كيف تصنع تاريخا على مقاس الإسلام السياسي - Articles
Latest Articles

كيف تصنع تاريخا على مقاس الإسلام السياسي

كيف تصنع تاريخا على مقاس الإسلام السياسي

محمود تهامي:

 

عام 1993، تخرج المؤرخ الليبي علي محمد الصلابي في كلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة الإسلامية السعودية، متجهاً للكتابة في مجال التاريخ العربي والإسلامي، ومختاراً "الدعوة" أو بالأصح "الدعاية" لأفكار تيارات الإسلام السياسي.

ورغم اندفاعه داخل رقعة التاريخ الواسعة بحثاً عن مقاسات مناسبة لأفكاره، فإن السمة التي لازمته أثناء التعامل مع الشخصيات والحقب غير المفضلة لديه هي الانتقام والثأر الشخصي.

فقد أظهر نوعاً غريباً من العلاقة بين المؤرخ وشخصيات تاريخية مثل والي مصر محمد علي، الذي وصفه في كتابه "الدولة العثمانية" بعدد من الصفات منها مثلاً أنه "تخطى عقيدة الولاء والبراء وضربها في الصميم ليرضي أسياده الصليبيين"، و"يتولى الكفار ويصانعهم"، و"صنيعة من صنائع الغرب وعميل من عملائهم"، و"يكره مسلمي مصر ويحتقرهم ويزدريهم". وتظهر هذه الطريقة الثأرية مع عرضه لتاريخ الدولة الفاطمية، فيصفهم، مقتبساً ابن كثير، بأنهم "كانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة، وأخبثهم سريرة".

من جهة أخرى، ستتحول هذه العلاقة إلى نوع من الامتنان والولاء لشخصيات مثل صلاح الدين الأيوبي ولحقب مثل الدولة العثمانية.

تعميمات دولة التمكين

تتحول وظيفة التاريخ مع الصلابي إلى مرآة يظهر فيها المستقبل بإعادة إنتاج الماضي، ويتحكم الإله في لعبة الأحداث، لأنه سيعطي كلمة السر للمنتصرين بصورة مسبقة، وهو ما سماه الصلابي بـ"فقه النصر والتمكين" ويريد به الوصول إلى الحكم، وهو فقه أدرك فائدته كل من الخلفاء الراشدين والسلاجقة والمرابطين والعثمانيين وغيرهم.

أمام "فقه التمكين"، يشعر القراء بأنهم أمام ما يشبه تميمة الحظ، إذ سينتصر كل مَن يُنفّذ شروطها وأسبابها ومراحلها التي ذكرها بالتفصيل في كتابه "تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين"، وهي الإطار الكلي الذي تتحرك داخله تيارات الإسلام السياسي التي تتطلع إلى إقامة دولة الخلافة وإقرار شرع الله وإحياء مبدأ الجهاد والرقابة المعروفة باسم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وهو المشروع الذي أعلن عن قيامه للمرة الأولى في العصر الحديث أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم داعش، في 29 حزيران/ يونيو 2014.

والدولة الإسلامية المنشودة هي دولة يحيط بها الأعداء. ويستمر الصراع لدى الصلابي لتحقيق هذا المشروع الإسلامي مع مجموعة من الأعداء التاريخيين مثل المشركين والوثنيين ثم الشيعة "الروافض" والغرب "الصليبي"، ثم الماركسيين و"الملاحدة" حديثاً، لتظل راية الجهاد خفاقة طوال التاريخ الذي تقرأه عين الكاتب.

يحذّر المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون من التعميمات في التعامل مع التاريخ لأنها تؤدى إلى أحكام متناقضة، ويقول في كتابه "فلسفة التاريخ" إنه "يصعب جداً أن تعرف العلل الحقيقية لحوادث التاريخ حتى أكثرها وقفاً للنظر". وتأتي منهجية الصلابي وكأنها مثال على النقيض لما يوصي به لوبون، بتجاهله تفاصيل الأحداث والروايات المخالفة لوجهة نظره، والوجه الإنساني ونقاط ضعف الشخصيات، ليتمكن في النهاية من تعميم معادلة حسابية يتحقق طرفها الثاني بتحقق الأول، وهي: إقرار شرع الله يؤدي إلى انتصارات وقيام دول ونهضة، والابتعاد عن شرع يسبب الذل والسقوط والانهيار.

النهوض وأسباب السقوط

في كتابه "الدولة الأموية: عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار"، جمع الصلابي حروب ثلاثة من الخلفاء هم عبد الملك بن مروان وابنيه الوليد وسليمان، في فصل واحد، مفسراً انتصارات المسلمين تحت عنوان "بماذا انتصر المسلمون؟". يقول "إن ما حدث في عهد عبد الملك من فتوحات هي امتداد طبيعي للأسس المتينة والقواعد الراسخة لفقه النهوض الذي أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكمل بناؤه الخلفاء الراشدون، وكانت الأمة وكثير من حكامها يعيشون لأجل العقيدة والدعوة الإسلامية".

