إنجي مجدي:
انشغل الرأي العام المصري خلال الأشهر الماضية بقضية "الطفل شنودة" التي تعقدت بين القوانين والخلافات الأسرية المتعلقة بالميراث.
الطفل الذي عثر عليه داخل كنيسة عندما كان عمره لا يتجاوز بضعة أيام، بحسب رواية أبويه بالتبني، كان موضع نزاع قضائي بعد أن أبلغت إحدى قريبات العائلة السلطات المصرية بأن السيدة آمال ميخائيل وزوجها فاروق زورا شهادة ميلاد لنسب الطفل لهما بينما هما ليسا أبويه الحقيقيين.
بدورها نزعت وزارة التضامن الاجتماعي الطفل من أسرته وتم إيداعه إحدى دور الأيتام التابعة للدولة، ثم استخراج شهادة ميلاد جديدة جرى بموجبها تغيير اسمه وديانته، ومنذ ذلك الحين شهدت القضية تطورات واسعة وتواصل الزخم الإعلامي.
القضية التي حسمتها أخيراً فتوى صادرة عن مركز الأزهر العالمي للفتوى وأكدتها فتوى أخرى من دار الإفتاء المصرية بإعادة الطفل للأسرة التي عثرت عليه، تطرح عديداً من الأسئلة في شأن احتكام المسيحيين إلى الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بشؤون الأحوال الشخصية بموجب المادة الثالثة من الدستور المصري لعام 2014.
وفي حين تسمح الشريعة الإسلامية بالكفالة فإنها تحرم التبني، وهو ما يتعارض مع المسيحية التي تسمح بالتبني، ما يقودنا لطرح السؤال في شأن قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين، الذي فات على بدء عملية صياغته أكثر من تسع سنوات من دون أن يرى النور حتى كتابة هذه السطور.
منذ عام 2014، بدأت الكنائس المصرية الثلاث (الأرثوذكسية والإنجيلية والكاثوليكية) في عملية إعداد وصياغة قانون موحد يحتكم له المسيحيون لتنظيم أمور مثل الزواج والطلاق والمواريث والتبني، التي كان المسيحيون يخضعون فيها للشريعة الإسلامية بموجب القانون المصري للأحوال الشخصية.
تم تقديم النسخة الأولى من مشروع القانون لوزارة العدالة الانتقالية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014، للاطلاع وإبداء الملاحظات عليه، ومنذ ذلك الحين ظل مشروع القانون حائراً ذهاباً وإياباً بين لجنة الكنيسة ووزارة العدل التي اعترضت على عديد من البنود الرئيسة.
سيادة الإطار الديني الحاكم
خلال عملية صياغة مشروع القانون كانت هناك نقاط خلافية بين الكنائس وبعضها، تعلقت بشكل رئيس بـ"الطلاق" وهو ما جرى التغلب عليها عن طريق تخصيص بنود للطوائف المختلفة، بحسب ما أفادت مصادر كنسية لـ"اندبندنت عربية".
ومن جانب الدولة، ظل هناك خلاف عالق في ما يخص التبني والمواريث، فنص الدستور على حق المسيحيين المصريين الاحتكام لشرائعهم لا يعني تجاوز ذلك الإطار الديني الحاكم لقوانين الدولة، إذ ينص الدستور المصري في المادة الثانية على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع، وهو ما وضع الكنائس في موقف يتعارض مع الدولة في ما يتعلق باثنين من الأمور المهمة للمسيحيين التي سعى القانون إلى معالجتها، وهما قضية المواريث، حيث تنص العقيدة المسيحية على المساواة بين الذكر والأنثى، وقضية التبني.
بحسب مصدر كنسي، تحدث شريطة عدم ذكر اسمه، فإن "ضغوطاً بشكل غير رسمي وقعت على اللجنة المشكلة من ممثلي الكنائس الثلاث في شأن القضيتين، إذ لا تقبل الشريعة الإسلامية التبني وتخشى اختلاط الأنساب لذا جرى إلغاء الباب المتعلق بالتبني من قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين، بخاصة أنه كانت هناك مخاوف من رفض البرلمان لمشروع القانون بسبب هذا الأمر".
وأضاف المصدر "تنص الشريعة أيضاً أن للذكر ضعف نصيب الأنثى في المواريث، وهو ما كان موضوع نقاش وخلاف مع الدولة أيضاً، لكن الكنائس رفضت فرضه على المسيحيين باعتباره مخالفاً لشريعتهم، وأخيراً جرى تمريره في مشروع القانون".
كفالة وليس تبنياً
عندما أمرت نيابة شمال القاهرة الكلية بتسليم الطفل شنودة موقتاً إلى السيدة آمال التي عثرت عليه كعائل مؤتمن، لم تقر تبني السيدة له بل كلفتها باستكمال إجراءات "كفالة" الطفل وفقاً لنظام "الأسر البديلة"، كما كلفت خط نجدة الطفل بالمجلس القومي للأمومة والطفولة باتخاذ الإجراءات القانونية نحو إعادة تسمية الطفل باسم رباعي اعتباري مسيحي لأب وأم اعتباريين مسيحيين.
