سنا الشامي:
يطلق اسم "المسجد الأقصى" كما يقول مجير الدين الحنبلي في كتاب "الأنس الجليل" على المسجد الموجود في القبلة وكل ما دار عليه السور (رويترز)
لا يكاد المسجد الأقصى يخرج من دائرة مركز الحدث على شاشات التلفزة والمواقع الإخبارية إلا ليعود إليها بزخم أكبر ومواجهات أوسع بين الجيش الإسرائيلي والفلسطينيين أثناء تأديتهم الصلاة في حرمه.
فما تاريخ المسجد الأقصى، ومن بناه، وهل يقوم فعلاً على هيكل سليمان، وما حجة الإسرائيليين ومرجعهم التاريخي في ذلك وهل يوافقهم علم الآثار في ادعائهم الحق فيه، وكيف تعاملوا مع هذا المكان منذ احتلالهم لفلسطين، وما مشاريعهم الخاصة به وموقعه من المفاوضات والاتفاقات السياسية على مدى سنوات؟
تاريخ المسجد الأقصى
يطلق اسم "المسجد الأقصى" كما يقول مجير الدين الحنبلي في كتاب "الأنس الجليل" على المسجد الموجود في القبلة وكل ما دار عليه السور فإن هذا البناء الموجود في صدر المسجد وغيره من قبة الصخرة والأروقة وغيرها.
وذكر محمد كرد علي مقاسات المسجد الأقصى في عام 1925 كالتالي، طول الجهة الغربية 490 متراً والشرقية 474 متراً والشمالية 321 متراً والجنوبية 283 متراً، ويحيط به سور يختلف ارتفاعه بين 30 و40 متراً. وذكر الدباغ في كتابه "القدس"، أن الحرم القدسي يتألف من المسجدين، مسجد قبه الصخرة والمسجد الموجود في القبلة وما بينهما حتى الأسوار، مع مسافة كلية تبلغ 140,900 متر مربع.
يقال إن المسجد الاقصى بني كمسجد بسيط من خشب بداية في عهد عمر بن الخطاب ثم وسعه معاوية ليسع ثلاثة آلاف مصل، ثم بناه عبدالملك بن مروان بناء عظيماً وأكمل البناء ابنه الوليد وأنفق على المسجد وقبه الصخرة ملايين الدنانير الذهبية، لكن هناك مراجع تاريخية تقول إن الذي بدأ بناء قبة الصخرة والمسجد الأقصى هو عبدالملك بن مروان والذي وسع البناء ووضعه في أجمل صوره هو ابنه الوليد بن عبدالملك. وذكر ذلك عدد كبير من المؤرخين منهم اليعقوبي في تاريخه وسبط ابن الجوزي في كتابه "مرآة الزمان"، وابن كثير في "البداية والنهاية"، ومجير الدين الحنبلي، والإمام ابن تيمية. وذكر محمد كرد علي في كتابه "خطط الشام" أن كتابة على المدخل الجنوبي لقبه الصخرة تؤكد أن عبدالملك بن مروان هو الذي بنى القبة على الصخرة ونص ما هو مكتوب "بنى هذه القبة الملك... أمير المؤمنين في سنة 72 تقبل الله منه".
التاريخ وفق الرواية الإسرائيلية
لليهود رواية أخرى تقول إن المسجد الأقصى وبخاصة مكان قبة الصخرة هو المكان الأصلي لهيكل سليمان، وتتحدث الرواية التاريخية عن هذا الهيكل قائلة، إن "صاحب فكرة بناء الهيكل هو داود النبي والملك ولما منعه الله من بناء الهيكل لأنه كان رجل حروب وأنبأه أن ابنه سليمان هو الذي سيبني الهيكل، ففرح وجمع وجهز كل ما يلزم لبناء الهيكل من ذهب وفضة ونحاس وخشب وحجارة وغير ذلك، واستغرق البناء أكثر من سبع سنوات وكان تحفة فنية، ولكن هدمه نبوخذ نصر ملك بابل نحو سنة 587 قبل الميلاد، بعد ذلك سمح قورش ملك فارس ببنائه نحو سنه 537 قبل الميلاد، فقام زربابل ومن معه من اليهود بترميم وتجديد الهيكل حتى أعاده إلى رونقه الأول، وفي سنة 20 قبل الميلاد بدأ هيرودوس ملك اليهودية في ترميم الهيكل وتوسيعه وبنى حوله أروقة كثيرة وحجرات كمبان للخدمات. وظل هيكل هيرودوس قائماً حتى هدمه تيطس الروماني وجيشه سنة 70 ميلادية".