وبحسب الصلابي، في كتابه المشار إليه، "انتصر المسلمون بقيم ومقومات ومثل كثيرة تعلموها وتربّوا عليها، من القرآن الكريم وهدي الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، ومن أبرز هذه القيم والمقومات: عقيدة سليمة، عبادة صحيحة، كتاب منير، أسوة حسنة، شريعة عادلة، أخلاق حميدة، جهاد في سبيل الله، تربية صالحة مستمرة، مفهوم شامل للحياة والمجتمع، بطولة في المواقف، وصمود في وجوه العدو".

وبالمقارنة بين أسباب سقوط كل من الدولتين الفاطمية والعثمانية، نلاحظ طريقة الصلابي في خداع المتلقي، لأن سقوط الفاطمية سيكون بسبب تمسك المناوئين لها بشرع الله، أما سقوط العثمانيين فلأنهم فرطوا في شرع الله، فلماذا لم تسقط الفاطمية لتفريطها؟ ولماذا لم يكن خصوم العثمانية أكثر إيماناً فنجحوا في إسقاطها؟

وتمثل الدولة الفاطمية معضلة في معادلاته الحسابية للتاريخ، فهي دولة منحرفة وظالمة وخارجة عن الشرع برأيه، لكنها استمرت لأكثر من قرنين من الزمان في مصر، أما العثمانية فبوصفها دولة مؤمنة سقطت عند تفريطها في شرع الله.

في نحو 41 صفحة، يشرح الصلابي أسباب سقوط العثمانيين في كتابه "الدولة العثمانية: عوامل النهوض وأسباب السقوط"، وهو شرح يكاد يقتصر على تبيان معنى الابتعاد عن تحكيم الشرع: "إن أسباب سقوط الدولة العثمانية كثيرة جامعها هو الابتعاد عن تحكيم شرع الله تعالى الذي جلب للأفراد والأمة تعاسة وضنكاً في الدنيا، وإن آثار الابتعاد عن شرع الله لتبدو على الحياة في وجهتها الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية". ومستغلاً للمناسبة، يلقى باللائمة على الشعوب: "كما أن الشعوب التي تخضع للحكام الذين تباعدوا عن شرع الله تُذَل وتُهان حتى تقوم أمام مَن خالف أمر الله تطلب العون من إخوانهم في العقيدة".

وإمعاناً في الطائفية، فإن من طرائف التفصيلات التي يسردها الصلابي ضمن مظاهر الابتعاد عن الشرع هو قيام السلطان العثماني محمود الثاني برفع التمييز بين المسلمين وغير المسلمين، وهو ما عدَّه بعض الباحثين في التاريخ نوعاً من الإصلاحات. ولكن على النقيض من ذلك، يرى الصلابي أنه "عمل على مسخ عقيدة الولاء والبراء وحاول طمسها في النفوس"، واستشهد على هذه التهمة بمقولة السلطان: "إنني لا أريد ابتداء من الآن أن يميّز المسلمون إلا في المسجد، والمسيحيون إلا في الكنيسة، واليهود إلا في المعبد، إني أريد ما دام الجميع يتوجه نحوي بالتحية أن يتمتع الجميع بالمساواة في الحقوق وبحماية الأبوية".

بالعودة إلى أسباب سقوط الدولة الفاطمية، يرى الصلابي أن التمسك بالشرع من قبل خصومها أحد أسباب سقوطها، ويبحث في الأحداث التاريخية ليعزز من مقولته، فيسجل بحسب كتاب "الدولة الفاطمية" أن "رجوع الدولة العباسية إلى التمسك بالكتاب والسنّة والدعوة إليها، وكانت من أوائل بدايات الرجوع ما قام به الخليفة القادر بالله عام 408هـ حيث استتاب فقهاء المعتزلة فأظهروا الرجوع وتبرؤوا من الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وامتثل السلطان محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك، واستنّ بسنته في عقوبة المعتزلة والرافضة والإسماعيلية، وأبعد جميع أهل البدع ونفاهم عن ديارهم كما أحرق كتب الفلسفة".

جملة من الأسباب يسردها المؤلف تحت عنوان طويل: "من أسباب سقوط الدولة العبيدية (الفاطمية) واندحار المد الباطني والتغلغل النصراني الصليبي"، منها حادثة التضييق على الفلاسفة والشيعة والمعتزلة من قبل القادر بالله ومحمود الغزنوي، كعلامة على الرجوع إلى شرع الله الذي أنقذ المسلمين من حكم الفاطميين. وعلى الرغم من هذا فإن الشخصيتين السابقتين لم تشتركا في إسقاط الفاطميين، لكنها تفصيلة تلائم هوى الجماعات الإسلامية!

نفس الأسباب يحملها الصلابي ويتجه بها للتمهيد لقيام دولة المرابطين في شمال إفريقيا والأندلس، فيتحدث عن ضعف المسلمين في الأندلس مفصلاً الأسباب هكذا: "أولاً، ضعف العقيدة الإسلامية والانحراف عن المنهج الرباني وهذا هو السبب الأساسي. ثانياً موالاة النصارى والثقة بهم والتحالف معهم، حيث نجد أن تاريخ الأندلس مليء بالتحالف مع النصارى إلى أن بلغ ذروة رهيبة"، بحسب ما أورده في كتاب "تاريخ دولتي المرابطين والموحدين في الشمال الإفريقي".

