حسن منيمنة:
لا يمكن التقليل من الجسامة التاريخية لما جرى في الكنيسة الكاثوليكية قبل نصف قرن ونيف. فخلال المجمع الڤاتيكاني الثاني، المنعقد على مدى الأعوام الأولى من عقد الستينيات، أقدمت الكنيسة الكاثوليكية على تبديل عميق في عقيدتها الإيمانية.
طبعاً هو إصلاح من وجهة نظر من اجتهد لإعادة النظر بكافة أوجه العقيدة والطقوس، التي كانت الكنيسة قد أرستها واعتمدتها على مدى قرونها الطويلة. لا بل من شأن من أراد التوفيق بين ما كان وبين ما استُحدث أن يؤكد بأن الإشهار الجديد للمقومات الإيمانية هو أكثر انسجاماً مع جوهر الرسالة المسيحية القائمة على المحبة.
اليهود ليسوا قتلة المسيح، بل هي الإرادة الإلهية التي اختارت أن يتجسد اللاهوت في وسطهم ليكون يسوع، الاقنوم الابن من الإله الواحد، فادياً للبشرية جمعاء. والمسلمون ليسوا أداة للشيطان، بل إن دينهم هو تجلٍ للبركة الإلهية. وإنسانية غير الموحدين من سائر الناس هي الغالبة، وهي القاضية في التواصل والتعامل معهم.
المجمع الڤاتيكاني الثاني أراد أن يكرّس المسيحية، بصيغتها الكاثوليكية، وهي الأوسع انتشاراً والأكثر عدداً في العالم، كمثال لمحبة الرب للإنسان. الإصلاحات لم تقف عند حد العقائد الأساسية، بل شملت كذلك الشعائر والطقوس، التي جرى تبسيطها واعتماد اللغات المحلية لها، كما أشكال التلاقي بين الكهنة ورعيتهم، والتي سعت أن تبتعد عن منطق الهيبة والترهيب، لتقترب من أسلوب التآنس والترغيب.
وهكذا كان. المفارقة هي أن إنجاح مشروع الإصلاح الأصولي العميق هذا كان ممكناً حصراً انطلاقاً من مقام البابا، أي أسقف روما ورأس الكنيسة الكاثوليكية المسكونية، العالمية والمستقيمة في إيمانها بالإسناد عن بطرس وبولس رسولي السيد المسيح، على أنه معصوم في المسائل الدينية. في الكاثوليكية، سلطة البابا الدينية هي تعبير مباشر عن الإرادة الإلهية. هذا ما استقر عليه الإيمان الكاثوليكي، وإن كان تثبيته بإحكام لم يتحقق إلا قبل قرون قليلة، بل بالشكل الكامل في القرن التاسع عشر وحسب.
فالكاثوليكية، خلافاً للپروتستانتية التي تجعل من النص الملهم إلهياً، أي الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، الأساس المطلق للدين، تعتبر بأن الكنيسة هي جسد المسيح، ورئاستها الرسولية المتصلة عبر التاريخ دون انقطاع بالإله المتجسد، هي المرجعية الدينية الفاصلة، أي التي يجري من خلالها تبين الإرادة الإلهية.
ما الدافع وراء المجمع الڤاتيكاني الثاني (فيما يتعدى ما رسمته المشيئة الإلهية للمسار الإنساني، لدى من يركن إلى الاعتبارات الروحية)؟ ربما أن الإجابة هي في أن الكاثوليكية، رغم انتشارها العالمي، هي بالإجمال الدين الأوروبي بامتياز. هي وريثة الإمبراطورية الرومانية بقدر ما هي تعبير عن بشارة يسوع الناصري. وأوروبا هذه، منذ القرن الثامن عشر، شهدت من التحولات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ما حجّم دور الكنيسة وجعلها في موقع الصدام، في أكثر من دولة ومجتمع، مع أوساط عديدة من شرائح وطبقات مختلفة. المنطق الإصلاحي كان هو القائل بأنه على الكنيسة إما أن تسعى إلى التصحيح بنفسها، بما ينسجم مع أصولها الأولى ومبادئها، لتأطير قيم «الأنوار» - أولوية الإنسان والعقل والحرية والمساواة - والتي ارتقت إلى مستوى القبول العام في هذه المجتمعات، أو أن تفقد مكانتها ودورها وأهميتها.
ليس الأمر كذلك بتاتاً بالنسبة لمن هاله هذا التبديل. كيف تتراجع الكنيسة عن مقومات إيمانية حكمت بموجبها إلى أمس قريب على من تجاوز الإيمان القويم بالهرطقة والموت والخلود في نار الجحيم، لتصبح مسائل فيها نظر، تشملها المحبة الإلهية، هذه المحبة التي كانت على مدى عمر الكنيسة حصراً من نصيب من يدخل في الإيمان قلباً وقالباً؟ لا عودة هنا، من وجهة النظر المحافظة، إلى جوهر الدين، بل خروج سافر صريح عنه، وتطويع له لينسجم مع الأهواء المستجدة. هو خطأ، بل خطيئة، بل مكيدة من أعداء الدين لتقويضه من الداخل.