ويقول بعض الأثريين، إن قبائل الإسرائيليين البدو التي كانت تنتقل من السهول والصحاري في الشرق الأوسط لم تبن معابد، فقد كانوا يحملون معهم قطعهم المقدسة في تابوت ينصب في خيمة المراسم حين يخيمون، لذلك فعدم وجود أي آثار أركيولوجية للمعابد في قرى بني إسرائيل الأصليين يعود إلى أنهم حتى وهم يعيشون مستقرين، فإنهم يحملون معهم نمط الحياة البدوي، فمركزهم الديني ظل هو "خيمة الاجتماع" (الذي يدعى أحياناً مسكن يهوه).
وقيل، إن بني إسرائيل الأصليين لم يكونوا بحاجة إلى هيكل ولا إلى صور للإله، وذلك لأنهم لم يتصوروه في هيئة بشرية.
معتقدات دينية وحقائق أثرية
وأعلن بن غوريون بعد قيام دولة إسرائيل أنه لا معنى لإسرائيل من دون أورشليم ولا معنى لأورشليم من دون الهيكل، فقد نال علم الآثار المبني على الكتاب المقدس أولوية عليا فأسست وزارة للآثار في يوليو (تموز) 1948، ووجدت أيضاً جمعية الاستكشافات الإسرائيلية التي نسقت ومولت تنقيبات أثرية ومؤتمرات، إذ أصبح علم الآثار حركة شعبية، واندفع إلى أعمال التنقيب متطوعون متحمسون من تلامذة مدارس إلى جنود ومتقاعدين إلى طلاب أجانب.
ويقول باحث التاريخ السويدي هانس فروهاغن في كتابه "فلسطين والشرق الأوسط بين الكتاب المقدس وعلم الآثار"، إن "وصف الكتاب المقدس هو الوثيقة الوحيدة التي لدينا عن هيكل سليمان، فالمبنى لا وجود له في حوليات الآشوريين أو البابليين، ولا وجود له في النقوش التي عثر عليها في أنحاء مختلفة من الأرض المقدسة، كما لا توجد أي مكتشفات أثرية تشير إلى أن هيكلاً كبيراً قد وجد في أورشليم خلال القرن الـ10 قبل الميلاد".
أما أستاذ الآثار في جامعة تل أبيب أوسشكين فيقول "من منظور علم الآثار ليس هناك ما يمكن معرفته عن جبل الهيكل في القرنين العاشر والتاسع ق.م".
وفي كتابه "الماضي الخرافي (التوراة والتاريخ)"، يدحض توماس طومسون مفهوم بناء الهيكل السليماني، بوصفه "مركزاً لعبادة يهوه" قائلاً إن "تلك الصور لا مكان لها في أوصاف الماضي التاريخي الحقيقي، إننا نعرفها فقط كقصة وما نعرفه حول هذه القصص لا يشجعنا على معاملتها كما لو أنها تاريخية، إن قصة بناء الهيكل السليماني غير قابلة للتصديق، وإنها مجرد اختلاق توراتي، وهذا يدحض الفكرة القائلة إن المسجد الأقصى كان الاسم القرآني للهيكل اليهودي في إسرائيل القديمة".
إجراءات طمس الهوية
في حرب يونيو (حزيران) 1967 احتل اليهود القدس الشرقية والجزء القديم من القدس وهدموا حي المغاربة الملاصق للحائط الغربي للسور المعروف لدى المسلمين بسور البراق، إذ إن الرسول "محمد" ربط البراق فيه عند دخوله أرض المسجد الأقصى في ليلة الإسراء والمعراج، وهو ما يدعي اليهود أنه من بقايا الهيكل الثاني، ولذا ينوحون عنده ويسمونه حائط المبكى. وقد هدم اليهود حي المغاربة عشية دخولهم القدس في الخامس من يونيو 1967 بعد إنذار السكان بمغادرته خلال ساعتين فطردوهم منه وهدموه فيه 135 داراً وطردوا 1000 شخص تقريباً خلال ساعتين.