تميمة الحظ في أعناق المنتصرين

في أعماقها، تدرك الشخصيات التاريخية المفضلة لديه أنها بصدد تحقيق المشروع الإسلامي لإحياء الخلافة وإقرار الشرع. جميعهم يشتركون في فهم التمكين ومراحل تنفيذه، مثل عمر بن عبد العزيز ثم نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي وعبد الله بن ياسين، الزعيم الديني لدولة المرابطين، والخلفاء الأوائل للدولة العثمانية وخاصة محمد الفاتح. يحلو له أن يتوقف عند هذه الشخصيات ليشرح للقراء كيف استوعبوا فقه التمكين، وكيف انشغلوا بتنفيذ المشروع الإسلامي.

في كتابه "الدولة الأموية"، يسرد الصلابي السمات التي دعمت نجاح عمر بن عبد العزيز، وهي: "امتلاكه لرؤية إصلاحية تجديدية واضحة المعالم، هدفها الرجوع بالدولة والأمة لمنهج الخلافة الراشدة على منهاج النبوة"، و"التفاف الأمة حول هذا المشروع"، و"الحرص على تحكيم الشرع في كل صغيرة وكبيرة"، و"وجود كوكبة من العلماء الربانيين في عهده كانوا مؤهلين لقيادة الدولة والأمة فلما جاءت الفرصة بوصول عمر بن عبد العزيز للحكم وأتاح لهم المجال، أبدعوا". هذه السمات هي نفسها التي ساعدت نور الدين زنكي في ما بعد لكونه نجح في اقتفاء أثرها.

ورغم أن أحداً من القدماء لم يضع "فقه النهوض والتمكين" ليصبح خطة عمل حركية تتبناها المنظمات الجهادية، فإن الصلابي أصر على استيعاب القادة التاريخيين له، واستخلصه في كتاب "تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين" بشكل تفصيلي عن نشر الدعوة الإسلامية، ومشاركة الحركات الإسلامية في الحكومات، أو الوصول الكامل للحكم، وسماها أنواع التمكين.

وفيه شرح شروط التمكين: الإيمان بالله وتحقيق العبادة، ومحاربة الشرك، ثم وضَّح الأسباب المعنوية ويقصد بها الإعداد الديني للأفراد، والمادية ويقصد بها التدريب وتوفير الكوادر وإعداد الخطط، وانتقل إلى مراحل التمكين وتتمثل في الدعوة والتعريف، واختيار العناصر التي تحمل الدعوة، وصولاً إلى مراحل المغالبة والظهور.

وبحسب الكتاب المشار إليه فـ"إن بشائر العودة إلى التمكين ومظاهره بدأت مع الحركات الإسلامية منذ قرنين ماضيين، وتوارثت الأجيال الحاضرة تلك التجارب التي تركت لنا معالم في فقه التمكين".

توقف مناهج البحث عن التطور

عدَّ المؤرخ المصري قاسم عبده قاسم القراءة الدينية الإسلامية للتاريخ قراءة متقدمة في زمنها مع المؤرخين المسلمين، لكنها اعتمدت على القانون الأخلاقي في قيام الدول وسقوطها، وفي النهاية لم يكن هذا منهجاً علمياً متكاملاً، وفق كتابه "تطور منهج البحث في الدراسات التاريخية".

ورغم تطور مناهج البحث، فإن الصلابي يصر على التوقف عند قانون "التمكين" الخاص بتيارات الإسلام السياسي، وهو القانون الذي يمهّد لتهيئة نفس الظروف القديمة لإعادة إنتاج الماضي، هذا القانون الذي يدفع كاتب التاريخ للمضي بصورة انتقائية للبحث عن الوقائع المناسبة لضمها تحت جملة من الشروط والأسباب ثم تقسيم مراحل الصعود إلى مراحل يسميها بالتمكين دون الاعتبار للحقيقة التاريخية، أو لكون "التاريخ يدرس الماضي الإنساني الذي هو عبارة عن تراكم غامض لحقائق غير منتظمة تبدو وكأن الصدفة تحكمها"، كما يقول عبده قاسم" في كتابه "فكرة التاريخ عند المسلمين".

وقريباً من الانتقائية، يبرز التجاهل الذي لعبه الصلابي جيداً وخاصة مع فترات زاهية وقوية في الدولة العباسية مثلاً، لكنها لا تلائم تاريخ التمكين، بوصفها عصور قوة ارتبطت بمزيد من مظاهر التسامح والتعددية وحرية الفنون، وهو ما يخالف تصورات الجماعات الإسلامية عن حركة التاريخ.

رصيف 22

Related

Share

Rating

0 ( 0 reviews)

Post a Comment

Category
Author
More Options
  • Recent
  • Popular
  • Tag
Tags