المفارقة، بالنسبة للمعترضين، استحالت معضلة. إما رفض الإصلاح، والخروج بالتالي عن القبول بعصمة الكنيسة، أي الخروج عن مقتضى الإيمان الكاثوليكي، أو الرضوخ للإصلاح، بما يجلبه من بتر وتحويل لعقائد كانت مستقرّة على أنها من صلب الإيمان.
البعض خرج. تائهاً لاستحالة التوفيق بين طاعة الكنيسة ومقومات الإيمان الراسخة. أكثر المؤمنين، عن قناعة واغتباط، أو عن طاعة وقبول، تلقفوا التوجيهات البابوية، كما كانت على مدى التاريخ، على أنها الإيمان دون كيف.
اللاهوتي والأستاذ الجامعي الألماني يوسف راتسنغر كان من الذين اختاروا الطاعة، دون حماس للإصلاح، بل، ضمن نطاق اختصاصه، بعزم واضح على الدفاع عن إيمان السلف الصالح، متدرجاً في مسؤولياته التعليمية والعقدية إلى رئاسة مجمع الكرادلة في الڤاتيكان. وفي العام ٢٠٠٥، بعد وفاة البابا يوحنا بولس الثاني، الملتزم بالمنهج الإصلاحي دون التفريط بالقواعد الروحية المسيحية حتى من وجهة محافظة، رسى الخيار على يوسف راتسنغر ليصبح البابا بنديكتوس السادس عشر.
ثمانية أعوام وحسب قضاها بنديكتوس السادس عشر على الكرسي الرسولي، قبل أن يستقيل لأسباب صحية وشخصية عام ٢٠١٣. مواقفه الإيمانية ورسائله العقدية انصبت جميعها في سياق العودة إلى الإيمان القديم. ولكنها كانت خجولة. إعادته لإقامة صلاة فيها رجاء لهداية اليهود لاقت اعتراضاً على أنها تراجع عن إشهار نديّتهم الدينية. محاولته ضمن محاضرة ألقاها التمييز بين المسيحية والإسلام، على أن الأولى توافق بين العقل والنقل، فيما الإسلام يقتصر على الوحي، قوبلت باتهامات بالتهجم والقدح.
بنديكتوس، المحاضر واللاهوتي، سعى جاهداً إلى تفنيد نسبوية ما بعد الحداثة، وإلى مساءلة الإفراط في الاستهلاك، وإلى التأكيد على أن رسالة المسيحية تبقى هي الأساس الروحي الصادق الأول، بل ربما الوحيد في نهاية المطاف. ولكنه، حتى ضمن المؤسسة الكاثوليكية العالمية، بدا وكأنه يغرّد خارج السرب.
التوجه الإصلاحي كان قد تجاوز كنيسته. بل لدى العديد من الطوائف المسيحية الپروتستانية الرئيسية، السجال كان حول فتح أبواب الكهنوت للنساء والمثليين، فيما الكنيسة الكاثوليكية لم تتجاوز بعد عقبة إلزام كهنتها العزوبية. هل هو هذا الإلزام، مع الدعوة إلى انفتاح رجال الدين على الرعية ما أشعل أزمة الاعتداءات الجنسية من بعض هؤلاء على الضعفاء في رعيتهم؟ أم هل أن المسألة وحسب شفافية فاضحة لم تكن متوفرة في الماضي؟ على أي حال، ساء لبنديكتوس أمر مواجهة القضية بالشكل الوافي، فاستمر استفحالها، وطالته الإدانات.
حاول بنيدكتوس تقصي أزمة الاعتداءات هذه إلى النسبية الأخلاقية والمعنوية والروحية الطارئة على كنيسته، أي إلى إصلاحات المجمع الڤاتيكاني الثاني، صراحة حيناً وتلميحاً أحياناً. بل لحظ بنيدكتوس أن كنيسته ليست على ما يرام، ناسباً ذلك إلى التخلي عن جوهر الإيمان المسيحي.
الكنيسة الكاثوليكية لا تزال الأولى عدداً وانتشاراً في أرجاء العالم المسيحي. ولكنها تشهد تحديات وتراجع على جبهات مختلفة. أولها التسيب والخروج منها، والمستمر رغم الإصلاحات. أي أن الإصلاحات لم تمنع التخلي عن الدين، في أوساط الأوروبيين خاصة. وفي الجهة المقابلة، خارج أوروبا، يمكن تبيّن الامتعاض من المنحى الدافع بالكنيسة إلى الاعتدال والانفتاح في أوساط متدينة عديدة، وإن جاء التعبير عن ذلك بأشكال مختلفة. بعض الأوساط تعتنق الحركات الإحيائية، وهي غالباً ذات ارتباط واهٍ بالكاثوليكية، وعرضة للاستيعاب من الكنائس الإحيائية الإنجيلية. فيما أوساط أخرى تنتقل صراحة إلى المذاهب الپروتستانتية، ولا سيما منها الأصولية.