وبعد الهدم، بنوا في الحي عديداً من المساكن والمدارس الدينية بالقرب من المسجد الأقصى مثل مدارس "تورات حييم" و"عطرات كوهانيم" و"تورات ليوشنه" وجمعية "أمناء جبل الهيكل"، وقد صادرت إسرائيل 56 ألف دونم من أصل 63 ألف دونم هي كل مساحة القدس الشرقية بحسب الحدود البلدية للمدينة.
وقد ازداد عدد اليهود في القدس الشرقية من صفر قبل حرب يونيو (حزيران) 1967 إلى أكثر من 160 ألفاً في عام 1993، إذ استولت إسرائيل على عديد من المناطق في القدس الشرقية وأقامت عديد من الأحياء اليهودية، كما أعلنت آنذاك مشروع "القدس الكبرى" للسيطرة الكاملة على المدينة، فهدمت وطمست الطابع الحقيقي والعربي للمدينة، وعملت على تهويدها عبر بناء معالم جديدة ترفيهية ودينية وعسكرية وخدمية لتزيد ترسيخها ووجودها داخل المدينة، كما استمرت في هدم الأحياء العربية وتهجير أهلها.
وقد عدل هذا المشروع مرات عدة منذ عام 1967 إلى اليوم، وخرجت حدوده عن مدينة القدس لتمتد خارجها، فزادت المستوطنات إذ بنيت نحو 18 مستعمرة شكلت الحزام الاستيطاني الثاني حول القدس، وكثفت الحواجز ورفعت أبراج المراقبة، وأغلقت المؤسسات الفلسطينية.
قرارات ومفاوضات دولية
وفي يوم 21 أغسطس (آب) 1969 قطعت سلطات الاحتلال المياه عن منطقة المسجد الأقصى، ومنعت المواطنين العرب من الاقتراب من ساحات المسجد، في الوقت الذي حاول فيه أحد المتطرفين إحراق الجامع القبلي في المسجد الأقصى.
وكادت النيران تأتي على قبة الجامع لولا أن أهل المدينة المسلمين والمسيحيين اندفعوا في عمليات الإطفاء التي تمت على رغم عن السلطات الإسرائيلية، ولكن بعد أن أتى الحريق على منبر صلاح الدين واشتعلت النيران في سطح الجامع الجنوبي وسقف ثلاثة أروقة من الناحية الشرقية.
واستنكرت معظم دول العالم آنذاك هذا الحريق، فاجتمع مجلس الأمن وأصدر قراره رقم 271 لسنة 1969 بأغلبية 11 صوتاً وامتناع أربع دول عن التصويت، من بينها الولايات المتحدة، فأدان إسرائيل ودعاها إلى إلغاء كل التدابير التي من شأنها تغيير وضع القدس، كما عم الغضب الدول العربية والإسلامية، واجتمع قادة هذه الدول في الرباط يوم 25 سبتمبر (أيلول) 1969 وقرروا إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي التي ضمت في حينها 30 دولة عربية وإسلامية، وأنشأت "صندوق القدس" في عام 1976.
تتالت بعدها القرارات الخاصة بالقدس والمسجد الأقصى تحديداً كإجراءات تهدئة جراء الممارسات الإسرائيلية ضد المدينة وأهلها ومقدساتها، إلى يوم 28 سبتمبر من عام 2000 عندما دخل رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون إلى "الأقصى" تحت حراسة أمنية، ما دفع مجلس الأمن لإصدار القرار رقم 1322، دعا فيه المجلس إلى اتخاذ جميع الخطوات اللازمة لوقف العنف، وإلى تجنب أي أعمال استفزازية جديدة وإلى إعادة الأوضاع إلى طبيعتها بشكل يعزز إقامة عملية السلام في الشرق الأوسط.
إن هذا الاقتحام لشارون كان الشرارة لاندلاع انتفاضة فلسطين الثانية، التي دامت خمس سنوات وانتهت بهدنة بعد مفاوضات شرم الشيخ بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي شارون.