وينص نظام الأسرة البديلة على أن الأطفال المحرومين من الرعاية الأسرية، خصوصاً الأطفال مجهولي النسب يتم تعيينهم في أسر مختارة وفقاً لشروط ومعايير تؤكد كفاءة الأسرة وسلامة أغراضها لرعاية هؤلاء الأطفال من دون استغلالهم لمصالحها الخاصة"، ومن بين الشروط أن تكون الأسرة من نفس ديانة الطفل.
وفي ما يتعلق بالميراث، فإن الطفل المكفول، لا يرث كالطفل معلوم النسب، لكن يسمح للأبوين بمنحه هبة مالية أو عينية، ويحصل على الاسم الأول لرب الأسرة التي تتولى كفالته أو لقب العائلة، لكن لا يمنح اسم الأب ولقب العائلة معاً.
مشروع قانون الرعاية البديلة
ممثل الكنيسة الكاثوليكية في لجنة صياغة مشروع القانون المستشار جميل حليم أكد عدم تضمين "التبني" في النسخة النهائية من مشروع القانون التي قدمتها اللجنة لوزارة العدل أواخر العام الماضي.
وأوضح حليم، في تصريح خاص، "قانوناً لا يمكن التصريح بالتبني لعدم اختلاط الأنساب، وزارة التضامن الاجتماعي تقدمت بمشروع قانون الرعاية البديلة وهو قانون عام يشمل جميع المصريين ويسمح للأسر برعاية الأطفال مجهولي النسب ويحدد القانون شروطاً ينبغي توافرها في الأسر المستضيفة".
وفي ما يتعلق بمشروع قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين، قال "انتهينا من جلسات النقاش حول مشروع القانون منذ أربعة أشهر وسلمناه بالفعل لوزارة العدل، ننتظر إرساله إلى مجلس الوزراء ثم إلى مجلسي النواب والشيوخ".
وتجري الحكومة منذ العام الماضي جلسات حوار مجتمعي في ما يتعلق بمشروع قانون الرعاية البديلة الذي يلخص التدخلات الوقائية لدعم الأسر الطبيعية والعمل على حل مشكلاتها لمنع خطر الانفصال، ثم التدخلات الرعائية والحمائية للأطفال فاقدي الرعاية الأسرية من خلال الرعاية البديلة شبه الأسرية والمؤسسية.
غياب الحوار المجتمعي
يرفض ممثلو الكنائس المصرية الثلاث والحكومة الكشف عن بنود مشروع القانون، الذي لا يزال غامضاً في كثير من جوانبه، ولم يتم إجراء حوار مجتمعي في شأنه، رغم أنه يمس حياة ملايين من المواطنين المصريين، كما يتم التكتم في شأن ما دار في المناقشات بين الكنائس وممثلي الدولة حول مشروع القانون، لا سيما أن هذه المناقشات جارية منذ عام 2014 تم خلالها تقديم أكثر من نسخة من مشروع القانون تحمل كلا تعديلات مختلفة للتوصل إلى صيغة توافقية مع وزارة العدل. فعلى سبيل المثال، حملت نسخة مشروع قانون الأحوال الشخصية المقترحة لسنة 2020 باباً للتبني، وهو ما تم حذفه بالكامل في النسخة الجديدة لعام 2021.
وعلق الكاتب والباحث القبطي كمال زاخر قائلاً "قبل سن القانون أو مناقشته برلمانياً يجب عرضه في جلسات استماع عامة، وهذا مبدأ متفق عليه بجميع برلمانات العالم"، مشيراً إلى أن هذا القانون يتعلق بقاعدة عريضة من الناس ويرتبط بمستقبلهم وأسرهم "لا يزال الوضع غامضاً، أخشى أن نفاجأ بقانون قد يضعنا في دوامة جديدة معقدة".
وبينما تبدو حالة تلكؤ في شأن صدور القانون الذي لا يزال ورقاً في أدراج وزارة العدل، يعتقد عضو البرلمان المصري السابق وأستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة عماد جاد، أن القانون حبيس الإدراج بسبب الخلاف في شأن عدد من النقاط، سواء على مستوى الكنائس أو بين الكنائس والدولة.
وأضاف "الأمر يحتاج إلى قرار سياسي ورغبة سياسية، التشريعات لدينا عادة يتم إصدارها إما من المجلس أو الحكومة، وغالباً ما تأتي من الحكومة، فالمجلس أحياناً ما يفشل حتى في إضافة فصلة في القوانين التي تقدمها الحكومة".
وأشار إلى مثال سابق عند مناقشة قانون بناء الكنائس الذي ينص على أن المحافظ إذا لم يرد خلال أربعة أشهر على طلب بناء كنيسة فإنه الطلب يعتبر موافقاً عليه "لكن بعد الرجوع إلى الجهات المعنية".
وأوضح جاد "عندما طلبت تحديد هذه الجهات المعنية التي تشير بالأساس إلى الجهات الأمنية مما يعيدنا لمشكلة ربط الكنيسة بالأمن، لم يتم الإصغاء، وفي النهاية أجريت عملية التصويت وتم تمرير القانون، إذا كانت هناك توجيهات بعدم تمرير قانون ما فإن الفصيل الأكبر داخل المجلس يصوت ضده، أي قانون في النهاية يحتاج إلى إرادة سياسية لتمريره".