على أن التحدي الأكبر، الذي ازداد وتضخّم بعد اعتلاء البابا فرنسيس الكرسي الرسولي، فهو في الدعوة الصريحة من داخل الكهنوت الكاثوليكي إلى عودة متشددة إلى الإيمان الكاثوليكي القديم.
فإذا كان يوحنا بولس الثاني قد سار بالمنهج الإصلاحي ضمن إطار روحي سلفي، وإذا كان بنديكتوس قد سعى، وإن مرتبكاً، إلى تعزيز الإطار السلفي والتضييق على المنهج الإصلاحي، فإن البابا فرنسيس، وبوضوح وصراحة، يعمل على توسيع المنهج الإصلاحي وتطبيقه على أوسع نطاق، متجاوزاً الإطار السلفي بالكامل.
الواضح أن البابا فرنسيس، عند إتاحته لإقامة صلاة في روما لإلهة من آلهة الشعوب الأولى من القارة الأميركية، قد أراد التأكيد على أن كنيسته مدركة لدورها في قمع هذه الشعوب، بل إبادتها، وأن المسعى الروحي واحد وإن تعددت السبل. هذه اعتبارات تقدمية تروق لبعض الأوساط المنفتحة، ولكنها لدى أوساط أخرى أكثر التزاماً ما هي إلا تمييع للدين بل خروج صريح عنه.
قد يعتبر المؤيد للبابا فرنسيس، والموافق على منحى المجمع الڤاتيكاني الثاني، أن ما يجري هو مخاض التغيير وحسب، أي أن الاعتراض على أسلوب التدرج في المراحل السابقة، وأسلوب الصدمة الذي ربما يلجأ إليه فرنسيس، آني ومرحلي وحسب. غير أن الأرقام، في أماكن عدة، تشير إلى خلاف ذلك. في أميركا اللاتينية، كما في أفريقيا، وطبعاً في أوروبا، الكاثوليكية تتراجع في مواجهة اللادينية هنا أو الصيغ الدينية الأكثر حزماً، الإنجيلية والإسلامية، هنالك.
فبما أن بنديكتوس السادس عشر، على ما كان عليه من علم ودراية ونفوذ، قد عجز عن تدراك التراجع، بل ربما استقال، كما يرى بعض المحافظين، في فعل باباوي نادر كي لا يكون شاهد زور على انهيار الكنيسة، هل من سبيل متبقٍ لإنقاذ الكاثوليكية المحافظة؟ وفاته، بالنسبة للمحافظين، مناسبة أليمة. ومع رحيله، تعلو في أوساطهم الطروحات التي ترى في مسار الإصلاح أيادٍ شيطانية، بالمعنيين المجازي والحقيقي على حد سواء. هم اليوم بانتظار يوسف راتسنغر آخر، ليعتلي الكرسي الرسولي إذا شاءت الأقدار بعد البابا فرنسيس، وليكونَ أكثر شجاعة وإقداماً.
إشكالية إصلاح المجمع الڤاتيكاني الثاني هو أنه اعتبر أن الرعية سوف تسير حيث يوجهها الراعي. أي أن المصلحون الڤاتيكانيون، ومن بارك لهم ولا يزال، قد فاتتهم إحدى الأسس الأولى التي تشكلّت في عصر الأنوار. وهي أن الناس ليسوا قطيعاً يسير كما شاء الرعاة. التعليم الديني الكاثوليكي، على مر القرون، يفصّل ثلاث وظائف للمؤمنين. هم التائبون، وهم المنتصرون، وهم جنود الرب. الإصلاح سعى إلى التخفيف من وطأة مقتضى التوبة، مبخّساً تضحيات من سبق من وجهة نظر المحافظين، وإلى التقليل من أهمية الانتصار إلا بالمعنى الجامع للإنسانية، مفرّطاً بمن عوّل على هذا الانتصار، وإلى التخلي عن الجنودية إلا بالمعنى الرمزي. لا تشهد الكاثوليكية إلى اليوم اعتراضات واسعة منظمّة، وأفق المعترضين على منحى فرنسيس لا يزال ضيقاً. ولكنه ثمة ظواهر تنشأ وتتكاثر في أكثر من موقع، ولا يبدو معها أنه يمكن الركون إلى سير لـ «الرعية» حيث يريد لها الراعي.
في العالم الكاثوليكي، كما في العالم الإسلامي، السعي إلى الإصلاح الديني الفوقي، أو التصفيق لأصحاب السلطة الشاملة حين يتفوهون ببعض ما يشبهه، من شأنه أن يؤدي إلى نتائج عكسية، متوقعة وغير متوقعة. رحيل بنديكتوس قد يكون بالفعل نهاية واقعية لآمال الكاثوليكية المحافظة، بل هزيمتها. غير أن المنتصر قد لا يكون أي من أشكال الكاثوليكية، لا الإصلاحية ولا التقدمية ولا غيرها.