قبل هذه الحادثة بفترة، كانت مفاوضات كامب ديفيد في عام 2000 تجري على قدم وساق بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود براك برعاية أميركية في زمن الرئيس الأسبق بيل كلينتون، إذ كانت الضغوط كثيرة وقوية على الرئيس عرفات حول ملف القدس ومسألة السيادة على الأماكن المقدسة.
وكانت هذه المفاوضات بدأت منذ عام 1993، وعلى رغم محاولات إسرائيل المماطلة في تحديد وضع مدينة القدس والأماكن المقدسة كالمسجد الأقصى، فإنها اضطرت في اتفاق أوسلو في ذات العام لجعل وضع القدس مطروحاً للتفاوض وهذا مما اعتبره المفاوض الفلسطيني خطوة جيدة آنذاك.
تحت الأرض
هذا كله فوق الأرض، أما تحت الأرض فتلك حكاية أخرى، حيث يقول الباحث نظمي الجعبة في كتيب له، "بدأت دائرة الآثار الإسرائيلية بعد حرب 1967 بالتعاون مع الجامعات الإسرائيلية بإطلاق سلسلة من مشاريع المسوحات والحفريات في المدينة خاصة في البلدة القدمية منها، بهدف البحث عن بقايا التاريخ التوراتي، والمثال الأبرز على هذه المشاريع هو مشروع التنقيب في حارة المغاربة والمناطق المحيطة بها وحارة اليهود، وطبعاً سلوان وتلة الضهور (أوفل)، وسلسلة التنقيبات في الأنفاق المائية تحت مسطح المسجد الأقصى وفي المنطقة المحيطة به نزولاً إلى وادي حلوة في سلوان، الذي استمر منذ عام 1967 حتى اليوم".
تركزت الحفريات الإسرائيلية في كل الجهات المحيطة بالمسجد الأقصى، وجرت فيها عشرات الحفريات، بخاصة في الجهتين الجنوبية والغربية، منها ما هو ظاهر ومنها ما هو خفي تحت المباني المنتشرة على امتداد الجدار الغربي للمسجد، وحتى تحته في بعض الأحيان. وشملت هذه الحفريات الساحة الواسعة التي تم تشكيلها نتيجة تدمير حارة المغاربة في يونيو 1967. لم يكن هدف هذه الحفريات كتابة تاريخ القدس ولا الكشف عن الآثار المثيرة التي قد تظهر فيها، بل كان -ولا يزال- الهدف المعلن هو الكشف عن بقايا الهيكل الأول والثاني، بالتالي لم يكن أي شيء يثير الحفر في هذه المنطقة لا علاقة له بالهيكل، وكان التجريف في الفترات الأولى، بخاصة منذ عام 1967 وحتى منتصف الثمانينيات هو سيد الموقف الذي لا ينازع. ويذكر أن أهم ما كشفت عنه حفريات هذه المنطقة، بخاصة في المنطقة التي تقع بالقرب من الزاوية الجنوبية الغربية للمسجد، هو دار الإمارة الأموية التي تتشكل من ثمانية أبنية ضخمة.
إن أخطر الحفريات التي تتم في هذا المحور تقع على امتداد الجدار الغربي للمسجد والتي لا نعرف عنها شيئاً، حيث تم الحفاظ على سريتها، ويمكن الاستدلال عليها من خلال أصوات الحفر فقط.
لقد تم تحويل المنطقة المذكورة إلى حديقة للآثار سميت حديقة "ديفيدسون" التي تعرض عبر الصوت والصورة قصة الهيكلين الأول والثاني وتثبت بشكل لا لبس فيه، ليس فقط المصطلحات التي أسقطتها على تاريخ المدينة، بل إنه لا أحد قد سكن المدينة غير اليهود، ولا حق لأحد غيرهم فيها. كل ذلك ممزوج، طبعاً، بنصوص مختارة من العهد القديم لزيادة القدسية. وتقوم جمعية "إلعاد" الاستيطانية بإدارة الموقع، وهو أمر يثير علماء الآثار حتى من الإسرائيليين الذين يدركون حساسية الموقع من جهة وطبيعة الرواية المتطرفة التي تقدم للزائرين، تلك الرواية التي انهارت غالبية مكوناتها في الأوساط العلمية، وذلك بالاعتماد على المكتشفات الأثرية".