مقيتاً لإنسان وشخصية عامة، ناهيك برجل دين.
كشفت لنا حياة القرضاوي أن بإمكان رجل دين أن يرفع شعار استخدام الجماعة لتمكين كلمة الله، بينما في الحقيقة يستخدم كلمة الله لتمكين الجماعة. وكشفت لنا أن ذلك ينطلي على كثير من العوام، لن يملكوا من المعرفة والتدقيق ما يجعلهم يرون التناقض. أما موته فكشف لنا ما هو أسوأ؛ أن قسماً من النخبة التي ننتظر منها أن تكشف الخدعة تروّج لها. محبطٌ هذا إن استخدمناه مؤشراً إلى حجم المشكلة الكبرى التي تواجهها مجتمعاتنا.
والإحباط مبعثه أن الكشف يضعنا أمام احتمالين؛ أولهما يبطئ الأمل، وثانيهما يربطه في سلسلة إلى صخرة. الاحتمال الأول أن هؤلاء لا يستحقون المكانة التي ألصقوا أنفسهم بها. كلاعب شطرنج يسمي نفسه ماستر رغم أنه لا يقرأ أبسط حيل اللعبة، ولا يفهم قواعدها وجملها التكتيكية. للقرضاوي فتاوى تبدو كأنها تفتح باباً للتحديث، لكن غرضها النهائي فتح ثغرة تمكين للجماعة ليس إلا. ولو وضعت فتاواه في جدول زمني مع الأغراض السياسية للجهات التي ارتبط بها لفهمت بالضبط دوافعها. بل إن القرضاوي لم يقصر أبداً في الإفصاح عن هذه الأغراض النهائية. فكان - سياسياً - منظّر العثمانية الجديدة بلا منازع، الداعي إليها مهما كان الثمن.
هذا ينقلنا إلى الاحتمال الثاني، الأقرب إلى الواقع، أن هؤلاء فرخ الماكينة نفسها، ولاعبون في مراكز مختلفة من الفريق الذي يديره القرضاوي فنياً. بداية من النصف الثاني من التسعينات امتلك القرضاوي تحت يده ميزانية مفتوحة، دخل بها مجالي الثقافة والقطاع المصرفي، على نطاق عالمي. بها دُشِّنت مشاريع صحافية وسينمائية وأدبية، لتغزو الجماعة عبر تنظيمها الدولي مناطق كانت سابقاً بعيدة عنها. لم تكن الأموال القوة الدافعة الوحيدة، بل واكبتها الفتاوى الشرعية الشبيهة بمنطق الفتاوى السياسية نفسه. وهي الفتاوى التي تقدم إلينا على أنها «تحديث». آلة التفريخ تلك أمسكت بمفاصل صِناعتَي الإعلام والثقافة كمجالين يخدمان تمكين الجماعة بمد نفوذها إلى الطبقة الوسطى في الدول الناطقة بالعربية، وإلى الجاليات المسلمة في الغرب والشرق، بالإضافة إلى غرض آخر ضروري للتحالف الجديد، بتركيبته الجديدة، وهو توفير بديل يجذب يتامى موسكو بعد تفسخ الكتلة الشرقية، ويتامى القوميين بعد عزل عراق صدام حسين إثر غزوه الكويت.
على مدار المأساة التي تسبب فيها الإسلامجية لمجتمعاتنا كان لكل وجه بارز منهم ما ينتقد عليه. بداية من حسن البنا مروراً بسيد قطب وصولاً إلى الكتّاب المعاصرين. دموية هذا الكاتب، أو خبث ذاك وسعيه إلى الوقيعة الطائفية بطرق ملتوية. تعميق هذا للحقد تحت ستار الحق، وتحريض ذلك على اغتيال المفكرين، أو تطويع ذاك للحرف في خدمة مشاريع ثورة إيران. كل جانب من تلك الانتقادات كفيل باعتبار صاحبه خطراً داهماً على المجتمع، وعلى تطور أفكاره وسلامة مفكريه وانفتاح اقتصاده وقوة علاقاته الاستراتيجية، ما يستوجب أن تتصدى له النخبة بالكشف. كل انتقاد من هذا كان سابقاً كفيلاً بمعارك فكرية خاضها يوسف إدريس وزكي نجيب محمود وغالي شكري وفرج فودة وغيرهم، منبهين ومحذرين. يوسف القرضاوي استطاع أن ينفرد بجمع مثالب أسلافه في شخص واحد. وانفرد أيضاً بأن «فراخه» المتسللين إلى النخبة يشيعون أنه مجدد ويتكفلون بمنتقديه. فتجد موقعاً إعلامياً يفتح له دفتر عزاء، وتجد «دعاة ديمقراطية» يثنون على إرثه، وبعضهم يتوارى خلف مقولة «اذكروا محاسن موتاكم»، كأننا في عزاء جار في الحي أو زميل في العمل. فانتبهوا أيها السيدات والسادة.